اقتصرت ردود فعل النظام السوري على “الاستنكار” في بيان “باهت” صادر عن سفارته في بيروت، عقب الاعتداءات التي تعرض لها بعض اللاجئين السوريين في لبنان، بعد مقتل المسؤول في حزب القوات اللبنانية باسكال سليمان، الأسبوع الماضي، وأنباء عن تورّط “عصابة” سورية بمقتله.
ومع بلوغ الترقب والخوف ذروته بين أوساط اللاجئين السوريين في لبنان، مع إعطاء بعض اللبنانيين الغاضبين مهلة للاجئين للمغادرة، خاصة في المناطق التي شهدت اعتداءات على اللاجئين، وبدلًا من التدخل لاحتواء الموقف، حاول النظام انتهاز الموقف لينتقد ما وصفه بـ”تسييس ملف اللاجئين”، من الدول المانحة وبعض المنظمات الدولية المعنية بملف اللاجئين، معتبرًا أن تعاطيها في هذا الملف يعيق إعادة السوريين إلى بلادهم.
البيان الذي لم يُشر فيه النظام إلى أي تحرك حقيقي منه لحماية “رعاياه” في دولة تربطه بحكومتها وأطراف سياسية فيها علاقة وطيدة، أكد حقيقة موقف النظام، وكشف عن وجود مصلحة له في عدم استقرار ملفات اللجوء السوري في البلدان المجاورة، خاصة أن جهات عديدة كانت قد لوحت بأصابع الاتهام للنظام السوري و”حزب الله”، مثل الائتلاف وهيئة التفاوض السورية.
وقال بدر جاموس، رئيس هيئة التفاوض، عبر حسابه على منصة “إكس”: “المجرم صاحب المصلحة بالاغتيال معروف، وهو الذي عمل منذ سنوات وما زال يعمل على زرع الفتنة والعداء بين السوريين واللبنانيين، ويسعى لزعزعة استقرار لبنان وأمنه وسلمه الوطني”، في إشارة إلى “حزب الله” والنظام السوري.
وقبل الحادثة الأخيرة، كانت الاتهامات تساق للنظام السوري أو لشخصيات على ارتباط به بالوقوف وراء بعض حملات التحريض على اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا وغيرها.
تجاهل
الكاتب والمحلل السياسي درويش خليفة، يؤكّد لـ”نون بوست” أن النظام السوري تجاهل كل الانتهاكات بحقّ السوريين في لبنان رغم وجود سفارة له هناك، مضيفًا لـ”نون بوست”: “لم نرَ أي تحرك تجاه هؤلاء اللاجئين المضطهدين، والذين باتوا سلعة للاستهلاك السياسي، وتحميلهم كل فشل القادة السياسيين في بلد تتقاذفه المصالح والاتجاهات الإقليمية، خاصة في ظل توسع “حزب الله” المدعوم إيرانيًّا على حساب باقي القوى السياسية الأخرى”.
والسؤال الذي تلزمه الإجابة، هو لماذا لا يحرك النظام ساكنًا إزاء ما يتعرض له السوريون من انتهاكات في لبنان، رغم أن علاقاته الوثيقة مع بعض الأحزاب اللبنانية تساعده على التدخل؟ وهل يريد النظام فعلًا إعادة اللاجئين كما يصرّح في العلن، أم أن مصلحته لا تقتضي ذلك؟
يجيب خليفة: “النظام لن يدافع عنهم حتمًا لأنه هو المسؤول عن تهجير ملايين السوريين، وهو لا يرى فيهم إلا مكسبًا اقتصاديًّا، وليس أدلَّ على ذلك من إلزام كل سوري مغترب بتصريف مبلغ يعادل 100 دولار أمريكي لدى وصوله الأراضي السورية”، وأضاف: “من هنا نستخلص أن هذا النظام على استعداد لفعل أي شيء لتهجير السوريين”.
وبالعودة إلى ما يجري في لبنان، يقول خليفة: “نلاحظ من خلال متابعتنا أنه عندما يتم الضغط على النظام بشأن اللاجئين في لبنان، يقوم بشار الأسد بمطالبة السلطات في بيروت بالودائع السورية في المصارف اللبنانية، والتي تقدَّر بنحو 40 مليار دولار، علمًا أن هذه الودائع هي حق للسوريين الأفراد وليست للنظام وأركان حكمه”.
إغراق لبنان باللاجئين
يذهب الصحفي محمد الشيخ من لبنان، إلى اعتبار أن “النظام السوري أسهم في إغراق لبنان باللاجئين، بعد استعادة جزء كبير من الأراضي لصالحه، عبر تشريع الحدود وإطلاق العنان وتسهيل ذلك عبر ميليشياته عند الحدود”.
الهدف من ذلك، وفق حديثه لـ”نون بوست”، تحويل لبنان إلى دولة عبور نحو أوروبا للضغط على الحكومات الغربية من أجل تحصيل مكاسب سياسية، أولها التطبيع ورفع العقوبات والحصول على أموال التعافي المبكر.
ولفت الشيخ إلى مبادرة بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لإعادة تقييم “المناطق الآمنة” في سوريا لإعادة اللاجئين إليها.
في سياق متصل، كشف دبلوماسي أوروبي عن زيارة أجراها رئيس المخابرات الرومانية إلى دمشق، حيث اجتمع برئيس النظام بشار الأسد ومدير المخابرات السورية حسام لوقا، وبحسب “تلفزيون سوريا“، حمل رئيس المخابرات الرومانية معه رسالة مشتركة من بلاده ومن قبرص واليونان وإيطاليا، تشير إلى حرص هذه الدول على إعادة الاتصال مع النظام بسبب قلقها من موجات اللاجئين والخوف من “الإرهاب”.
بذلك، لا يصعب على الصحفي محمد الشيخ التأكيد على أن “ليس للنظام أي مصلحة بالدفاع عن اللاجئين”، ويقول: “على العكس هو يضع العراقيل من أجل منع عودتهم حتى تحقيق تلك الأهداف، والأمر واضح بفشل عملية العودة الطوعية التي يعمل عليها لبنان، إذ لا تعطى الموافقة الأمنية، من آلاف اللاجئين المسجلين على العودة عند لجنة الإعادة الطوعية في لبنان، سوى لأعداد قليلة، يدخل مقابلهم أضعاف مضاعفة”.
وكان لبنان قد أطلق قبل مدة وجيزة “خارطة طريق لتنظيم عودة النازحين السوريين“، غير أن مصادر “نون بوست” قللت من حظوظ نجاح هذه المبادرة، مفسّرة ذلك بعدم تعاون النظام السوري، واشتراطه الحصول على الدعم المادي، فضلًا عن سوء الوضع الاقتصادي والأمني، وغيرها من الأسباب التي تدفع باللاجئين السوريين إلى عدم العودة.
في الأثناء اعتبر وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، زياد مكاري، أن حلَّ مشكلة اللاجئين في لبنان هي إما بالعودة إلى سوريا وإما بالذهاب إلى بلد ثالث، مؤكدًا أن عودتهم إلى سوريا بحاجة إلى حل سياسي مع النظام السوري ورفع العقوبات عنه.
ولذلك، لن يدافع النظام عن اللاجئين في لبنان وتركيا، بل تكمن مصلحته في تأزيم ملفات اللجوء السوري في كل البلدان المستضيفة، لدفع الدول إلى فتح قنوات اتصال معه، ورفع العقوبات عنه.
أموال التعافي المبكر
رئيس الرابطة السورية لحقوق اللاجئين، مضر حماد الأسعد، أكد أن مصالح النظام السوري تتقاطع مع زيادة الضغط على اللاجئين السوريين في لبنان، موضحًا لـ”نون بوست” أن من شأن زيادة الضغط على اللاجئين دفعهم إلى العودة لسوريا، وهذا يصبّ في مصلحة النظام ودعايته التي تروّج لاستتباب الأمن، وبالتالي تخدم هذه العودة غرضه الدعائي، وكذلك يترتّب عليها زيادة المساعدات الدولية المخصصة للتعافي المبكر والإعمار.
وكان النظام السوري قد دعا في أكثر من مرة الأمم المتحدة إلى زيادة مشاريع التعافي المبكر في مناطق سيطرته، ودعم جهوده في مجال عودة اللاجئين السوريين.
من جانب آخر، يسهم الضغط على اللاجئين السوريين في لبنان في زيادة الهجرة نحو البلدان الأوروبية، وهذا ما يخدم مصلحة النظام من حيث دفع البلدان الأوروبية المستضيفة إلى التواصل معه، خاصة مع تخوف أوروبا من موجات لجوء كبيرة، في ظل تنامي شعبية اليمين المتطرف في بعض الدول هناك.
يتابع الأسعد، بالإشارة إلى المخاوف من زيادة الضغوط على اللاجئين، وخاصة بعد توجه الاتحاد الأوروبي إلى تشديد قوانين اللجوء، والتعديلات الأخيرة التي أجمع عليها نواب البرلمان الأوروبي قبل أيام، وتحديدًا البند الذي ينص على إقامة مراكز لجوء عند البوابات البحرية والجوية والبرية للاتحاد الأوروبي، لاستقبال طالبي اللجوء، وإعادة أصحاب الملفات غير المقبولة إلى الدول التي قدموا منها.
ويقول: “يحاول النظام السوري استغلال طريقة التعاطي الدولية مع اللاجئين لصالحه، وهو كمن يصطاد في الماء العكر، بحيث يريد ابتزاز المجتمع الدولي ودفعه إلى تقديم المساعدات المالية له، وفتح قنوات اتصال معه، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى ما يشبه “الشرعنة” الدولية له”.
الإتجار باللاجئين
المحلل السياسي فواز المفلح يؤكّد لـ”نون بوست” أن جانبًا كبيرًا من اقتصاد النظام يقوم على إيرادات اللاجئين، موضحًا أن “النظام بات يشجّع السكان بمناطق سيطرته على الهجرة، رغم أن قسمًا منهم من الموالين له، من خلال تبسيط إجراءات السفر والحصول على الجوازات، وذلك لأن النظام بات يعتاش على الحوالات والمساعدات التي تصل من الخارج”.
ويتساءل: “هل يشجّع النظام عودة اللاجئين، وهو يصنّف غالبيتهم بالعملاء؟.. الحقيقة هي أنه طالما بقيَ النظام الذي تسبّبَ في هجرة ونزوح أعداد كبيرة من السوريين في الحكم، فإن اللاجئين لن يعودوا، وحتى يتحقق ذلك يواصل النظام الاتجار بهذا الملف”.
ومنذ بداية تدفق موجات اللجوء السوري، حاول النظام باكرًا استثمار هذا الملف، وهو ما ظهر جليًّا في تهديد مفتي سوريا السابق أحمد بدر الدين حسون بإرسال “الاستشهاديين” إلى أوروبا، وذلك في تصريح وُصف بـ”التحريضي” على اللاجئين، قائلًا في شريط مصوَّر عام 2011 إنه “في اللحظة التي تُقصف فيها أول قذيفة على سوريا ولبنان، سينطلق كل واحد من أبنائها وبناتها ليكونوا استشهاديين على أرض أوروبا”.
أما رئيس النظام بشار الأسد لم يخفِ سعادته بتهجير ملايين السوريين، عندما قال في افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين عام 2017، إن سوريا “كسبت خلال الحرب مجتمعًا صحيًّا ومتجانسًا”، وذلك في تصريح أثار انتقادات واسعة.
كذلك، لم يقم النظام بأي مبادرة حقيقية تهدف إلى إعادة اللاجئين السوريين، وكانت كل المؤتمرات التي أقامها لمناقشة عودة اللاجئين “شكلية ودعائية”، محاباة لروسيا التي ضغطت ولا تزال لإعادة اللاجئين، حيث تعتقد موسكو أن عودة اللاجئين تسرّع من وتيرة الحل السياسي.
وأبعد من ذلك، استنفر النظام منظومته القضائية لتشريع الاستيلاء على ممتلكات اللاجئين، وذلك لقطع الطريق على عودة غالبيتهم، خاصة في المناطق التي خرجت عن سيطرته.
آخر هذه القوانين التي أقرّها البرلمان عام 2023، هو القانون المتعلق بإدارة واستثمار الأموال المنقولة وغير المنقولة المصادرة بموجب حكم قضائي مبرم، وهو ما عدّه المحامي السوري غزوان قرنفل بـ”السابقة”، قائلًا في حديث لموقع “الحرة” إن “ذلك القانون يعتبر سابقة خطيرة على صعيد العالم، حيث لم يقدم سوى النظام السوري على مصادرة الأملاك الشخصية، بل استباحتها بشكل كامل والتصرف بها كما يحلو له”.
وفي الإطار ذاته، اشترط وزير خارجية النظام فيصل المقداد دعم وتمويل “إعادة الإعمار” قبل الحديث عن عودة اللاجئين، خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في جدة بالسعودية عام 2023.
وأضاف: “نتطلع إلى أن يكون الدور العربي فاعلًا في مساعدة اللاجئين السوريين بالعودة إلى بلدهم، وممّا لا شك فيه أن عملية إعادة الإعمار ستسهّل هذه العودة، ونرحّب بأي دور ستقوم به الدول العربية في هذا المجال”، معتبرًا أن “هذا الدور العربي يمكن أن يكون فاعلًا في تسهيل عودة اللاجئين، وتأمين عملية إعادة الإعمار الضرورية لإعادة بناء البنية التحتية المتضررة في سوريا”.
ومن خلال تتبُّع مجريات التطبيع العربي مع النظام السوري، كان الأخير واضحًا بأنه يربط ملف اللاجئين بمسار التمويل وإعادة الإعمار، معوّلًا على الضغط الذي بات يشكّله اللاجئون على البلدان المستضيفة، وتصاعُد الخطاب المعادي لهم.