وقعت مذبحة مريعة بحق عدد من المصلين، الجمعة الماضية، في مسجد بقرية الروضة التي تقع في محافظة شمال سيناء المصرية، وبالتحديد على بعد 35 كليو مترًا شرقًا.
عدد الضحايا مثل صدمة للمجتمع المصري، بالرغم من حالة الاعتياد لعمليات العنف التي انتشرت مؤخرًا على مدار الأربع سنوات الأخيرة، إذ قُتل في اقتحام المسجد من قبل مسلحين 305 ضحية وعشرات الإصابات الخطرة.
حالة الاعتياد تلك لا سيما في الأخبار الواردة من سيناء، والتي كُسرت هذه المرة بسبب فداحة الحادث، جاءت بسبب الهجمات المستمرة التي يشنها مسلحو تنظيم “ولاية سيناء” المُبايع لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ضد عناصر الجيش والشرطة المصرية.
طبيعة المساجد في مصر لم تقم على أساس طائفي أو مذهبي، لذا فإن استهداف التنظيم للمسجد ربما جاء لأسباب أكثر تعقيدًا من الأسباب الأيديولوجية والدينية التي يكنها الجهاديون عامة للتيار الصوفي
ولأول مرة في تاريخ مصر يُستهدف مسجد بهذه الصورة من قبل تنظيم مسلح ذي خلفية جهادية، والأصابع تشير بقوة إلى تورط تنظيم “ولاية سيناء” الذي توعد الصوفيين أكثر من مرة أثناء حربه مع الجيش والشرطة، إذ برز عداء التنظيم لقيادات الصوفية في سيناء منذ زمن، حتى أن أحد مشايخ الصوفية أُعدام في مقطع مصور من إصدارات التنظيم.
لكن طبيعة المساجد في مصر لم تقم على أساس طائفي أو مذهبي، لذا فإن استهداف التنظيم للمسجد ربما جاء لأسباب أكثر تعقيدًا من الأسباب الأيديولوجية والدينية التي يكنها الجهاديون عامة للتيار الصوفي، إذ أن التربص بالقرية ورجالها في الأرجح جاء ردًا على تعاونهم مع الجيش ضد المسلحين، وكذلك رفضهم الانصياع لطلبات التنظيم الذي يُحاول أن يظهر السيطرة على الأرض بشكل دائم.
هذه الحادثة غير المفهومة لا تخرج عن إطار محاولات فرض الهيبة من قبل تنظيم مأزوم على المستوى الإقليمي، ولا يمكن تجاهلها ولا تبريرها بأي حال من قبل أي طرف في مصر أو خارجها، وإلا يُعتبر هذا بكل وضوح مساعدة غير مباشرة لمثل تلك الأفكار.
لا يمكن لأي فصيل داخل التيار المعارض الداعي للتغيير في مصر أن يتلبس حالة من الإنكار الوهمي للحادث، تحت حجج واهية أو تفسيرات متطرفة لا عقلانية، لأن الواقع يقول أن ثمة صراع مسلح في هذه المنطقة، ودخل المدنيون على الخط فيه بوضوح، فتارة يهجرهم الجيش قسرًا بدعوى مكافحة الإرهاب، وتارة يهاجمهم المسلحون بدعوى التعاون مع الجيش.
معادلة إما أن تكون مع النظام أو الإرهاب هي معادلة فاشلة هدفها الأساس توفير ذريعة لسحق كل بذرة تغيي
ومحاولة إخراج هذا الفصيل المسلح من الصورة لصالح مكسب في معارضة النظام، لن يعود بالنفع على الطيف الأوسع من هذه المعارضة بكل الزوايا، تارة سيقوي سردية النظام التي تجمع كافة معارضيه في سلة واحدة مع “التنظيمات الإرهابية”، وتارة يعطي قبلة الحياة لتنظيم يكفر المعارضة والنظام وكافة من سواهم، وهو بأمس الحاجة لمن يلتمس له الأعذار ويدخله في إطار الأعذار التبريرية لأفعاله.
ومن جانب آخر ليس معنى التعاطف الكامل والإدانة المطلقة لمثل هذه الأحداث، التوقف عن معارضة النظام السلطوي الغاشم في مصر، بل إن المعارضة من أرضية التعاطف مع آلام الناس هي الأصل، وليس الشماتة في فشل النظام.
إذ أن فشل النظام ومنظومته ومنهجه الأمني وفر البيئة لمثل هذه التنظيمات، بل والفشل الخدماتي ساهم في زيادة عدد الضحايا بحسب شهادات الناجين من المذبحة، إذ توفي عشرات المصابين نتيجة عدم وجود تجهيزات طبية أو سيارات إسعاف كافية ومجهزة لنقل الحالات الحرجة.
فالانطلاق من هذه الخلفية يختلف تمامًا من مجرد إظهار الشماتة التي ستبدو شماتة في الضحايا لا في النظام غير المكترث، خاصة وأن هؤلاء الضحايا من المدنيين العزل، فلا وجود لأي نوع من أنواع الصراع.
وعلى الجانب الآخر لا يمكن استغلال الحادث من قبل النظام وأشياعه في مصر بالطريقة المعتادة، التي تدعو إلى إقامة المحارق للمعارضة بكافة أطيافها، والمزيد من الخنق في المجال العام، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
فتراكم الفشل الاستراتيجي للنظام على مستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني هو الذي أوصل الجميع لهذه النقطة، التي يجب أن يتحسس فيها كل فرد قدميه أثناء المعارك، إذ يخلط النظام عمدًا بقائه مع بقاء المجتمع والدولة، ويخلط بين ما هو متعلق بأمن المجتمع ككل وبين أمنه.
ومعادلة إما أن تكون مع النظام أو الإرهاب هي معادلة فاشلة هدفها الأساس توفير ذريعة لسحق كل بذرة تغيير، إذ بالضرورة يتحول كل معارض أو مطالب بالإصلاح والتغيير إلى “إرهابي”، وهذه هي الخيارات التي يدفعنا إليها ضيقي الأفق، وآفقي النظام.
ليس معنى التعاطف الكامل والإدانة المطلقة لمثل هذه الأحداث، التوقف عن معارضة النظام السلطوي الغاشم في مصر، بل إن المعارضة من أرضية التعاطف مع آلام الناس هي الأصل، وليس الشماتة في فشل النظام.
ليس فرضًا أن يصطف أي تيار تغييري مع نظام غاشم يستمد شرعيته بالقمع الأمني والسلطوية المطلقة حتى بات عصيًا على الإزاحة بالطرق الديمقراطية أو حتى بالتنازلات الإصلاحية، وإنما فرض الاطصفاف مع الجماهير وآلامها وأمنها وحقها في الحياة ضد الكيانات الدموية التي تستبيحه في صراع لا ناقة لها ولا جمل فيه.
الأمن المجتمعي والشعبي ليس منة ولا فضل فائض من الأنظمة ولا يجب أن يرتبط ببقاء النظام، ومكافحة هذه التنظيمات العدمية الدموية هو الأصل دون أبعاد سياسية لا لسلطة أو معارضة، أما تصوير أن الجيش والشرطة يسدون خدمة تطوعية بأمر من الحاكم لباقي المواطنين هو تصور بائس ومعدوم، ومحاولة لتبرير تسييس وظيفة الأمن في بلادنا، التي هي حق للجميع.