بعد تهديده بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ما لم تقرر الدخول في مفاوضات مباشرة وذات نتائج إيجابية، وكأن الفلسطينيين هم الذين يعيقون التفاوض، لم يصدر الرئيس الأمريكي الشهادة الخاصة بتمديد عمل بعثة المنظمة في واشنطن لستة أشهر جديدة، الأمر الذي يعني أن المكتب لم يعد له أي صفة رسمية وبات يعمل خارج القانون وفقًا لما تورده صحيفة الحياة اللندنية.
على الرغم من ذلك، أكد السفير حسام زملط، أن المكتب ما زال يواصل عمله كالمعتاد، الأمر الذي أثار عدة تساؤلات عن مآل المكتب وتداعيات إغلاقه بشكل حقيقي.
قبل الخوض في الإجابة عن هذه التساؤلات، تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة اعتبرت منظمة التحرير “منظمة إرهابية” من عام 1987 حتى عام 1993، حيث وُقع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض الذي على إثره مُنحت المنظمة حق فتح مكتب تمثيلي في واشنطن، على أن يظل عمل المكتب مرهونًا بشهادة الرئيس الأمريكي مرة كل ستة أشهر، أن المنظمة لا تمارس عملًا إرهابيًا، بعد تسلمه شهادة من المنظمة تؤكد ذلك الأمر.
لقد اُعتمدت هذه الحالة من الكونغرس الأمريكي عام 1994، في إطار قانون “تسهيل السلام في الشرق الأوسط” الذي منح الرئيس الأمريكي تعليق العمل بقانون مكافحة الإرهاب لمدة ستة أشهر بشكل دوري، وترتبط شهادة الرئيس الأمريكي بعدم قيام منظمة التحرير بأعمال إرهابية والتزامها بما جاء في اتفاق الاعتراف المتبادل مع “إسرائيل”، والتأكيد بأن عدم إعلانها منظمة إرهابية يأتي في إطار تحقيق المصالح الوطنية للولايات المتحدة.
وطبقًا لقانون “تسهيل السلام”، فإن الرئيس الأمريكي لا يستطيع تعليق قانون مكافحة الإرهاب أكثر من سنة، أي مرتين في العام، إلا بتفويض سنوي من الكونغرس.
القانون الأمريكي واضح، بمعنى أنه في حين لم يصدر الرئيس الأمريكي شهادته عن “اعتدال” المنظمة، فإن المكتب سيُغلق فعلًا
ونتيجة لهذا القانون، أقدمت منظمة التحرير على فتح مكتب لبعثتها في واشنطن في حزيران/يونيو عام 1994، لكن كبعثة أجنبية وليست بعثة دبلوماسية تتمتع بامتيازات أو حصانات الدبلوماسييين، ووفق ما تورده صحيفة الحياة في عددها الصادر في 23 من تشرين الثاني/نوفمبر 2017، فإن المكتب ممنوع من ادعاء تمثيل دولة فلسطين أو حتى استخدام اسم فلسطين.
إن الآلية التي تُعامل بها منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية هي معاملة مُذلة تحمل ما دون الدونية، وهذه نتيجة القبول باتفاق أوسلو الذي منح “إسرائيل” 79% من مساحة الأراضي الفلسطينية على طبقٍ من ذهب، ولم يقدم للفلسطينيين أي ضمانات حتى لإقامة دولتهم على المساحة المتبقية.
ولا عجب في أن تتعامل الولايات المتحدة مع الفلسطينيين الذين فشلوا في إضفاء صبغة دولية على اتفاقهم، كما اشترطت لبنان وسوريا خلال مشاورات مدريد للسلام، بهذا الشكل، فهي ترى، أي الولايات المتحدة، منهم إرهابيين تمنحهم فرصة “للاعتدال”، حتى الوصول إلى حل نهائي لقضيتهم يصب، بلا أدنى شك، في الصالح الإسرائيلي.
وعن الوضعية القانونية للمكتب، فالقانون الأمريكي واضح، بمعنى أنه في حين لم يصدر الرئيس الأمريكي شهادته عن “اعتدال” المنظمة، فإن المكتب سيُغلق فعلًا.
وفيما يتعلق بتداعيات التهديد بإغلاق المكتب، فأولها عزوف السلطة الفلسطينية عن الذهاب لمحكمة الجنايات الدولية، فقد أصدر الكونغرس الأمريكي، العام الماضي، تشريعًا ينص على وقف الدعم المالي للسلطة الفلسطينية ووقف عمل مكتبها التمثيلي في واشنطن، في حال عدم تقديم الرئيس الأمريكي شهادة تؤكد أن السلطة لا تلاحق المسؤوليين الإسرائيليين في المحكمة الجنائية الدولية.
وفي ذات العام، أي عام 2016، أصدر الكونغرس قانون “الاعتمادات المالية” الذي نص على وقف الدعم المالي للسلطة في حال “اكتسب الفلسطينيون صفة الدولة العضو في الأمم المتحدة أو منظماتها المتخصصة، وإذا رفعوا دعوى ضد أي مواطن إسرائيلي من المحكمة الجنائية الدولية”.
ما هذا الصلف الذي لم أسمع به من قبل! وفي نص القانون، بند يقضي بضرورة أن يشهد الرئيس الأمريكي على عدم إقدام المنظمة على القيام بأي مما سبق ذكره، كشرط إضافي لقيامه بتعليق أحكام قانون “مكافحة الإرهاب”.
ويأتي توقع احتمال عزوف السلطة الفلسطينية عن الذهاب لمحكمة الجنايات الدولية من واقع الاحتكار الدبلوماسي والاقتصادي الأمريكي على ضمان سيرورة اتفاق أوسلو الذي تتمسك به قيادة السلطة الفلسطينية الحالية، واحتكار الطرف الأمريكي للأمر يعني انعدام البدائل الدولية الحاليّة، وبالتالي انعدام الإرادة السياسية المستقلة لدى السلطة.
يمكن للمنظمة العودة والعمل باسم آخر، كما كان عليه الحال بين عامي 1988 و1994، حينما فتحت المنظمة مركز “الشؤون الفلسطينية” في واشنطن، لكن دون علاقة رسمية بالمنظمة
وربما تضطر السلطة الفلسطينية إلى الخنوع للقرار الأمريكي الذي، على ما يبدو، يعتمد على أحكام قانون “الاعتمادات المالية” الذي ينص على أنه بعد مرور 90 يومًا من عدم قيام الرئيس بتقديم شهادة عن نشاط المنظمة، يمكن له أن يشهد في حالة وجود عملية تفاوضية ذات معنى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبالتالي يمكن له القيام بتعليق أحكام قانون مكافحة الإرهاب لعام 1 على الأقل”.
وبعدم تقديم الرئيس الأمريكي شهادته في 17 من تشرين الثاني/نوفمبر، يصبح قانون “مكافحة الإرهاب” ساريًا على المكتب، وبالتالي يصبح الرئيس الأمريكي ذا صلاحية للضغط على السلطة الفلسطينية، وابتزازها بعدم تقديم شهادة لصالحها بعد مرور 90 يومًا، ما لم تدخل في عملية تفاوضية ذات معنى، ولا أحد يدري ما المعنى الذي يقصده القانون أو يرغبه الرئيس الأمريكي، ولتفادي مآلات هذا التحرك، قد تضطر السلطة الفلسطينية للقبول بالشروط الأمريكية ـ الإسرائيلية لعملية التفاوض الجديدة، وهذا ما يعني خسائر جديدة للقضية الفلسطينية.
أخيرًا، ربما يشكل هذا التحرك نتيجة عكسية للقيادة الأمريكية، بحيث تتجه صوب العمل على تغيير قواعد عمل المكتب في واشنطن، والسعي لمكانة بعثة دبلوماسية غير محكومة لقانون “مكافحة الإرهاب”.
وتملك المنظمة ذريعة قوية للاتجاه صوب هذا الخيار، حيث لا تحظى الإدارة الأمريكية بذريعة قانونية تُثبت عدم التزام المنظمة بضلوعها في أعمال إرهابية، ولعل هذا ما جعل واشنطن تتراجع عن إغلاق المكتب بحسب تصريح وزارة الخارجية قبل يومين.
ولكن، هل تملك المنظمة الشجاعة التي تجعلها تُغلق المكتب بوضعه الحاليّ، وتتجه نحو مفاوضات لتأسيس تعاون فلسطيني ـ أمريكي من نوع آخر يمنحه قدرًا من الاحترام السياسي؟ وفي ضوء ذلك، يمكن للمنظمة العودة والعمل باسم آخر، كما كان عليه الحال بين عامي 1988 و1994، حينما فتحت المنظمة مركز “الشؤون الفلسطينية” في واشنطن، لكن دون علاقة رسمية بالمنظمة.
إذا تمتعت قيادة السلطة الفلسطينية بعقلانية سياسية، فإن سيناريو تغيير الوضع القانوني للمكتب والجنوح لتوسيع البدائل الدبلوماسية الراعية لعمليات السلام كروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، وغيره من الدول والاتحادات الكبرى ذات العلاقة القوية مع “إسرائيل”، مع الميول للتلويح فعلًا، بالذهاب إلى محكمة العدل الدولية، سيكون من الخيارات المثالية لتغيير الوضع المُزري أو بالأصح “المُذل” لعلاقاتها مع الولايات المتحدة.
في المحصلة، أكّدت الولايات المتحدة في شروطها لعقد مؤتمر مدريد للسلام 1991، عدم تأييدها في أي مرحلة من مراحل السلام، لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وفي ضوء ذلك، يجب على الفلسطينيين عدم تعليق آمالهم إطلاقًا على الإدارة الأمريكية حتى للقبول بحل إقامة الدولتين، وينبغي تنويع البدائل الدبلوماسية والاقتصادية للتخلص من الديموغاجية “الحرب النفسية الابتزازية” الأمريكية.