كان اليومَ الذي انتصرت فيه الرياضة على الحرب، صار حدثًا حفظته سجلات التاريخ حينما تسببت مباراة كرة قدم في وقف نزيف حرب أهلية استمرت لسنوات، قضى خلالها مئات الأشخاص نحبهم، عائلات تشردت وأخرى تفككت، الحرب كانت من أجل المناصب، والضحية تبقى واحدة: الشعب.
هي الحرب الأهلية التي نشبت بساحل العاج في بداية القرن الواحد والعشرين التي كانت كفيلة بالقضاء على مشروع ازدهار بلد، خُطط له منذ حصوله على استقلاله من الاستعمار الفرنسي سنة 1960، فقد عرفت ساحل العاج استقرارًا كبيرًا وتطورًا سريعًا مع أول رؤساء الجمهورية بعد الاستقلال “فيليكس هوفويت بواني” الذي عجل بوضع دستور نظم الشؤون الاقتصادية والفلاحية والصناعية للبلد، إضافة لكل الجهود الإيجابية لإصلاح المرافق الصحية والتعليمية والاجتماعية، مع الحفاظ على الموارد الطبيعية المتنوعة التي تزخر بها.
الاستقرار الذي عاشته ساحل العاج لم يُفرش بالورود، فقد كان أكبر ما يهدد البلد من مخاطر، وجود عدد كبير من الفرق العرقية والدينية، صارت بمثابة القنبلة الموقوتة التي قد تنفجر في أي لحظة، خاصة في دولة كساحل العاج، فالنمو الاقتصادي الذي عرفته البلد، جعلته محطة لكثير من المهاجرين الوافدين من مختلف الدول الإفريقية المجاورة، على رأسها بوركينا فاسو التي صار الوافدون منها من المسلمين، يشكلون نسبة مهمة من ساكني ساحل العاج التي يعتنق سكانها الأصليون الديانة المسيحية.
تعددت الأسباب والحرب واحدة
كانت أولى الضربات الموجعة لاستقرار ساحل العاج سنة 1993، وفاة الرئيس هوفويت بواني بعد 33 سنة من الحكم، أعيد خلالها انتخابه 6 مرات، لقد كان بواني رئيسًا ومرشدًا وقائد ثورة، والأهم من ذلك، كان صمام أمان لمنع تقسيم البلد فرقًا وأطيافًا، رحيل بواني خلَّف ارتباكًا في الجمهورية، وتساؤلًا عن الشخص القادر على تعويضه، لتبدأ المصالح الشخصية تتقدم والمصلحة العامة تتخلف، إلى أن تم انتخاب هنري كونان بدييه رئيسًا للبلد، وسط أجواء مشحونة وانتخابات مثيرة للجدل.
الحرب الأهلية بساحل العاج دمرت مشروع نهضة امتد لعقود من الزمن
وجود هنري كونان بدييه على رأس جمهورية ساحل العاج، كان بمثابة الإشارة بقرب الحرب الأهلية، الرجل الذي ينحدر من جنوب البلد، أصدر قرارًا تعسفيًا بمنع حق التصويت لمن لم يثبت أصوله الإيفوارية أبًا عن جد، ليَعتبِر المهاجرين القادمين من البلدان المجاورة غير مؤهلين لتقرير مصير الشعب الإيفواري.
القرار خلف غضبًا عارمًا عند المعنيين به من سكان شمال ساحل العاج المسلمين، ومنهم انبثق المعارض الأقوى لكونان بدييه الحسن أوتارا، توترت الأوضاع أكثر إلى أن تطورت لأشكال عنف دامية، حينما خلف أحد الاشتباكات العرقية سنة 1995 بمقاطعة “تابو” جنوب ساحل العاج، مقتل مهاجر بوركينابي.
وبمطلع سنة 2000، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الجديدة، تم تفعيل قرار منع حق التصويت لمن لا ينتمي لأب وأم إيفواريين، أدى معه لاستبعاد الحسن أوتارا من سباق الانتخابات الرئاسية، سنة 2002، داهمت عصابات من شمال البلد العاصمة الإيفوارية أبيدجان ومجموعة أخرى من المدن المجاورة، الأمر الذي لم يسكت عليه ساكنو الجنوب، واندلعت الحرب الأهلية.
لقد كانت حربًا شرسة حملت أبعادًا عرقية وأخرى دينية، أجيج فتنة اشتعل ولم ينطفئ رغم تدخل بعد الأطراف من العقلاء لإيقاف هذه المأساة، في ظرف وجيز، دُمر مشروع نهضة بلد استمر لعقود من الزمن، وعادت ساحل العاج لما قبل التاريخ، وبدا مصير البلد نحو المجهول ما لم يتم إيقاف نزيف شعب يقتل بعضه البعض.
نهضة في البلد من نوع آخر
وبين ذلك الدمار وتلك الدماء، كانت كرة القدم الإيفوارية تعيش أبهى حللها مع جيل ناشئ سيصبح لاحقًا واحدًا من أفضل المنتخبات على الصعيد الإفريقي، فالمواهب الإيفوارية في اللعبة برزت بشكل كبير، كان على رأسها خريجو “أكاديمية ميموسفيكوم لكرة القدم” الأخوين يحيى وحبيب كولو توري، إضافة لمواهب أخرى كديدييه زوكورا وسالمون كالو والمهاجم المخضرم ديدييه دروغبا الذي سيؤدي لاحقًا دورًا مهمًا في إيقاف الحرب.
جيل المنتخب الإيفواري 2006، الذي يعتبر الأفضل في تاريخ البلد
كان المنتخب الإيفواري شعلة الأمل الوحيدة بوجود فريق لم تمنعه أعراقه المختلفة عن عشق قميص المنتخب، ليقطع وعد التأهل لمونديال ألمانيا 2006، لعل ذلك يكون مفتاح خير لمصالحة بين الأطياف المتحاربة، عمل “منتخب الفيلة” على تحقيق حلم الوصول للعرس الكروي، من بوابة المجموعة الثالثة للتصفيات الإفريقية، مجموعة ضمت مصر، السودان، ليبيا، بنين، إضافة لأبرز المنافسين الكاميرون، هذا الأخير ظل متصدرًا المجموعة طيلة أدوار التصفيات بفارق نقطة وحيدة عن المنتخب الإيفواري.
لكن المفاجأة السارة لرفاق دروغبا، سقوط أسود الكاميرون في فخ التعادل أمام المنتخب المصري، ويُفتح المجال أمام الفيلة لتحقيق الحلم المنشود، إن هم فازوا في لقائهم الأخير أمام المنتخب السوداني.
لأول مرة، وضع القوم السلاح وأعلنوا هدنة عمرها 90 دقيقة، لقاء الـ8 من أكتوبر 2005، كان تاريخيًا، حيث جلست ساحل العاج بكل أطيافها لمشاهدة منتخب بلادهم يتأهل للمونديال لأول مرة، وبالفعل لم يخيب منتخب الفيلة آمال شعبهم، وحققوا فوزًا تاريخيًا على المنتخب السوداني بملعب المريخ في أم درمان، بنتيجة 3 أهداف مقابل هدف واحد، وانطلقت الأفراح الإيفوارية، بعد سنوات من الدماء والأحزان.
ديدييه دروغبا سفير السلام
محاطًا بزملائه بالفريق وأمام الكاميرا الموجهة نحو الشعب الإيفواري الذي يشهد فرحة منتخب بلاده بالتأهل لكأس العالم، يجثو ديدييه دروغبا على ركبتيه وبقية لاعبي الفريق، في خطاب ود وسلام ودعوة للمصالحة بين الفرقاء المتطاحنين فيما بينهم، فكانت الكلمات النابعة من القلب إلى القلب، في لحظة صفاء ووئام:
“رجال ونساء ساحل العاج! من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، لقد أكدنا اليوم أن الإيفواريين قادرون على التعايش فيما بينهم للعب سويًا من أجل هدف مشترك: التأهل إلى كأس العالم، لقد وعدتمونا أن الاحتفالات ستوحد الشعب، واليوم، نحن نطلب منكم ونتضرع إليكم جاثين على ركبنا: لنتسامح، علينا ألا نخضع للحرب بهذه الطريقة، نرجوكم ضعوا أسلحتكم جانبًا ونظموا الانتخابات، وكل شيء سيمضي على ما يرام، نرجوكم، نريد أن نستمتع، نرجوكم، كفوا عن إطلاق النار”.
خطاب ديدييه دروغبا بعد التأهل لكأس العالم 2006، مطالبًا الشعب الإيفواري بوقف الحرب
لم تكن مجرد لحظة فرح وتمضي وتعود معها الحرب الأهلية، لقد واصل دروغبا مشوار الإصلاح لإحقاق السلام عبر اللغة التي يجيدها: كرة القدم، فبعد سنتين من فرحة الوصول لكأس العالم، والبلد لا يزال يشهد ما بين الفينة والأخرى صولات من مخلفات الحرب، يعود المهاجم الإيفواري لاستئصال شأفة الفتنة، عبر المطالبة بإقامة اللقاء الحاسم للتصفيات المؤهلة لكأس أمم إفريقيا 2008، في مدينة “بوياكي” شمال البلاد التي تعتبر معقل الثوار من طائفة مسلمي ساحل العاج الذين حملوا السلاح في وجه الحكومة المسيحية التي كانت تسير البلد.
لأول مرة، يصل مسؤولون من الحكومة لبوياكي، ويشاهدون مباراة كرة قدم لمنتخب الفيلة، لأول مرة، يجلس المسلم بجانب المسيحي في سلام ليتابعا لقاء المنتخب الوطني، بعد أن كانا بالأمس على استعداد للفتك ببعضهما البعض، “لقد كان مشهدًا رائعًا لي، رؤية زعيمي الحزبين يقفان بجانب بعضهما البعض لتأدية النشيد الوطني” يقول ديدييه دروغبا.
ديدييه دروغبا صار بطلًا قوميًا في ساحل العاج
فاز المنتخب الإيفواري وهدأت الأمور أكثر، وأدرك الشعب الإيفواري أن الوقت قد حان لتحكيم العقل والمنطق، بدلًا من سياسة السلاح والرصاص، سيحفظ التاريخ الحرب الأهلية بساحل العاج، وبجانبها سيُكتب بأحرف من ذهب: “كرة القدم، تنتصر على الحرب”.