لا تَخفى أهداف إيران من تغلغلها في سوريا على أحد، ولا ما امتدت إليه همينتها ونفوذها، فقد اخترقت قطاعات إستراتيجية، عسكرية وثقافية واجتماعية واقتصادية، بل حتى قطاع التعليم، وتواصل أذرعها في الشام التمدد في المجتمع السوري لتستولي على عقول الأجيال وتعيد بناء هوياتهم وتغسل أدمغتهم وتجندهم لخدمة مشروعها، لا سيما في محافظة دير الزور.
ورصدت منظمات حقوقية، سعي طهران إلى تجنيد الأطفال واليافعين السوريين واستقطابهم عبر طرق وأساليب متعددة غالبًا ما تترافق مع علاوة مالية، كالأنشطة الكشفية، أو الدورات التدريبية والمهنية، أو عبر المراكز الثقافية فضلًا عن زجهم بمعسكرات مغلقة بأسماء وشعارات مضللة، لكن مغرية.
ومن أجل إنجاح مشاريعها في سوريا، تطوّر إيران بنية تحتية متكاملة تخدم مشاريعها، فهي تشتري العقارات وتشيّد الحدائق والمرافق الخدمية والمستشفيات الخاصة بالإيرانيين وبرامجهم و”المستفيدين” منها، وتغرق السوق السورية بمنتجاتها.
تجنيد إيران لأطفال سوريا في القتال يأتي متناسقًا مع مشاريع “تصدير الثورة” التي تخترق عدة عواصم عربية أخرى، كما في لبنان واليمن والعراق، إضافة إلى استغلال اللاجئين الذين قصدوا إيران من الدول المجاورة، إذ سبق أن وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش مقتل ما لا يقل عن 8 أطفال أفغان في “لواء فاطميون” خلال المعارك في سوريا، كان 4 منهم يبلغون 14 عامًا فقط عند مقتلهم، إذ تعمل إيران على إغراء هؤلاء المقاتلين في كثير من الأحيان بالحصول على تصاريح إقامة ومبالغ مالية، مقابل حماية الأضرحة الشيعية في سوريا.
تدريب منهجي
منذ سيطرة الميليشيات الإيرانية على مدينة دير الزور وريفها، سعت لتجنيد الأطفال والمراهقين في صفوف قواتها بطرق مختلفة، منها اتّباع دورات تمهيدية وتعليمية وبدنية وقتالية، كي يصبحوا جاهزين للقتال في صفوفهم.
ويمرّ الفتى بمراحل متعددة قبل أن يكون جاهزًا للقتال في صفوف هذه الميليشيات، ففي البداية تبدأ إيران بغسل دماغه وزرع أفكارها في رأسه، وبعدها يخضع لتدريبات قتالية، وذلك عبر مراكز خاصة تمّ إنشاؤها لهذا الهدف، وذلك بحسب تقرير نشرته شبكة “عين الفرات” المحلية.
ومن أبرز هذه المراكز بحسب الشبكة:
- مركز النور الساطع في مدينة الميادين، ويشرف عليه كل من سيد أيوب وسيد مهدي، وهما إيرانيان، حيث يضمّ هذا المركز حوالي 250 طفلًا، مهمته إعطاء دروس شيعية للأطفال ممّن أعمارهم 13 إلى 18 عامًا، وزراعة أفكار القتال والعنف، ويتم ترغيبهم بإعطائهم ألعاب وهدايا وطعام.
- مركز الشدوحي في الميادين، يشرف عليه الحاج إبراهيم، وهو إيراني الجنسية، يوجد في المركز حوالي 70 طفلًا، مهمة المركز استقطاب الأطفال الذي بعمر 12 إلى 15 عامًا، ويقوم المركز بإعطاء الأطفال بعض التدريبات البدنية القتالية الأساسية، بالإضافة إلى نشر التشيُّع بينهم وزرع الأفكار لديهم.
- مركز البصيرة، ويقع تحت إشراف الحاج إبراهيم الإيراني أيضًا، ويتواجد فيه الأطفال من عمر 15 إلى 18 عامًا، ومدة الدورة فيه 3 أشهر، وهو مخصّص للتدريب البدني القتالي عبر بعض التدريبات القتالية التي يخضع لها الأطفال، بالإضافة إلى إعطاء الدروس بالفكر الشيعي.
إلى جانب ذلك، أكّدت مصادر محلية في ريف دير الزور الغربي لـ”نون بوست”، أن إيران “تركز على تعزيز مفاهيم الانتقام لمقتل الحسين بن علي لدى الأطفال، وتزويدهم بملابس عسكرية وتحفيظهم شعارات تحضّ على الثأر والقتل، خاصة من خلال القصص المؤثرة التي يجري الترويج لها في مناسبات شيعية تشرف على إقامتها الميليشيات”.
حيث تؤكد هذه المصادر أن ميليشيا لواء الباقر في مدينة حطلة مثلًا، تقوم بتدريب الأطفال في معسكرات مغلقة على مختلف أنواع الأسلحة الفردية، وخوض حرب الشوارع، وتنفيذ عمليات الاغتيال والتفجيرات، إضافة إلى دروس دينية.
دور المراكز الثقافية
في عام 2018، بدأت إيران عبر منظمة “جهاد البناء” الإيرانية التابعة للحرس الثوري، ببناء العديد من المراكز الثقافية في كل من دير الزور وحطلة والميادين والبوكمال.
قدمت هذه المراكز الثقافية نفسها للأهالي على أنها جاءت لمساعدتهم ومدّ يد العون لهم، وأنها جاءت لأجل النهوض بالمجتمعات المحلية. فهي في ظاهرها ذات نشاط ثقافي، إلا أنها في الحقيقة لها مهمات أخرى، تشييعية واجتماعية وعسكرية، وذلك بحسب الصحفي والكاتب أحمد الهواس، وهو من أبناء مدينة دير الزور.
ويضرب الهواس في حديثه لـ”نون بوست” مثالًا على هذه الأنشطة، كتدخُّل هذه المراكز بالمدارس والمناهج التي يتم تدريسها، فالكتب في المدارس لا يمكن أن توزّع إلا عن طريقها، وهذه الكتب مؤدلجة تبثّ البروباغندا الإيرانية في المدارس، وتعمل على تنشئة هؤلاء الطلاب تنشئة عسكرية أيديولوجية.
وفي هذا السياق أكدت مصادر صحفية محلية أن إيران طلبت من وكلائها في محافظة دير الزور العمل بشكل حثيث، لاستقطاب الأطفال وتنسيبهم إلى المعسكرات المخصصة لفئاتهم العمرية.
وأضافت هذه المصادر، ومنها شبكة “عين الفرات”، أن المدير الجديد للمركز الثقافي الإيراني في دير الزور الملقّب بـ”الحاج أبو رقية”، عقد اجتماعًا مع مديري الفروع في مدن وبلدات المحافظة لمناقشة “ابتكار أساليب جديدة لجذب الأطفال”، حيث طالب أبو رقية بمضاعفة الجهود لزيادة أعداد الأطفال المنتسبين إلى “المراكز الثقافية” الإيرانية، كما هدّد بفصل الموظفين الذين يفشلون في هذه المهمة.
من جانبه، أفاد المركز السوري لحقوق الإنسان أن المركز الثقافي الإيراني افتتح في 3 أبريل/ نيسان الجاري في مدينة الميادين دورة تعليمية للأطفال، ممّن تبلغ أعمارهم من 9 إلى 13 عامًا، تتضمن الدورة تعليم اللغة الفارسية ودروسًا في مذهب “ولي الفقيه”.
وأضاف المركز أنه يتم تقديم وجبات غذاء للأطفال المسجّلين خلال الاستراحة، وفي نهاية الدورة سيتم تكريم الـ 5 الأوائل بزيارة إلى إيران، وإعطاء كافة الأطفال مبلغ 25 ألف ليرة سورية كجائزة تحفيزية.
استغلال الظروف الاقتصادية
تستغل الميليشيات الإيرانية الأوضاع المعيشية السيّئة في مناطق دير الزور الغربية، وتعمل على إقناع الأهالي بضرورة تجنيد أطفالهم وأبنائهم وشبابهم في صفوفها، مقابل منح وإغراءات مالية تبدأ من 50 دولارًا شهريًّا، أي ما يعادل ضعف راتب أي موظّف في مؤسسات النظام.
فالذين يعيشون في تلك المناطق يوازنون الأمور، حيث يرون أن العمل مع النظام لا يجلب كثيرًا من الدخل، لذلك ونتيجة الظروف المادية الصعبة ينضمّون إلى الميليشيات الطائفية التي شكّلتها إيران، وذلك بحسب الصحفي أحمد الهواس.
ويوضح الهواس أن السكان في تلك المناطق يلجؤون إلى هذا الأمر بسبب ظروفهم الاقتصادية والمعيشية الصرفة، لكن إيران تنطلق من منظور آخر، فهي تستغل الوضع الاقتصادي المتردي لدفع السكان إلى التشيُّع، وهم يركّزون على الأطفال أكثر من كبار السن.
لذلك، يضيف الهواس أن إيران بدأت بالتغيير العقدي للأطفال من خلال المدارس والدروس التي يقوم بها المبشّرون التي تأتي بهم، على طريقة “التنصير” سابقًا، إضافة إلى تقديم المغريات التي يهتم بها الأطفال عندما يكبرون، كالإعفاء من الخدمة العسكرية في جيش النظام، والالتحاق بالجامعات الإيرانية التي أنشأتها إيران في الداخل أو بالبعثات إلى الخارج.
ما الهدف؟
الهدف من تجنيد الفتية والأطفال في المنطقة الشرقية هو إيجاد قوة عسكرية جديدة، يتم إنشاؤها بالكامل على تعاليم الولي الفقيه والمذهب الشيعي والولاء له بشكل مطلق، لا سيما بعد الفشل الذريع لـ”حزب الله” بالفترة الأخيرة من تجنيد المزيد من المقاتلين من فئة الشباب والرجال.
حيث يفرّ قسم كبير من الشبان إلى مناطق سيطرة التحالف الدولي و”قسد” في الضفة الأخرى لنهر الفرات، وذلك لأن الأوضاع هناك أفضل نسبيًّا من حيث فرص العمل والأمان والخدمات، وذلك بحسب ما أفاد به المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وفي السياق ذاته، يرى الباحث بالشأن الإيراني، سعد الشارع، أن أهمية هذا الموضوع تأتي من أهمية المنطقة التي سيطرت عليها إيران، إذ نستطيع القول إنها سيطرت على الطريق البرّي للهلال الشيعي، أو على أقل تقدير سيطرت على الطريق الذي يوصل مناطق نفوذها بين سوريا والعراق.
ويضيف الشارع في حديثه لـ”نون بوست” أن إيران تحتاج إلى العنصر المحلي في تلك المنطقة، لتثبيت نفوذها في المنطقة الممتدة من مدينة البوكمال حتى الحدود الغربية من مدينة دير الزور، فضلًا عن حاجتها إلى العنصر البشري لزيادة توغُّلها الاجتماعي والديني في تلك المنطقة، فمن دون العنصر المحلي لا يمكنها التوغُّل في المجتمع.
أما السبب الأهم، بحسب الشارع، فهو حاجتها إلى العنصر البشري بعد استنزاف عناصرها بسبب هجمات “داعش”، وأما الأمر الآخر مرتبط بالندّية والتنافس بين شركائها (روسيا ونظام الأسد)، فكل منهما يحاول تثبيت نفوذه أكثر.
يذكر أن حماية الأطفال في النزاعات المسلحة هو مبدأ يتفق بشأنه المجتمع الدولي اليوم، وقد تم توقيع معاهدات عدة على الساحة الدولية والإقليمية في هذا السياق، منها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي تصف “التجنيد القسري أو الطوعي للأطفال” دون سن الـ 15 بـ”جريمة حرب”، إلا أن إيران وميليشياتها تواصل انتهاكها بشكل منهجي لهذه المعاهدات، وتلتف عليها من خلال عدة طرق، كرياض الأطفال والمدارس والمساجد.