قبل عقدين من الزمن اهتز العالم على وقع تسريب صور تعذيب المعتقلين في سجن أبو غريب العراقي الذي كانت تديره الولايات المتحدة الأمريكية عام 2004، إذ تكشّفت الممارسات الوحشية التي قام بها جنود أمريكيون تجاه المعتقلين.
اليوم، وبعد مرور 20 عامًا على تلك الفضيحة، بدأت في 15 أبريل/نيسان 2024، جلسات محاكمة بعض المتورطين إثر دعوى قضائية تقدّم بها 3 من الناجين من أبو غريب أمام محكمة أمريكية.
ويسعى ضحايا التعذيب إلى إنصافهم ومحاسبة الشركة الأمنية المسؤولة عن سوء معاملتهم، وتمثل هذه المحاكمة محطة تاريخية في مسار القضية، حيث يقف المتضررون أمام فرصة لإثبات التعذيب وسوء المعاملة التي تعرضوا لها أمام القضاء الأمريكي.
أول دعوى قضائية
وحظيت المحاكمة باهتمام إعلامي دولي واسع باعتبارها المرة الأولى التي يتمكن فيها ضحايا التعذيب بالسجون الأمريكية في العراق، من طرح قضية تعذيبهم أمام هيئة محلفين أمريكية.
ووصفت صحيفة الغارديان البريطانية هذه المحاكمة بأنها “تصحيح علامة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة”، التي رفضت النظر في القضية المرفوعة منذ عام 2008.
وتأتي المحاكمة أمام هيئة محلفين، في محكمة اتحادية بولاية فرجينيا الأمريكية، بعد مرور ما يقرب من 20 عامًا على اليوم الذي تم فيه الكشف عن صور التعذيب وسوء المعاملة في السجن لأول مرة، ما أثار فضيحة دولية أصبحت ترمز إلى معاملة المعتقلين في الولايات المتحدة.
ورفع القضية التي طال انتظارها، 3 من ضحايا التعذيب الأمريكي، سهيل نجم عبد الله الشمري، وصلاح العجيلي، وأسعد الزوبعي، وهم مدنيون عراقيون تم احتجازهم في أبو غريب، قبل إطلاق سراحهم دون توجيه اتهامات إليهم في عام 2004.
ويقاضي الرجال الـ3، شركة “مركز التحليل الموحد CACI”، وهي شركة خاصة تعاقدت معها الحكومة الأمريكية لتوفير المحققين في السجن، وقد حاولت الشركة على مدى 16 عامًا، إلغاء القضية، وخسرت في النهاية استئنافها الأخير في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وقالت المحامية البارزة في مركز الحقوق الدستورية كاثرين غالاغر: “إنها محاكمة تاريخية نأمل أن تحقق قدرًا من العدالة وتضميد الجراح لما اعتبره الرئيس بوش بحق سلوكًا مشينًا يهين الولايات المتحدة وقيمها”.
يشار إلى أن هذه الدعوى رفعت بموجب قانون الضرر الخاص بالأجانب، الذي يسمح للمواطنين الأجانب رفع قضايا في المحاكم الأمريكية بسبب انتهاكات القانون الدولي، ويسعى المدعون للحصول على تعويضات وردّ اعتبار.
وسيكون العجيلي، الذي يعيش الآن في السويد، أول ناجٍ من التعذيب يدلي بشهادته عن المعاملة التي تعرض لها في أثناء احتجازه، بالولايات المتحدة من داخل محكمة اتحادية أمريكية، بينما سيقدّم الآخران شهادتهما عن بعد من العراق لأنهما لم يحصلا على تأشيرات لدخول الولايات المتحدة.
ويؤكد العجيلي أن أحد أسباب إصراره على رفع هذه القضية هو أن يعرف الشعب الأمريكي ما حدث مع الشركات التي تعاقدت معها حكومته، ويطّلعون على تاريخ بلادهم، مستدركًا بالقول: “ربما إذا حكمت المحكمة لصالحنا، فإنها ستصحح، قليلًا، هذه العلامة السوداء في تاريخ الولايات المتحدة”.
أهمية إثارة القضية
تحمل هذه المحاكمة أهمية كبيرة في عدة جوانب، كونها ليست مجرد قضية فردية بل تمثل أيضًا رمزًا لتحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، وتأكيدًا لمبدأ المساءلة، وتسليطًا للضوء على أهمية احترام حقوق الإنسان في جميع الظروف وفي جميع أنحاء العالم.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي التحرك في هذه القضية إلى تغييرات في السياسات والتشريعات المتعلقة بتوظيف الشركات الأمنية الخاصة في مناطق النزاع، وبالتالي، يمكن أن يسهم في تجنب تكرار مثل هذه الانتهاكات في المستقبل.
ويؤكد العضو السابق في مفوضية حقوق الإنسان العراقية، الدكتور علي البياتي، أن هذه القضية ليست جديدة، بل تم رفعها من خلال شركة قانونية أمريكية كوكلاء عن المعتقلين الذين تعرضوا إلى هذا التعذيب، وتعرّضت القضية للتأجيل أكثر من 20 مرة، قبل أن تقبل المحكمة هذه المرة النظر فيها.
وفي حديثه لموقع “نون بوست”، يعزو البياتي السبب الأساسي لتسويف هذه القضية إلى القوانين الأمريكية المحلية التي تحمي المؤسسات الأمريكية العسكرية والأمنية وتبعدها عن المحاكمات، في نوع من الحصانة الواسعة.
ويشير إلى أن نجاح تمرير القضية هذه المرّة جاء بسبب استثمار ثغرة قانونية، من خلال توجيه الاتهام إلى شركة أمنية ومقاول عسكري، ورغم أن جلسات المحاكمة ستطول فإنها بكل تأكيد خطوة مهمة وأمر إيجابي.
ويعرب البياتي عن أسفه لغياب دور الحكومات العراقية المتعاقبة والمؤسسات الرسمية في العراق، رغم كثرة أعداد الضحايا، فدائما ما تثار هذه القضايا من خلال شركات قانونية أو منظمات معينة تأخذ وكالات من المجني عليهم والضحايا، وبالتالي تتحرك من خلال معرفتها وخبرتها بالقوانين الأجنبية في تلك الدول.
واستبعد خبير حقوق الإنسان، قيام المحكمة الأمريكية بمحاسبة المتورطين بجرائم التعذيب، لكنّها في أحسن الأحوال قد تقوم بتعويض هؤلاء الـ3، لكن سيبقى الآلاف من الضحايا الآخرين الذين لم تسنح لهم الفرصة لكي يخطوا هذه الخطوة بسبب ضعف المؤسسات الحكومية العراقية أمام الجانب الأمريكي لمصالح سياسية.
من جانبها رحّبت منظمة “هيومن رايتس ووتش” بهذه المحاكمة التي طال انتظارها، واعتبرتها تشكّل خطوة حاسمة نحو تحقيق العدالة لهؤلاء الرجال الذين سيعرضون قضيتهم أخيرًا أمام المحكمة، لكنهم القلة المحظوظة، فمئات الناجين الآخرين الذين ما زالوا يعانون من انتهاكات الماضي تظل فرصهم في تحقيق العدالة ضئيلة.
وطالبت رايتس ووتش الحكومة الأمريكية بضرورة تحمّل المسؤولية عن انتهاكاتها والاعتذار، وفتح سبل الإنصاف لمن حرموا منه لسنوات.
تداعيات فضيحة أبو غريب
بعد 20 عامًا على قضية التعذيب الأمريكي للسجناء في العراق، لا تزال التداعيات تتردد في أروقة العدالة والسياسة العالمية، وسط تساؤلات عن مدى جديّة الأنظمة القانونية والدولية في محاسبة المسؤولين وتفعيل العدالة.
وأحدثت الانتهاكات واسعة النطاق في سجن أبو غريب وسجون أمريكية أخرى في العراق ضجة دولية وحازت اهتمام الرأي العام الأمريكي في 28 أبريل/نيسان 2004، أي بعد مرور عام على الغزو الأمريكي للعراق.
وبدأت الفضيحة عندما بثت شبكة “سي بي إس نيوز” لأول مرة صورًا لجنود أمريكيين يسيئون معاملة المعتقلين المحتجزين لديهم، وأظهرت الصور رجلًا مقنعًا يقف على صندوق ومعلقًا بأسلاك كهربائية، ومعتقلين عراة مكدسين فوق بعضهم البعض، أو يتم سحبهم من مقود أو إجبارهم على محاكاة أفعال غير لائقة، بينما يقف الجنود المبتسمون أمامهم.
موجة الغضب العالمية التي أحدثتها هذه الفضيحة، دفعت الجيش الأمريكي إلى إجراء تحقيق رسمي عام 2004، أقرّ خلاله بأنّ المعتقلين تعرضوا لانتهاكات إجرامية سادية وصارخة ووحشية، لكنه لم يتحرك لمحاسبة المتورطين.
وعلى مدى العقدين الماضيين لم يواجه سوى عدد قليل من الجنود ذوي الرتب الدنيا محاكمات عسكرية شكلية، ولم تتم مساءلة أي من القادة العسكريين أو السياسيين، أو المتعاقدين من القطاع الخاص، قانونيًا عما حدث في أبو غريب أو في أي منشأة أخرى تعرض فيها المعتقلون الأمريكيون للتعذيب.
من جهته، انتقد البياتي الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها من أكثر المدعين حماية حقوق الإنسان في العالم، والأكثر استخدامًا لهذه الملفات على المستوى الدولي لأغراض سياسية وأجندات تخص مصالحها، لكنّها في ذات الوقت الأكثر انتهاكًا لحقوق الإنسان.
ويرجّح البياتي أن يسهم النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري للولايات المتحدة الأمريكية في جعلها بعيدة كل البعد عن أي معاقبة دولية، كما تستخدم نفوذها لحماية الأمريكيين الذين يقومون بكل هذه الجرائم والانتهاكات.