تنطلق صباح الجمعة 19 أبريل/نيسان 2024 الانتخابات البرلمانية الهندية في دورتها الـ18، حيث من المقرر أن يستعد نحو 970 مليون ناخب لاختيار 543 نائبًا لمجلس الشعب “لوك سابها” في انتخابات هي الأكبر في العالم، ويفترض أن تستمر لمدة 6 أسابيع، على أن تعلن النتائج في 4 يونيو/حزيران القادم.
وتعاني الخريطة السياسية الهندية حالة من التناقض والفوضى، يسميها البعض ثراءً، (1.4 مليار نسمة مقسمون إلى أكثر من ألفي مجموعة عرقية وعشرات الديانات والمذاهب ويتحدثون بقرابة 60 لغة رئيسية) في ظل التشبث بنظام انتخابي (برلماني بريطاني) عليه الكثير من علامات الاستفهام، تجعل من أي عملية انتخابية في هذا البلد مسرحًا كبيرًا لا يمكن قراءة تفاصيله بعناية، فضلًا عن افتقاده لكثير من أبجديات الموضوعية والعدالة ومعايير النزاهة والمساواة.
وبعيدًا عن مسألة حسم حزب “بهاراتيا جاناتا” الهندوسي الحاكم لتلك الانتخابات قبل أن تبدأ، في ضوء المؤشرات الأولية وهيمنته على مقاليد السلطة في البلاد واستهداف المعارضة والتضييق عليها وتعبيد كل الطرق التي تقوده نحو الانتصار الساحق للمرة الثالثة على التوالي، فإن حالة من الترقب تخيم على الأقلية المسلمة إزاء هذا الماراثون في ضوء ما تعانيه من تحديات وأزمات حادة على خريطة المشهد السياسي والاجتماعي.
بالأرقام – #الهند تنظم أكبر انتخابات في #العالم #المجلة pic.twitter.com/k0kLG84KF5
— المجلة (@AlMajallaAR) April 17, 2024
خريطة متشعبة عرقيًا وسياسيًا
تتميز الخريطة السياسية الهندية بخلط الأوراق بين الديني والقومي، حيث تهمين النزعة العقدية على الهوية السياسية بصورة كبيرة، في بلد يحتضن العشرات من الأديان والطوائف والمذاهب التي تشكل مزيجًا مجتمعيًا استثنائيًا مقارنة بالكتل السكانية الهائلة في البلدان الأخرى كالصين والولايات المتحدة وغيرها.
ويتصدر الهندوس الخريطة الدينية للهند بـ837.4 مليون نسمة يشكلون نحو 81.3% من مجموع الشعب الهندي، يليهم المسلمون بـ220 مليون، يشكلون 18% من إجمالي السكان (ونحو أكثر من 10.9% من عدد المسلمين حول العالم)، ثم يأتي المسيحيون في المرتبة الثالثة بـ23.6 مليون نسمة بواقع 2.3% من إجمالي الشعب، يليهم السيخيون بـ1.9% ثم البوذيون والجاينية بـ1% من إجمالي الهنود لكل منهما.
ورغم وجود عشرات العرقيات في الهند فإن أكبر مجموعتين عرقيتين يستحوذان على نصيب الأسد هما الدرافيديون والهنود الآريون، حيث يشكلان معا نحو 97% من الطوائف العرقية في الهند، أما عشرات العرقيات الأخرى فتشكل مجتمعة نحو 3% السكان، ومن أبرزهم المنغوليون.
أما على المستوى السياسي فتشكل الخريطة العقدية والعرقية الدليل الأكثر وضوحًا لفهم الخريطة السياسية، من حيث التوزيع والنسب والتأثير، حيث تسيطر الأحزاب التي تدين بالهندوسية على المشهد السياسي، وتتركز فيما يعرف بـ”حزام البقرة” وهي السهول التي يعيش فيها الآريون الهندوس الذين يقدسون الأبقار، في الوسط والغرب.
انتخابات تشريعية ضخمة في #الهند تمتد لـ6 أسابيع بمشاركة نحو مليار ناخب.. و"الغارديان": شعبية "مودي" وعدم تكافؤ الفرص تعزز فرص فوزه#العربية#العالم_الليلة pic.twitter.com/cE8vSt9k3b
— تقارير العربية (@alarabiya_rpt) April 17, 2024
ويأتي على رأس تلك الأحزاب، حزب بهاراتيا جاناتا (حزب الشعب) بقيادة رئيس الوزراء الحاليّ ناريندا مودي، فيما تتربع ولاية “أوتاربراديش” التي تقع في قلب حزام البقرة على رأس الولايات الهندية الكبرى التي تحدد هوية الفائزين في الانتخابات وترسم بشكل كبير ملامح البرلمان، حيث يبلغ تعداد سكانها 240 مليون نسمة، وتنتخب 80 نائبًا في المجلس.
أما في مناطق الجنوب، حيث ولايتي تاميل نادو وكيرالا، التي يسكنها “الدرافيد” الذين يعتبرون أنفسهم سكان الهند الأصليين ويطالبون بمغادرة الهندوس البلاد، فهم على النقيض تمامًا من الهندوس وتقديس الأبقار، ويعانون من الفقر كما أنهم يفتقدون للقوة الرادعة، وغالبًا ما يستميل هؤلاء الأحزاب الشيعية والاشتراكية المتواضعة في الهند.
الموقف ذاته يتبناه سكان مناطق الشرق والشمال الشرقي (تتكون من 7 ولايات صغيرة)، خاصة ولاية البنغال التي خضعت لحكم الشيوعيين لعقود طويلة، فضلًا عن ولاية جامو وكشمير، ذات الأغلبية المسلمة في الهند، التي تختلف شكلًا ومضمونًا مع الهندوس، لغة وديانة وهوية، لكنها تعاني كغيرها من المناطق الأخرى فقرًا وتهميشًا وتمييزًا عنصريًا قادوها إما إلى العزلة أو الرضوخ للحزب الحاكم.
فرصة لإعلان الدولة الهندوسية
يحاول مودي وحزبه الحاكم الفوز بالأغلبية في تلك الانتخابات، أو على الأقل تشكيل تحالف انتخابي يحصد الأغلبية في البرلمان، من أجل تحقيق حلم الحزب في إعلان الدولة الهندوسية رسميًا وطي صفحة الدولة العلمانية التي ظلت الهند لسنوات طويلة تتشدق بها.
ويساعد نظام الحكم الحاليّ في البلاد، الهندوس لتحقيق هذا الحلم، حيث النظام البرلماني البريطاني الذي يمنح الفائز بأكبر عدد من الأصوات الفوز في الانتخابات دون النظر لنسب الأصوات وحجمها، فعلى سبيل المثال إذا ما خاض 100 متنافس ماراثون الانتخاب في مدينة ما تعدادها مليون نسمة، فإن أكثر المتنافسين أصواتًا هو من يفوز، حتى لو حصل على نسب لا تتجاوز 10% مثلًا، ما يعني أن الـ90% الباقيين غير ممثلين ولا وجود لهم داخل البرلمان، وفي ظل القاعدة الهندوسية العريضة فإن أنصارهم هم المرشحون الأكثر حظًا في الفوز بمثل تلك المعارك التي تواجه الكثير من التحفظات.
وعليه ليس شرطًا أن يحصل الحزب الحاكم في البلاد على الأغلبية الجماهيرية، فحزب “بهاراتيا جاناتا” الذي يقبض هيمنته على السلطة منذ 10 سنوات تقريبًا ويتحدث باسم مليار ونصف المليار نسمة، لم يحصل حتى على 50% من الأصوات طيلة الدورتين الماضيتين، إذ حصل في انتخابات 2014 على 31% من الأصوات، فيما حصل على 39% منها خلال انتخابات 2019.
🟠 ستبدأ #الهند، في 19 أبريل أكبر انتخابات في التاريخ، ومن المتوقع أن يشارك أكثر من 500 مليون شخص أو 65% من ما يقرب من مليار ناخب مؤهل في البلاد
ومن المتوقع أن يعود رئيس الوزراء الهندي #ناريندرا_مودي وحزبه #بهاراتيا_جاناتا إلى السلطة لولاية ثالثة.#جسور_بوست pic.twitter.com/K2XLbmLxij
— جسور بوست – Jusoor Post (@Jusoorpost) April 15, 2024
ويرى خبراء أن الحزب الحاكم لو فاز هذه المرة – وهو المرجح – فإن ذلك قد يكون بداية النهاية للنظم العلمانية والاشتراكية، وتحويل البلاد إلى دولة هندوسية عبر إجراء تعديلات دستورية جذرية تحظى بدعم وتأييد من النخبة السياسية في البلاد، التي في أغلبها لا يمكنها معارضة الحزب الحاكم ولا التصدي لمخططاته.
وتبنت الحكومة الهندية وقاعدتها الهندوسية خلال الآونة الأخيرة موجات متصاعدة من تضييق الخناق على المعارضة واستهداف الأقليات وفرض حالة من الرعب والترهيب لكل من يحاول التغريد خارج السرب، في محاولة لخروج الانتخابات بالنتائج المرجوة والحصول على الأغلبية لتحقيق أهدافهم العنصرية.
وكان مودي وقادة حزبه قد ألمحوا أكثر من مرة بشكل علني من خلال مهرجاناتهم الانتخابية عن هذا التوجه العنصري في محتواه، حيث قال مرارًا: “الذي رأيتموه حتى الآن هو فيلم قصير أو فاتح شهية، أما الفيلم الكامل والوجبة الرئيسية فستأتي بعد الانتخابات”، فيما أعلن زعماء الحزب بأنهم في حال فوزهم سيتم تغيير الدستور لإلغاء العلمانية وإعلان الهند دولة هندوسية، بجانب الكشف علانية عن نية إلغاء قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية، وتدشين قانون مدني موحد، وحظر المدارس الإسلامية وسحب الجنسية من الأقلية المسلمة في البلاد.
الأقلية المسلمة.. قلق من تراجع التمثيل السياسي
رغم أن المسلمين هم الأقلية الأكبر في الهند، قرابة 220 مليون مسلم، ويشكلون نحو 18% من سكان البلاد، فإن نسبة تمثيلهم في البرلمان لا تتجاوز حاجز الـ4.9% (يضم البرلمان المنتهية ولايته 27 نائبًا مسلمًا فقط من أصل 543 مقعدًا) ومع ذلك هناك تخوفات متصاعدة من تعرض تلك النسبة لمزيد من التراجع خلال الانتخابات الحاليّة في ظل الاستهداف الممنهج الذي يتعرضون له على أيدي الهندوس، سلطة وشعبًا.
ففي مدينة رامبور (شمال) التي يمثل المسلمون نصف ناخبيها تقريبًا، ليس هناك من يمثل المسلمين من بين أعضاء البرلمان عن تلك المدينة، حيث إن معظمهم من أشد المؤيدين لرئيس الوزراء ناريندرا مودي الذي يعادي المسلمين بشكل كبير، مغازلة لقاعدته الشعبية الهندوسية التي تتزايد يومًا تلو الآخر، ويقول النائب الهندوسي عن الولاية “سينغ لودهي”، وهو المرشح لولاية ثانية في تلك الانتخابات: “الجميع يريدون الانتساب إلى حزب بهاراتيا جاناتا”، فيما يؤكد الناشط والكاتب كانوال بهارتي (71 عامًا) وهو أحد أبناء “رامبور” أن فوز مرشح مسلم “لم يعد ممكنًا” بسبب هيمنة الحزب الحاكم.
يذكر أن آخر نائب مسلم في المدينة كان محمد عزام خان، ورغم أنه ضمن الساسة المخضرمين في البلاد، فإن كونه مسلمًا كان صداعًا في رأس أنصار الحزب الهندوسي الذي رفعوا ضده أكثر من 80 دعوى قضائية وأجبروه على الاستقالة من البرلمان، ثم حكم عليه العام الماضي بالسجن 3 أعوام بدعوى إلقائه خطاب كراهية بحق منافسين في حزب “بهاراتيا جاناتا”، وكان ذلك رسالة إنذار وترهيب لكل من يفكر من المسلمين في تكرار التجربة ذاتها.
وحاول الكاتب الهندي “ضياء السلام” من خلال إحدى مؤلفاته تفسير ظاهرة تراجع تمثيل المسلمين في البرلمان، لافتًا إلى أن الأقلية المسلمة وعلى مدار سنوات مضت وضعت ثقتها الكاملة في الأحزاب العلمانية، كونها القادرة على مواجهة الهندوس، والأجدر بتمثيلها برلمانيًا، حيث كان المرشحون العلمانيون يحظون بأصوات المسلمين، وهو ما أدى مع مرور الوقت إلى غياب واضح لقادة مسلمين في البلاد.
وهناك من يحمل الأحزاب العلمانية جزءًا من مسؤولية تراجع تمثيل المسلمين في البرلمان، كما ذهب النائب المسلم المنتهية ولايته، “أسد الدين أويسين”، الذي يرى أن الأحزاب العلمانية تقدم عددًا أقل من المرشحين المسلمين، خشية الفشل في جذب أصوات الناخبين الهندوس، لافتًا إلى أنه “من الصعب جدًا أن يفوز المرشحون المسلمون من أي حزب سياسي”، فيما اتهم الحزب الهندوسي ومن وراءه السلطة الحاكمة بتأجيج الخوف ضد المسلمين.
اضطهاد المسلمين.. بوابة مودي للسلطة
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كان قد استعرض تفصيلًا كيف حاول مودي توظيف الاضطهاد ضد المسلمين من أجل توسيع شعبيته لدى الهندوس وترسيخ أركان حكمه وبقائه في السلطة أطول فترة ممكنة، فما تعرض له المسلمون في عهده ما تعرضوا له قبل ذلك، وهو الخطاب الشعبوي الذي نجح رئيس الوزراء الهندي من خلاله في أن يتحول من مجرد بائع للشاي إلى زعيم وأيقونة لدى الهندوس.
وسخّر رئيس الحكومة كل ما لديه من إمكانيات وما لدى حكومته من صلاحيات لتهميش المسلمين واضطهادهم، حيث مرر عشرات القوانين التي تستهدفهم في المقام الأول، على رأسها قوانين الأحوال الشخصية وغلق المدارس الإسلامية وتقنين عملية بناء المساجد بدعوى مدنية الدولة وتوحيد قوانينها.
كما أعلن في 2019 عما يعرف بـ”قانون المواطنة” الذي يمنح الجنسية الهندية للهندوس والبارسيين والسيخ والبوذيين والجاينيين والمسيحيين الذين فروا إلى الهند – ذات الأغلبية الهندوسية – من أفغانستان وبنغلاديش وباكستان ذات الأغلبية المسلمة قبل 31 ديسمبر/كانون الأول 2014، وهو القانون الذي يتخوف المسلمون من أن يشكل تمييزًا إضافيًا ضدهم وأن يكون بوابة لسحب الجنسية ممن ليس لديهم وثائق في بعض الولايات الحدودية.
#الهندوس النازيون في ولاية غجرات يطالبون بجدار على غرار جدار برلين لعزل أحياء المسلمين التي وصفوها بباكستان الصغيرة وذلك لتبق محاصرة ومراقبة من قبل الشرطة!#طرد_العمالة_الهندوسيةpic.twitter.com/RMie1xI75M
— المسلمون في الهند (@MuslimsinIndia7) April 10, 2024
وحاول مودي تقديم كل قرابين الولاء والطاعة للطائفة الهندوسية، عبر خنق المسلمين واستهدافهم بشكل مباشر، من أجل دعمه في الانتخابات القادمة، ومنحه المزيد من الصلاحيات والسلطة، ما أدى في النهاية إلى تلويث سمعة بلاده وتراجعها على سلم الديمقراطية، حيث خفَّضت مؤسسة “فريدوم هاوس” عام 2021 تصنيف الهند من “حرة” إلى “حرة جزئيًا”.
كما سلطت المنظمة الحقوقية الدولية الضوء على تآكل الحريات والحقوق منذ وصول مودي وحزبه إلى السلطة، فيما وصفها معهد أبحاث أنواع الديمقراطية (V-Dem) بأنها “استبداد انتخابي” حيث وصل تراجع مستوى الديمقراطية بالهند في عهد هذا الحزب إلى أدنى مستوياتها تاريخيًا منذ فُرضت حالة الطوارئ في البلاد عام 1975.
ومن ثم لا يعول المسلمون كثيرًا على تلك الانتخابات، شبه المحسومة سلفًا – مالم تحدث مفاجآت لا مؤشرات بشأنها – وعلى العكس من ذلك ربما تشهد تغييبًا أكثر لهم عن المشهد السياسي، في ظل سلطة لا تكف عن التفنن في قمع الأقلية المسلمة رغم حجمها الكبير، ويتغنى أنصار حزبها الحاكم ليلًا ونهارًا بما ارتكبوه من مجازر سياسية وأخلاقية واجتماعية بحق أكثر من 200 مليون إنسان، هذا في الوقت الذي يُستقبل فيه زعيمهم العنصري استقبال الأبطال في العواصم العربية والإسلامية التي لا تحرك أنظمتها الحاكمة ساكنًا إزاء ما يتعرض له أبناء دينهم على مرأى ومسمع من العالم أجمع.