رغم تقدم الزمان، ما زال للاحتفال بالمولد النبوي الشريف في مختلف أنحاء البلاد التونسية مميزات وطقوس وخصوصيات اجتماعية ودينية تتميز بها تونس عن غيرها من البلدان، وتجعل من الاحتفال بالمولد النبوي مناسبة دينية فريدة، يلتقي فيها الأهل والأحباب في المنازل والمساجد يتناولون سيرة النبي محمد ويحتفلون بذكرى مولده كل على طريقته.
تاريخ الاحتفال
يمثل المولد النبوي الشريف مناسبة وقيمة دينية واجتماعية ترتبط بعادات وتقاليد الكثير من التونسيين، حيث يتمسكون بعاداتهم لإحياء هذه المناسبة، ويحتل الاحتفال بهذه الذكرى مكانة كبيرة في تونس، إذ يكاد يكون المناسبة الدينية الوحيدة التي تحرص الدولة وأركانها على إحيائها في طقوس ومراسم معلومة في جامعي عقبة والزيتونة المعمورين بذكر الله تعالى.
وتشير كتب التاريخ إلى أن بلاد تونس أول من شهدت الاحتفال بالمولد النبوي الشريف عام 912 ميلاديًا، حيث تم إعلان تأسيس الدولة الفاطمية في مدينة المهدية التونسية، وذلك قبل فتح الفاطميين لمصر عام 969 ميلاديًا وتأسيس القاهرة التي اتخذوها مركزًا لنشر ثقافتهم وعاداتهم، فيؤكد علماء التاريخ أن أول احتفال تونسي رسمي بالمولد يرجع إلى العهد الحفصي وتحديدًا في ظل عهد السلطان أبي فارس عبد العزيز (1394 – 1434).
يستقبل التونسيون المولد النبوي الشريف، في المساجد ومقامات الأولياء الصالحين، بقراءة القرآن الكريم وتبادل التهاني والتبريكات
وعند قدوم العثمانيين إلى تونس بعد نصف قرن من سقوط الدولة الفاطمية حافظوا على هذه العادات، وأضفوا عليها طابعًا رسميًا بتنظيم مواكب في قصور البايات (الباي لقب يطلق على حاكم تونس وهو لقب أقل من الباشا والخديوي ويمنحه السلطان العثماني) ويُدعى إليها كبار رجالات الدولة والأئمة والوعاظ وأمراء ووجهاء البلاد في تونس.
وتشهد تونس الآن احتفالين رئيسيين بهذه المناسبة: الأول في مسجد الزيتونة بالعاصمة، ويكون في اليوم الذي يسبق موعد المولد النبوي الشريف ويحضره رئيس البرلمان وعدد من الوزراء ونواب الشعب وكبار المسؤولين، والآخر يكون بمسجد عقبة بن نافع بمدينة القيروان ويحضره رئيس الدولة وعدد آخر من الوزراء ويتم أيضًا دعوة سفراء الدول الأجنبية في تونس.
حلقة تلاوة وذكر
ويستقبل التونسيون المولد النبوي الشريف في المساجد ومقامات الأولياء الصالحين، بقراءة القرآن الكريم وتبادل التهاني والتبريكات بين الأهل والأصدقاء والأحبة، وقراءة أو سماع سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، وبالأهازيج والمدائح النبوية وكلمات الثناء على الرسول الكريم.
القيروان.. مقصد الجميع
في هذا اليوم من كل سنة في 12 من ربيع الأنور، تكون القيروان مقصدًا لآلاف الزوار من جميع أنحاء البلاد وخارجها، للاحتفال بذكرى مولد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ذلك أن مدينة عقبة هي أول منارة للإسلام في المغرب الإسلامي موطئ العلماء ومثوى الصحابة الأولين والأولياء الصالحين.
في هذا التاريخ العزيز على المسلمين تتزين مدينة الصحابة وتلبس أحلى حللها لاستقبال زوارها – أحباء الرسول – فتلألأت الأضواء من أزقتها ومساجدها
وتعد مدينة القيروان في تونس مركز الاحتفالات بذكرى المولد النبوي الشريف، ويرجع ذلك إلى القيمة التاريخية لهذه المدينة التي تعد مصدر الثقافة الإسلامية في تونس التي شهدت أول احتفال للمولد النبوي في تاريخ تونس عام 1329هجريًا، ويكون الاحتفال عن طريق حلقات الذكر والإنشاد الديني والابتهالات، وتلاوة السيرة النبوية وتنظيم المسابقات القرآنية.
في يوم مولد النبي الأكرم يتحول جامع عقبة بن نافع وساحة باب الجلادين (المطلة على المدينة العتيقة من الجهة الغربية) ومقام “أبي زمعة البلوي” إلى مزار للوافدين والسكان المحليين، وتروي كتب التاريخ أن المقام يحوي رفات الصحابي الجليل أبو زمعة عبيد بن أرقم البلوي، وتشير الروايات إلى أن البلوي كان حلاق الرسول محمد، وأنه احتفظ بشعرات رأسه، وهي مدفونة معه.
توافد التونسيين على جامع عقبة
وفي هذا التاريخ العزيز على المسلمين تتزين مدينة الصحابة وتلبس أحلى حللها لاستقبال زوارها – أحباء الرسول – فتلألأت الأضواء من أزقتها ومساجدها، خاصة الجامع الكبير جامع عقبة بن نافع الذي يعد من أقدم وأضخم الجوامع في تونس والمغرب العربي، بناه القائد الأموي عقبة بن نافع بعد فتحه إفريقية (تونس حاليًّا) على يد جيشه سنة 50 هجريًا، وجعله مصلى وملتقى.
الهمزية في جامع الزيتونة الأعظم
فضلًا عن القيروان، يتوافد التونسيون أيضًا إلى جامع الزيتونة المعمور في قلب مدينة تونس العتيقة لحضور موكب قراءة متن “الهمزية” في مدح الرسول للإمام شرف الدين محمد البصيري، ويعود تأسيس جامع الزيتونة إلى عام 79هجريًا الموافق لـ699 ميلاديًا، على يد حسان بن النعمان أحد قادة الفتوحات الإسلامية، ويعتبر أول جامعة إسلامية تخرج فيها عدد من كبار العلماء والفقهاء التونسيين والعرب منهم المؤرخ ابن خلدون وابن عرفة إمام تونس ومحمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير ومحمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر.
و”الهمزية” كما تعرف اختصارًا في تونس هي قصيدة من 435 بيتًا في مدح الرسول، كتبها الإمام شرف الدين البصيري، وهو من أصل أمازيغي صنهاجي عاش في مصر من 608هـ/1213م إلى 696هـ/1295م، وتُقرأ الهمزية في إنشاد جماعي، حيث يتزود كل شخص بنسخة من القصيدة من مكتبات عتيقة قريبة من جامع الزيتونة، بينما يحفظها أئمة الزيتونة عن ظهر قلب.
أكلة “العصيدة”
من مظاهر احتفال التونسيين بالمولد النبوي الشريف أيضًا طهي العصيدة، وهي الأكلة التي يروى أن السيدة آمنة أم الرسول صل الله عليه وسلم قد طهتها بعد مولده وذلك تباركًا وتفاؤلًا بهذه الأكلة، ومع الوقت أصبحت لهذه الأكلة أشكال مختلفة بحسب الجهة والمنطقة، لكن الأشهر منها في هذه المناسبة هي عصيدة الزقوقو.
وتتفنن نساء تونس في إعداد أكلة “عصيدة الزقوقو” التي تتكون من الزقوقو (الصنوبر الحلبي) والسكر والدقيق (الطحين) والنشا والبيض، إضافة إلى ماء الورد والكريمة والفواكه الجافة للزينة، ويتم إعدادها ليلة المولد النبوي الشريف، وهي من العادات التي تحافظ عليها الأسر التونسية، كما يتم يوم المولد النبوي تبادل الزيارات الأسرية، ويتبادلون العصائد المزخرفة بحبات الفاكهة ولوز وبندق وبوفريوة وحلوى.
العصيدة أكلة التونسيين في المولد
وعلاوة على هذا النوع من العصيدة توجد العصيدة “العربي” كما يسميها البعض وتتكون من دقيق السميد أو الفرينة وأيضًا من العسل والسمن أو من السكر والزبدة، وتُزين بالفواكه الجافة وحلويات الزينة كل حسب رغبته ومقدرته الشرائية، وتُدخل هذه الاحتفالات نشاطًا على الأسواق والمتاجر المختصة في بيع الفواكه الجافة.
ختان الأطفال
تبركًا بهذه الذكرى وبمولد النبي الأكرم، يحرص الأهالي في تونس على ختان أطفالهم ليلة المولد أو في الصباح، وتغتنم العائلات التونسية هذه المناسبة للاحتفال بختان أطفالها تيمنًا ببركة وخير هذه الذكرى، حيث تكثر الأفراح وتتعالى زغاريد النسوة ويجتمع شمل الأهل والأحباب في أجواء تعبر عن الألفة والتضامن.
يوم ختانه يرتدي الطفل لباسًا تقليديًا أبيض من رأسه إلى أخمص قدميه، ثم يذهب به إلى العيادة أو يأتيه الطبيب إلى منزله حيث هو، ورغبة في التخفيف عن الطفل ومنعه من التفكير في الألم الذي يشعر به، تقدم له الهدايا والمال والحلوى للحفاظ على هدوئه.
جمعية خيرية تشرف على ختان الأطفال
ومن العادات الحميدة والجميلة التي يتناقلها المجتمع التونسي في هذه المناسبة أن تتكفل إما الجمعيات الخيرية أو العائلات الغنية بمهمة ختان أطفال العائلات المعوزة والمحتاجة، ويقام لهم حفل ختان جماعي وفيه كل مظاهر البهجة والفرحة وترتفع الزغاريد وحتى الأناشيد الدينية فرحًا بالمطهر الذي لا ينقصه شيئًا، فشأنه شأن أبناء العائلات التي يكون باستطاعتها ختان أولادها.