بعد شهر واحد فقط من الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي تجاوز الآن الـ 6 أشهر، حذَّر مقرر الأمم المتحدة الخاص المعنيّ بحقوق الإنسان في الحصول على مياه الشرب الآمنة وخدمات الصرف الصحي، بيدرو أروجو أجودو، استخدام “إسرائيل” المياه كسلاح في حربها ضد الفلسطينيين، معتبرًا أن كل ساعة تمرّ تعرّض سكان القطاع لخطر الموت عطشًا ومرضًا، مشيرًا إلى أن حصيلة القتلى الناجمة عن نقص المياه وتأثيرها على الصحة العامة يمكن أن تتجاوز عدد ضحايا القصف الإسرائيلي.
رغم ما حملته تحذيرات أجودو من بوادر كارثة إنسانية تحققت بالفعل، إلا أن أزمة المياه في غزة ليست جديدة، فهي مستمرة منذ سنوات، حيث نشأ جيل من الصبيان والفتيات دون الحصول على المياه الكافية لتلبية الاحتياجات الأساسية، وعمد الاحتلال على مدار عقود إلى استخدامها كأداة للموت وليست للحياة، ووصلت الأمور ذروتها في الحرب الأخيرة، حيث يزداد الوضع اليوم سوءًا أكثر من أي وقت مضى.
جذور الخلل
سمعنا جميعًا عن الصراع المستمر منذ عقود بين “إسرائيل” والفلسطينيين على الأرض، لكن هناك معركة أخرى مستمرة، وهي المعركة على المياه التي تقول جماعات حقوق المياه إن “إسرائيل” تستخدمها للسيطرة على الفلسطينيين وتجريدهم من أراضيهم.
وفق ما ذكرت بعثة تقصّي الحقائق التابعة للأمم المتحدة عام 2009، فإن “الحرمان من المياه وتدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي كان منذ فترة طويلة جزءًا من الجهود الإسرائيلية، في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، لجعل الحياة اليومية أكثر صعوبة بالنسبة إلى السكان المدنيين”.
وفي الضفة الغربية المحتلة، حيث تشهد معدل هطول أمطار سنوي يبلغ 615 مليمترًا، وهو أكثر من العاصمة البريطانية لندن، إلا أنها تشتهر بالظروف القاحلة وندرة المياه، حيث تسيطر “إسرائيل” على غالبية موارد المياه العذبة فيها.
يحصل الفلسطينيون هناك على كمّية غير كافية من المياه لتلبية احتياجاتهم الأساسية، تصل في المتوسط إلى حوالي 73 لترًا، وهذا أقل بكثير من الحد الأدنى الذي حدّدته منظمة الصحة العالمية وهو 100 لتر.
وفي غزة، ظلت موارد المياه شحيحة للغاية منذ فترة طويلة، حيث تركت عقود من الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينيين هناك يكافحون من أجل الحصول على المياه النظيفة، وكان للحصار والعمليات العسكرية المستمرة منذ 17 عامًا تأثير مدمّر على إمدادات المياه.
يتمتع الإسرائيليون الذين يعيشون في المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية بإمدادات مياه وافرة، تتجاوز أضعاف كمية المياه التي تستهلكها القرى والبلدات الفلسطينية.
ومنذ فترة طويلة، رأينا كيف تُستخدم سياسات “إسرائيل” التمييزية في مجال المياه للضغط على الفلسطينيين وترهيبهم، ولنأخذ على سبيل المثال مخيم عايدة للاجئين في مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، حيث لا تتدفق المياه خلال بعض فصول الصيف إلا عبر أنابيب الاحتلال كل أسبوعَين.
وكما هو الحال في أجزاء كثيرة من الضفة الغربية، يقوم الناس بتخزين المياه في خزّانات على أسطح منازلهم، وعندما ينفد الماء ترتفع التكاليف بشكل كبير، وتتضاعف المعاناة، في حين أن المستوطنين على مرأى من منازل اللاجئين لا يعانون من ندرة المياه على الإطلاق.
هذه المياه الشحيحة التي يحصل عليها الفلسطينيون ليست بالضرورة نظيفة أو آمنة للشرب، فحتى قبل حملة القصف الحالية كان حوالي 97% من إمدادات المياه في غزة ملوثة وغير صالحة للاستهلاك البشري، ما أدّى إلى خلق أزمة صحية غير مسبوقة.
ويجعل ارتفاع درجات الحرارة ومستويات سطح البحر الحياة أكثر صعوبة، بينما في “إسرائيل” لا داعي للقلق بشأن جفاف الصنابير، حيث يحصل الإسرائيليون على ما متوسطه 300 لتر من المياه النظيفة للشخص الواحد يوميًّا، وفقًا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع لهيئة الأمم المتحدة.
تعود جذور هذا الخلل الصارخ إلى الطريقة التي سيطرت بها “إسرائيل” على مصادر المياه في المنطقة، والتي تتمثل في مصدرَين رئيسيَّين هما نهر الأردن وطبقة المياه الجوفية الجبلية، التي تمتد على جزء كبير من الضفة الغربية وأجزاء من “إسرائيل”.
وفي غزة، لا يمكن لمصدر المياه العذبة الوحيد في غزة، وهي طبقة المياه الجوفية الساحلية الممثَّلة في الحوض الجوفي الساحلي الممتد على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من “إسرائيل” عبر غزة إلى مصر، تلبية الطلب المتزايد لأكثر من مليوني شخص يستغلون جزءًا بسيطًا منها، بينما يستغل الاسرائيليون الجزء الأكبر.
ومع ذلك، تم استنفاد هذا المصدر الطبيعي الوحيد للمياه للفلسطينيين الذين يعيشون في غزة بسبب الإفراط في استخراجه، ما سمح لمياه البحر بالتسرُّب إليه، إلى جانب مياه الصرف الصحّي غير المعالجة، والمواد الكيميائية والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية في الحروب المميتة التي يشنّها الاحتلال على القطاع المحاصر منذ عقود.
ومن أجل إيجاد مصدر آخر صالح للاستخدام الآدمي، كانت تحلية مياه البحر ومعالجتها أحد الخيارات الاستراتيجية التي اختارتها سلطة المياه الفلسطينية، للمساعدة في تزويد أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع الساحلي -بما في ذلك مليون طفل- بمياه الشرب الآمنة، وهي أمر ضروري للحدّ من الإفراط في استخراج المياه من طبقة المياه الجوفية الساحلية، لمنع وقوع كارثة بيئية وبدء عملية بطيئة لاستعادة طبقة المياه الجوفية.
في عام 2012، حذَّرت دراسة للأمم المتحدة من أن طبقة المياه الجوفية في قطاع غزة قد تصبح غير صالحة للاستخدام بحلول عام 2017، مع عدم إمكانية إصلاح الأضرار بحلول عام 2020، ووفق بعض التقديرات يعتبر الآن 95% من المياه المستخرجة من طبقة المياه الجوفية الساحلية غير صالحة للاستهلاك البشري.
مصادر المياه هذه عابرة للحدود التي وضعها الاحتلال، وهو ما يعني أساسًا أنه بموجب القانون الدولي يجب تقاسمها بالتساوي، لكن “إسرائيل” تمنع الفلسطينيين من الحصول على المياه من نهر الأردن.
أما بالنسبة إلى طبقة المياه الجوفية الجبلية، عززت “إسرائيل” سيطرتها عليها وفقًا لاتفاقيات أوسلو التي وقّعها القادة الفلسطينيون والإسرائيليون في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وانتقدها الكثيرون باعتبارها أحادية الجانب، ففي حين اعترفت بحقّ الفلسطينيين في الحصول على المياه، ووعدتهم بإمكانية الوصول إلى موارد المياه، تخضع البنية التحتية للمياه بالكامل تقريبًا لسيطرة “إسرائيل”.
كان من المفترض أن تتم إدارة طبقة المياه الجوفية الجبلية من خلال الاستخدام العادل للموارد المائية المشتركة، وبدلًا من ذلك منحت الاتفاقية “إسرائيل” حق الوصول إلى هذه المياه بنسبة 80%، مقابل حصول الفلسطينيين على 20%، وكان من المفترض إنهاء هذا البند خلال 5 سنوات، لكن بعد مرور ما يقرب من 30 عامًا لا يزال ساريًا.
ومنذ عام 1967، شرعت سلطات الاحتلال في تعزيز سيطرتها على جميع موارد المياه والبنية التحتية وتتولى توزيعها، حتى باتت تسيطر على كل المياه الواقعة غرب نهر الأردن تقريبًا، وكان لذلك عواقب مدمّرة على الفلسطينيين، فقد أجبرت ندرة المياه العديد منهم على ترك أراضيهم والبحث عن سبل العيش في أماكن أخرى.
وفي عام 2020، ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية أن إحدى أقدم المدن في العالم، وهي مدينة أريحا، يمكن أن تشهد انقراض أحد أجود أنوع الموز الشهير، وذلك لأن المزارعين الفلسطينيين لا يحصلون على ما يكفي من المياه لتغذية محاصيلهم، يُضاف إلى ذلك هدم عشرات الآبار وأنظمة الريّ الأخرى.
كما يُمنع الفلسطينيون من حفر آبار مياه جديدة أو تركيب مضخّات أو تعميق الآبار الموجودة، وغالبًا ما تكون أنظمة تجميع مياه الأمطار المملوكة للفلسطينيين، مثل الصهاريج، عُرضة للتدمير بشكل روتيني من قبل جيش الاحتلال، بحجّة أنها بُنيت دون ترخيص، وكذلك البنية التحتية ومرافق المياه الأخرى.
وفي المنطقة “ج”، وهي أراضي الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة الاحتلال الكاملة، أصدر جيش الاحتلال عشرات الأوامر العسكرية ضد مرافق المياه، وهدم أكثر من 270 منشأة للمياه والصرف الصحي يستخدمها الفلسطينيون في السنوات الخمس الماضية، بحجّة أن البنية التحتية غير قانونية.
وجعل ارتفاع الطلب ومحدودية الوصول إلى المياه الفلسطينيين يعتمدون بشكل كبير على شراء أكثر من 80% من إمدادات المياه السنوية من شركة المياه الإسرائيلية المعروفة بالعبرية باسم “مكاروت”، بتكلفة أعلى بكثير، وهو ما لا يستطيعون تحمله، رغم أن معظم هذه المياه يتم استخراجه من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
في المقابل، يتمتع الإسرائيليون الذين يعيشون في المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية بإمدادات مياه وافرة، تتجاوز أضعاف كمية المياه التي تستهلكها القرى والبلدات الفلسطينية، ما يسمح بازدهار كروم العنب وبساتين الزيتون ومزارع التمور والمزارع الحيوانية.
وليس من المستغرب أن تعمل سياسات المياه الإسرائيلية على تسريع عملية الاستيطان الذي تضاعف أكثر من 7 مرات منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، وتضاعفت معها كمية المياه المستهلكة، ما اضطر الغالبية العظمى من المزارعين الفلسطينيين إلى المغادرة، واستفاد المستوطنون غير الشرعيين أكثر من أي شخص آخر.
انخفض متوسط استهلاك المياه من جميع المصادر ولجميع الاحتياجات (بما في ذلك الطبخ والنظافة) إلى ما بين لترَين إلى 3 لترات من الماء يوميًّا، وفقًا لتقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
وفي عام 2019، قال محقق تابع للأمم المتحدة إن حرمان ملايين الفلسطينيين من المياه يعني أن “إسرائيل” تسرقها، لكن المثير للسخرية أن “إسرائيل” تعتبَر رائدة على مستوى العالم عندما يتعلق الأمر بإدارة المياه وكفاءتها، بل أنها حصلت على لقب “قوة عظمى في الاستدامة”.
ويعطينا البحث الذي أجراه الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد مايكل ماسون، حول آثار تغير المناخ على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، نظرة ثاقبة على سيطرة “إسرائيل” على الموارد المائية، حيث يمكن رؤية التناقض الصارخ وعدم المساواة عند المرور بقرية فلسطينية يكافح سكانها للوصول إلى المياه، ثم تقترب من إحدى المستوطنات فترى حمّامات سباحة وغيرها الكثير من مظاهر الإسراف المتعمّد في استخدام المياه.
تكتيك ممنهج
بعد إبقاء سكان غزة على شفا كارثة إنسانية لما يقرب من عقدَين من الزمن، قررت “إسرائيل” إسقاطهم في هاوية أعمق، حيث أغلقت أنابيب المياه التي تغذّي القطاع في السابع من أكتوبر، كجزء من نيّتها ارتكاب “إبادة جماعية”، وهو ما يؤدي إلى تفاقم النقص الحالي في المياه المتاحة للسكان المدنيين بشدة.
ومنذ بداية الحرب الجارية، بدا أن حرمان غزة من المياه أسلوبًا ممنهجًا، فوفقًا لتقرير صادر عن اليونيسيف في 17 أكتوبر/ تشرين الأول، كان إنتاج المياه في غزة يبلغ 5% فقط من مستوياته الطبيعية في تلك المرحلة.
ولم يستأنف الاحتلال منذ ذلك الحين ضخّ المياه عبر الأنابيب إلى جنوب القطاع المكتظّ بالسكان، في حين دخلت بعض المياه عبر المعابر، لكنها لم تصل إلى الجميع، ولم تكفِ لتلبية احتياجات السكان، ما يتطلب من الكثيرين الاعتماد على إمدادات المياه المحلية الخاضعة في الأساس لسيطرة الاحتلال
وكثّفت “إسرائيل” حصارها المستمر، وهو الأطول في التاريخ الحديث، في انتهاك واضح للقانون الإنساني الدولي، إلى حد “الحصار الكامل” على حدّ تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، دون أي إشارة إلى وقفه، وأُغلقت مرافق الصرف الصحي وتحلية المياه في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول بسبب نقص الوقود والكهرباء، وأصبحت غير صالحة للعمل إلى حدّ كبير منذ ذلك الحين، وفقًا لسلطة المياه الفلسطينية.
ويشير هذا التحول نحو تحقيق نية الاحتلال المبطَّنة التي عبّر عنها غالانت بعبارات لا لبس فيها، إلى خطة لإيصال الحصار إلى وجهته النهائية المتمثلة في التدمير المنهجي للفلسطينيين في غزة، من خلال قتلهم وتجويعهم وقطع الكهرباء والمياه التي تبيعها لسكان القطاع المحاصر، وقصف مستشفياتهم، ومنع دخول أي إمدادات إلى الجيب المحاصر.
مشهد يومي في #غزة.. طفل فلسطيني يحاول تتبّع قطرات المياه علّها تروي شيئًا من ظمئه، في ظل الحصار والتجويع والقـ،ـصف الإسرائيلي#غزة_الآن pic.twitter.com/MdRKOihnGl
— نون بوست (@NoonPost) January 19, 2024
استخدام المياه كسلاح أمر معترف به في الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية في يناير/ كانون الثاني الماضي، وورد هذا الادّعاء أيضًا على لسان باحثين آخرين وشخصيات حقوقية، بما في ذلك المدير السابق لمكتب نيويورك لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، كريغ مخيبر، في خطاب استقالته في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وكجزء من سياسة الاحتلال المتمثلة في تعميق الكارثة الإنسانية، جعلت “إسرائيل” سكان غزة يعتمدون عليها في تلبية متطلبات الحياة الأساسية، فهي تبيعهم مثلًا نحو 10 ملايين لتر مكعب من المياه في غزة كل عام، وتوفر محطات تحلية مياه البحر الثلاث التي تمّ بناؤها هناك ما يزيد قليلًا عن نصف تلك الكمية، فقد كانت تنتج قبل السابع من أكتوبر 7% من إمدادات المياه في غزة، لكن عندما لا يكون هناك كهرباء أو وقود لا يمكن لهذه المحطات أن تعمل، كما تحتاج مرافق التخلص من مياه الصرف الصحي ومضخات المياه للطاقة.
وبحسب شركة توزيع الكهرباء في غزة، توقفت جميع خطوط التغذية العشرة التي تزوّد السلطة الفلسطينية بالكهرباء من “إسرائيل” إلى غزة منذ يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد أن تضررت على ما يبدو جراء إطلاق الصواريخ من القطاع.
وأعلن وزير الطاقة والبنية التحتية يسرائيل كاتس، في ذلك اليوم، عن قرار إسرائيلي بوقف تزويد القطاع بالكهرباء، ما أدّى بالفعل إلى توقف العمليات في العديد من مرافق تحلية المياه ومعظم محطات ضخّ مياه الصرف الصحي البالغ عددها 65 محطة، ما زاد من خطر فيضانات الصرف الصحي.
وفي 14 أكتوبر/ تشرين الأول، ذكرت منظمة الصحة العالمية أن قطع الكهرباء يعني عدم وجود طاقة كافية لتشغيل آبار المياه ومحطات تحلية وتنقية المياه وخدمات الصرف الصحي، أي أن قدرتها محدودة وعرضة للإغلاق، ومع عدم إمكانية الوصول إلى الوقود أو الكهرباء، أصبحت معالجة المياه وتحليتها شبه مستحيلة.
لم يتمكن أولئك الذين يتكدسون في الملاجئ المتناثرة على أطراف القطاع من الحصول إلا على حوالي نصف لتر من الماء للشخص الواحد يوميًّا لجميع الأغراض.
وتواصل الغارات الجوية الإسرائيلية تدمير البنية التحتية الحيوية للمياه في غزة، حيث تعرضت مرافق المياه والصرف الصحي لأضرار بالغة، بما في ذلك الخزانات في غزة ومخيم جباليا للاجئين ورفح، ودمّرت الغارات الجوية الإسرائيلية 6 آبار مياه و3 محطات لضخّ المياه وخزّان مياه ومحطة لتحلية المياه تخدم أكثر من 1.1 مليون شخص، في الأسبوع الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني وحده.
ولا يزال النقل بالشاحنات هو الوسيلة الرئيسية لتوزيع المياه في جميع أنحاء القطاع، لكن بما أن الغارات الجوية المدمرة تجعل الطرق مستحيلة، فقد أصبح من الصعب على نحو متزايد الاعتماد على شاحنات المساعدات، التي لم تعد تحمل معها الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات، أو مواصلة حركة سيارات الإسعاف أو ضخّ المياه من الأرض.
وحتى خلال “الهدنة الإنسانية” التي استمرت 7 أيام في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عندما سُمح بدخول 200 شاحنة مساعدات يوميًّا، أي أقل من نصف العدد الذي كان يدخل يوميًّا قبل الحرب، إلى غزة، واجهت زجاجات المياه النظيفة نقصًا حادًّا في المعروض، ولم يكن هناك أي تحسن تقريبًا في حصول سكان شمال غزة على المياه لأغراض الشرب والأغراض المنزلية.
لاحقًا، توقفت عمليات نقل المياه بالشاحنات تمامًا في معظم المناطق بسبب انعدام الأمن والغازات الجوية التي تجعل الطرق مستحيلة، وأصبح البائعون من القطاع الخاص، الذين يديرون محطات صغيرة لتحلية المياه وتنقيتها، والتي تعمل في الغالب بالطاقة الشمسية، هم المورّدون الرئيسيون لمياه الشرب النظيفة بتكلفة عالية ودون مراقبة الجودة.
واعتبارًا من 12 أكتوبر/ تشرين الأول، لم يعد بإمكان معظم السكان في قطاع غزة الحصول على مياه الشرب من مقدّمي الخدمات أو المياه المنزلية عبر خطوط الأنابيب، يُضاف إلى ذلك أن المياه المعبّأة أو المستوردة غير متوفرة إلى حد كبير، كما أن سعرها جعلها غير ميسورة التكلفة بالنسبة إلى معظم الأسر التي تعتمد عليها للشرب.
نتيجة لذلك، وفي غضون أسبوعَين من بدء العدوان الإسرائيلي الحالي على القطاع المحاصر، انخفض متوسط استهلاك المياه من جميع المصادر ولجميع الاحتياجات (بما في ذلك الطبخ والنظافة) إلى ما بين لترَين و3 لترات من الماء يوميًّا، وفقًا لتقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ولتقدير حجم هذه المأساة، يستخدم المرحاض حوالي 6 لترات في المرة الواحدة، ويستخدم دوش الاستحمام ما يقرب من 10 لترات في الدقيقة.
وفي بعض المناطق، اضطرت وكالة الأونروا إلى تقنين استهلاك المياه الصالحة للشرب، بحيث لا توفر سوى لتر واحد من الماء للشخص في اليوم، في حين لم يتمكن أولئك الذين يتكدسون في الملاجئ المتناثرة على أطراف القطاع من الحصول إلا على حوالي نصف لتر من الماء للشخص الواحد يوميًّا لجميع الأغراض، ويُقارَن هذا بـ 15 لترًا من المياه التي أوصت بها منظمة الصحة العالمية كحدٍّ أدنى للاحتياجات البشرية، و50 إلى 100 لتر للشخص الواحد يوميًّا لتلبية الاحتياجات الأساسية وفي حالة ظهور مشاكل صحية.
مخاطر تتجاوز التعطيش
جعل هذا الاعتماد شبه الكامل في الحصول على المياه والطاقة غزة عرضة بشكل خاص لاستخدام الاحتلال الموارد الأساسية كسلاح، فعادة ما تشتري السلطة الفلسطينية حوالي 30% من إجمالي إمدادات المياه في غزة من “إسرائيل”، لكن حتى هذه الكمية أوقفتها سلطات الاحتلال مبكرًا بعد أيام قليلة من عدوانها الأخير.
ومنذ بداية الحصار، يستهلك الفلسطينيون المزيد والمزيد من المياه من مصادر غير آمنة، فقد لجأوا إلى استهلاك المياه قليلة الملوحة المستخرجة من الآبار الزراعية، ما أدّى إلى زيادة التعرض للمبيدات الحشرية والمواد الكيميائية الأخرى، وعرّض الكثيرين منهم لخطر الموت أو تفشّي الأمراض المُعدية.
وذكرت اليونيسف، التي افتتحت محطة تحلية المياه عام 2017، أن الناس يضطرون إلى شرب مياه البحر، وهي شديدة الملوحة، وملوثة بمياه الصرف الصحي الناتجة عن تصريف أكثر من 120 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي غير المعالجة يوميًّا.
وتتدفق مياه الصرف الصحي في الشوارع وتلوث الخيام التي أقيمت على عجل، والتي يعيش فيها الآن مئات الآلاف من الأشخاص في جميع أنحاء جنوب ووسط غزة، وتواجه أكثر من نصف مليون امرأة وفتاة صراعات خاصة يصعب الحديث عنها علنًا في هذا المجتمع التقليدي، مع محاولتهن العثور على منتجات الدورة الشهرية والمراحيض والمياه.
وفي نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، أعرب تقرير داخلي لوزارة الخارجية الأمريكية عن قلقه، من أن 52 ألف امرأة حامل وأكثر من 30 ألف طفل تحت سن 6 أشهر أُجبروا على شرب المياه الملوثة بمياه الصرف الصحي أو قليلة الملوحة، أي أنها تحتوي على الملح.
ويعدّ شرب المياه الملوثة أو قليلة الملوحة أمرًا خطيرًا في كل الأحوال، لكن بشكل خاص بالنسبة إلى الحوامل وأجنّتهن والأطفال الصغار، الذين هم أكثر عرضة لخطر الإصابة بالعدوى والأمراض والمشكلات الصحية طويلة الأمد، يمكن لهذه المخاطر أن تهدد الحياة.
وبعد الشهر الأول من الحصار المفروض على القطاع، أدّى نقص المياه النظيفة إلى “مخاوف جسيمة” لدى خبراء الصحة العامة من إعاقة الوصول إلى الرعاية الصحية، وتفشٍّ وشيك للأمراض الفتّاكة في غزة، بما في ذلك الأمراض المنقولة بالمياه مثل الكوليرا والتيفوئيد.
وسرعان ما أصبحت هذه المخاوف واقعًا ملموسًا مع تزايد عدد النازحين الفارّين من الشمال، والذين تجاوز عددهم أكثر من مليون نازح في مدينة رفح جنوب غزة بحلول نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وأصبحت العواقب واضحة مع عدم قدرة بعض الملاجئ في الجنوب على توفير سوى مرحاض واحد لكل 486 شخصًا في المتوسط، مع القليل من المياه الجارية أو عدم وجودها على الإطلاق، في حين يخدم حمّام واحد في جميع أنحاء غزة ما متوسطه 4 آلاف و500 شخص.
ومنذ ذلك الحين، أُصيب الفلسطينيون في قطاع غزة بإعياء شديد بسبب تفشّي الجوع والمرض، فضلًا عن الجروح الجسدية التي لحقت بما يقرب من 77 ألف شخص، والإجهاد العقلي الناجم عن القصف المتواصل الذي أودى بحياة أكثر من 34 ألف شخص، وكل هذا يجعل الفلسطينيين في غزة أكثر عرضة للأمراض التي تنقلها المياه.
ومع مرور الوقت، خلقت هذه الظروف السيّئة أزمة صحية عامة كان الأطفال أول ضحاياها، حيث أدّى استهلاك المياه الملوثة إلى زيادة كبيرة في خطر الإصابة بالعدوى البكتيرية مثل الإسهال، مع أكثر من نصف الحالات المبلغ عنها لدى الأطفال دون سن الخامسة، وحتى قبل العدوان الأخير، كان كل طفل من 4 أطفال في غزة يعاني من مرض الإسهال الذي يقتل المزيد من الأطفال دون سن الخامسة الذين يعيشون في مناطق النزاع والعنف.
وغالبًا ما تكون المياه في غزة ملوثة بمستويات عالية من النترات نتيجة الجريان السطحي الزراعي، ويسبّب التلوث بالنترات حالة تُسمّى متلازمة الطفل الأزرق أو ميتهيموغلوبينية الدم عند الرضع، عند خلطها في حليب الأطفال، والتي يمكن أن تسبّب الغيبوبة والوفاة.
يمكن أن تسبّب النترات الموجودة في مياه الشرب أيضًا الولادة المبكرة، ما يزيد من حاجة الأطفال حديثي الولادة إلى الحصول على وحدات العناية المركزة أو الحضانات، لأن المستشفيات في غزة تواجه خطر نفاد الطاقة اللازمة لإبقاء هؤلاء على قيد الحياة.
وتشير تقديرات جماعات حقوق الإنسان والأمم المتحدة إلى أن حوالي ربع الأمراض غزة سببها تلوث المياه، والواقع أن خبراء الصحة العامة يحذرون من أن نصف مليون شخص -ربع سكان غزة- قد يموتون بسبب المرض في غضون عام واحد، والآن بعد أن انهار نظام الرعاية الصحي، لم تعد هناك سوى وسائل قليلة لعلاج أولئك الذين يُصابون بالمرض، وأصبحت كارثة إنسانية شاملة في متناول اليد.
وهناك تكتيك آخر مثير للقلق -وربما طويل الأمد- شرعت قوات الاحتلال في استخدامه في الأشهر الأخيرة، وهو ضخّ مياه البحر إلى أنفاق غزة، بهدف ظاهري تمثّلَ في تدمير الأنفاق والقضاء على مقاتلي حماس، لكن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية ذكرت أن هذا الإجراء يمكن أن “يتسبّب في كارثة بيئية، ويهدد أيضًا بتدمير متطلبات الحياة الأساسية بما في ذلك إمدادات المياه في غزة”.
ومن المأساوي أن الوفيات والإصابات غير المسبوقة تقريبًا التي شهدناها حتى الآن من المرجّح أن تكون البداية فقط، وبالنظر إلى صراعات مماثلة في جميع أنحاء العالم، يعرف خبراء الصحة العامة أنه من المرجّح أن نرى عددًا أكبر من الأطفال يموتون جوعًا وعطشًا مقارنة بالرصاص والقنابل.