البوسنة.. البلد الذي لا يزال شبح الماضي يطارده

men-dont-cry-kviff

ترجمة وتحرير: نون بوست

قمنا بزيارة سوق مركلة في وسط مدينة سراييفو، حيث وجدنا تجارا يقفون أمام  طاولات العرض في انتظار الزبائن، في حين كانوا يعرضون ما لذ وطاب من منتجات على غرار اليوسفي والتفاح، فضلا عن المكسرات والخضر. بالإضافة إلى هذه الأصناف الشهية من الفواكه، لفت نظرنا البريق الصادر من جدران السوق التي كانت تزدان بلون كستنائي. خلال هذا اليوم، كانت أشعة الشمس قوية مما جعلها تنعكس على النصب التذكاري، الذي نقشت عليه أسماء ضحايا مجزرة سوق مركلة التي جدت في سنة 1994.

في الأثناء، التقينا امرأة تملك كشكا في وسط هذا السوق، تدعى بيرا بيسلاجيتش، التي صرحت قائلة:  “كنت في الثلاثين من عمري، آنذاك، وكنت أبيع قطع مرطبات صغيرة من أجل توفير المال لعائلتي. وفي ذلك اليوم، نجوت من الموت بأعجوبة، وذلك بفضل حقيبة الظهر التي كنت أرتديها والتي أنقذتني من شظايا الخشب والبراغي المتطايرة بسبب عمليات القصف التي نفذتها القوات الصربية “. وأضافت بيسلاجيتش أن “النصب التذكاري يعيد إلى الأذهان ذكريات ذلك اليوم المرعب”.

قصة الضحايا

بعد مرور أكثر من 20 سنة من مجزرة سوق مركلة، أصدرت  المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي حكما بالسجن مدى الحياة في حق الجنرال البوسني السابق، راتكو ملاديتش، نظرا لأنه يعد المسؤول الرئيسي على جرائم الإبادة الجماعية في حق مسلمي البوسنة وحصار العاصمة البوسنية سراييفو لمدة أربع سنوات. وقد شاهدت بيرا بيسلاجيتش محاكمة ملاديتش على التلفاز. وفي هذا الصدد، أفادت بيسلاجيتش أن “ملاديتش نال جزائه”. ولعل الكثير من أهالي البوسنة والهرسك يشاطرون بيسلاجيتش موقفها من الحكم الصادر في حق الزعيم الصربي السابق.

ترزح البوسنة والهرسك، التي تعد 3.5 مليون ساكن، تحت وطأة الانقسام، حيث لا تنقسم البلاد إلى أجزاء صربية وكرواتية بوسنية فحسب، بل تعاني الأجزاء الكرواتية البوسنية بدورها من التفكك

على الرغم من أن البوسنيين لم يقيموا سهرات صاخبة احتفالا بالحكم الصادر في حق ملاديتش، بادرت مجموعة من النساء الناجيات من مذبحة سربرنيتشا بالتصفيق أمام  مقبرة ومركز سربرنيتشا – بوتوكاري التذكاري عقب الإعلان عن سجن الجنرال الصربي السابق. عموما، أعرب معظم البوسنيين عن ارتياحهم للحكم العادل الذي صدر في حق ملاديتش، الذي جاء متأخرا نوعا ما. أما في جمهورية صرب البوسنة، فقد كانت ردود فعل المواطنين مختلفة تماما. وحيال هذا الشأن، صرح رئيس جمهورية صرب البوسنة، ميلوراد دوديك أن “سجن ملاديتش يعد صفعة على وجه الضحايا الصرب، حيث يعتبر ملاديتش بمثابة بطل أنقذ الصرب من مجزرة محققة”. من جهتهم، يرى  أنصار ملاديتش أن المحكمة الجنائية الدولية غير محايدة .

مؤخرا، شيدت البوسنة والهرسك تمثالا للمندوب الروسي لدى الأمم المتحدة الراحل، فيتالي تشوركين. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الدبلوماسي الروسي، الذي توفي  في شهر شباط/فبراير الماضي، رفع حق الفيتو ضد مشروع قرار بريطاني يعتبر مذبحة سربرنيتشا، التي راح ضحيتها حوالي 8000 مسلم في سنة 1995، “إبادة جماعية”. ورغم أن المواطنين الصرب حاولوا تشييد هذا التمثال في مدينة سربرنيتشا، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل ليتم تشييد هذا النصب التذكاري في شرق سراييفو.

في الواقع، ترزح البوسنة والهرسك، التي تعد 3.5 مليون ساكن، تحت وطأة الانقسام، حيث لا تنقسم البلاد إلى أجزاء صربية وكرواتية بوسنية فحسب، بل تعاني الأجزاء الكرواتية البوسنية بدورها من التفكك. ويتجلى ذلك بوضوح في مدينة موستار التي تضم نهر نيريتفا الذي يفصل  الجزء البوسني عن الجزء الكرواتي من المدينة.علاوة على ذلك، تضم هذه المدينة مدارس مجزئة، حيث تقدم هذه المدارس دروسا للأطفال البوسنيين والكرواتيين، كل على حدة وفقا لبرامج تعليمية مختلفة.

تعاني البوسنة والهرسك من الفساد والمحسوبية، وهو ما يفسر ارتفاع معدل الهجرة في هذه البلاد وخاصة في صفوف الشباب الذين يفضلون الهجرة إلى ألمانيا للعمل في مجال الرعاية الصحية

عموما، باتت البوسنة والهرسك فريسة التفكك والانقسام على كل المستويات منذ اتفاقية دايتون للسلام التي أنهت الصراع المسلح في البلاد في سنة 1995، إلا أنها ساهمت في الوقت ذاته في اضعافها وتقسيمها. وإلى حد اليوم، يشرف ممثل الأمم المتحدة على القرارات الحكومية والشؤون الخارجية للبلاد التي يديرها مجلس رئاسي مكون من ممثل عن الصرب وممثل عن البوسنيين وممثل عن الكرواتيين، علما وأن الأمر ذاته ينطبق على البرلمان. ولعل  ما يثير الدهشة بشأن السلطة في البوسنة والهرسك، حرمان الأقليات من حق المشاركة في الانتخابات. من هذا المنطلق، قدم مواطن يهودي شكوى لدى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان للمطالبة بحقه في المشاركة في الانتخابات في البوسنة والهرسك.

على خلفية ذلك، طلبت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان من البوسنة والهرسك تنقيح  قانون الانتخابات. وعلى الرغم من أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أنصفت المواطن اليهودي، إلا البوسنة والهرسك لم تمتثل لقرار المحكمة. ومن المنتظر أن تجري البلاد انتخابات برلمانية في شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل. وفي الأثناء، تعاني البوسنة والهرسك من الفساد والمحسوبية، وهو ما يفسر ارتفاع معدل الهجرة في هذه البلاد وخاصة في صفوف الشباب الذين يفضلون الهجرة إلى ألمانيا للعمل في مجال الرعاية الصحية.

عندما يبكي الرجال

يسترجع أغلب أهالي البوسنة ذكريات الماضي الأليم الذي لا يمحى من الذاكرة في ظل العتمة التي تخيم على مستقبلهم. وتبث دور السينما عددا من الأفلام، التي تعيد ذكريات الحرب الأليمة، على غرار فيلم “مان دونت كراي”، الذي يصور مجموعة من المحاربين القدامى الذين يعانون من آثار الصدمة التي عاشوها خلال مشاركتهم في حروب البلقان، والذين باتوا يخضعون للعلاج في إحدى النزل الواقعة في أحد جبال البوسنة. في الأثناء، كان هؤلاء المحاربين يقصون لبعضهم البعض تجاربهم الأليمة. طيلة الفيلم، كان المحاربون القدامى يتحدثون عن تجاربهم أمام أشخاص، كانوا يعتبرونهم في السابق أعداء الذين خسروا رفقتهم حرب البوسنة والهرسك. على العموم، لم يدن الفيلم المحاربين القدامى الذين ارتكبوا مجازر خلال الحرب.

من جانبها، أوردت بيرا بيسلاجيتش، البالغة من العمر54 سنة، وهي تنظر إلى  النصب التذكاري، الذي يخلد أسماء شهداء مجزرة سوق مركله، أنه “على هذا النصب التذكاري، نحتت أسماء القتلى من كرواتيين وصربيين ومسلمين. في الواقع، أنا لا أشعر بالكره تجاه جميع الصرب والكروات. أعتقد أنه يوجد أشخاص جيدون وسيئون”. وإثر ذلك، سلمتنا هذه السيدة كيسا ورقيا يحتوى على مكسرات وفواكه جافة مجانا.

الصحيفة: تاغس شبيغل