أحكمت الميليشيات الإيرانية سطوتها على مختلف مفاصل الحياة في محافظة دير الزور شرقي نهر الفرات وصولًا إلى مدينة البوكمال الواقعة على الحدود السورية العراقية، في إطار مساعيها إلى إحداث تغيير ديموغرافي في المنطقة عبر ترسيخ وتعميق وجودها.
آخر تلك المحاولات سعي الأذرع الإيرانية المدنية للاستحواذ على سوق العقارات من خلال شراء واستملاك منازل الأهالي بهدف تحويلها إلى مقار عسكرية ومنازل سكنية لعناصرها ومراكز مدنية تدعم أنشطتها التعليمية والخدمية، مستخدمةً أساليب متعددة لتحقيق أهدافها بما فيها القوة الناعمة والسلطة العسكرية المباشرة.
سوق العقارات في دير الزور
تحاول منظمة “جهاد البناء” الإيرانية فرض سيطرتها على عدد من الفيلات والمنازل السكنية في حي الجمعيات وقرب مدرسة فايز منصور داخل مدينة البوكمال شرقي محافظة دير الزور، ومن أجل تحقيق هذه الغاية مارست المنظمة ضغوطًا على أصحاب العقارات بهدف دفعهم إلى التنازل وبيع أملاكهم عن طريق إرسال تهديدات مباشرة عبر عناصر وشخصيات من ميليشيا الحرس الثوري الإيراني، وفي حال رفض الملاك البيع، فإنها تدرج عقارات الرافضين في مخططات الهدم وتحولها إلى مقار ومستودعات عسكرية، حسب ما أفادت شبكة “دير الزور 24”.
كثفت منظمة “جهاد البناء” أنشطتها بغية الاستيلاء على المزيد من العقارات مثل الأراضي الزراعية والمنازل السكنية والمنشآت التجارية والمنشآت الصناعية والمحال التجارية، ضمن مركز محافظة دير الزور والمدن والبلدات التابعة لها، بهدف فرض وتمكين وجودها في المحافظة.
الصحفي في شبكة نهر ميديا (شبكة المحلية ترصد أخبار محافظة دير الزور)، عهد الصليبي، أوضح أن عمليات السيطرة على العقارات وأملاك المدنيين في محافظة دير الزور قائمة منذ وجود الميليشيات الإيرانية التي تنضوي ضمن مكونات ميليشيا الحرس الثوري الإيراني.
وأضاف خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن معظم نشاطات الميليشيات الإيرانية في السيطرة على العقارات تكون عبر فرض القوة العسكرية، لكن بعض العقارات تكون محورية وعليها إشكاليات يصعب السيطرة عليها باستخدام قوة السلاح، ما يدفع إلى شرائها من أصحابها عبر مندوبين/وكلاء مدنيين وعسكريين”.
وذكر أيضًا أن: “ميليشيا الحرس الثوري استولت على عقارات خاصة للمدنيين في شارع النهر وقرب المشفى الوطني ومشفى الساعي ضمن حي الرشدية في دير الزور، بينما ضمن المدن والبلدات التابعة للمحافظة، كانت سيطرتهم مختلفة”. مؤكدًا، استيلاء الميليشيات على محطات وقود حولتها إلى ساحات للمحروقات (ساحات صبيخان والبلعوم وموحسن) وهي محطة عبور أولى للمحروقات بالتشارك مع ميليشيا القاطرجي، التي تنقل المحروقات إلى مناطق نظام الأسد.
بينما أكدت شبكة “فرات بوست” المحلية، أن الميليشيات الإيرانية زرعت رجال أعمال وشخصيات مهمتهم فتح مكاتب لشراء العقارات من السكان المحتاجين في ظل صعوبة مواجهة ظروف الحياة الاقتصادية، كما وضعت الأشخاص الذين لا يستطيعون العودة إلى مناطق نظام الأسد أمام خيار بيع عقاراتهم، خشية الاستيلاء عليها بحجة غيابهم.
تعد منظمة “جهاد البناء” إحدى أبرز الأذرع الإيرانية الأكثر فاعلية في محافظة دير الزور، حيث تعمل في إطار تمكين الوجود الإيراني والتغلغل بين المجتمعات السورية، تحت مظلة الأعمال الخيرية والاجتماعية، لا سيما أنها أشرفت على دعم وترميم العديد من المشاريع الخدمية القائمة في محافظة دير الزور عقب طردها وقوات نظام الأسد وروسيا تنظيم الدولة الإسلامية داعش بين عامي 2017 – 2018.
تتخذ المنظمة من مدن دير الزور والميادين والبوكمال مكاتب رئيسية لها، بينما تصف نفسها أن نشاطها خدمي وتنموي مستقل، حيث تشمل بناء وإعادة تأهيل المستشفيات والمدارس وترميم منازل أسر قتلى مسلحي نظام الأسد والميليشيات السورية والإيرانية التابعة لها.
أهداف السيطرة على العقارات
يهدف تزايد النشاطات الإيرانية في الاستحواذ على عقارات السوريين في محافظة دير الزور شمال شرقي سوريا، بالقوة الناعمة إلى تقليل التوتر بين سكان المدينة وعناصر الميليشيات، من خلال شراء العقارات بدلًا من الاستيلاء عليها بالقوة، والتي يجريها وسطاء محليون يقدمون مبالغ مالية تفوق قيمة العقارات الحقيقية في بعض الأحيان.
كما أكدت مصادر محلية لـ”نون بوست”: “أن منظمة “جهاد البناء” تعمل على إنشاء تجمعات سكنية تشبه الثكنات العسكرية وتحتوي على منازل بهدف استيعاب عائلات عناصر ميليشيا الحرس الثوري الإيراني القادمين من خارج محافظة دير الزور”.
رجحت المصادر كذلك أن هذه الإجراءات تعود إلى أن عناصر الميليشيات الإيرانية يواجهون صعوبة كبيرة في تنقلاتهم بين المحافظات السورية، لا سيما في البادية، مع استمرار نشاط تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، فضلًا عن الهجمات الأمريكية والإسرائيلية التي تستهدف مواقعها، ما يستدعي تغييرها بشكل متواصل.
وتستغل الميليشيات الإيرانية الأوضاع المعيشية للسوريين في محافظة دير الزور، الذين يضطرون إلى بيع أملاكهم وعقاراتهم من منازل وأراض زراعية، في ظل الركود الاقتصادي والمعيشي الذي تشهده البلاد، فضلًا استغلالها غياب أصحاب العقارات المهجرين (لأسباب أمنية)، ما يدفعهم إلى بيعها بأرخص ثمن خشية مصادرتها والسيطرة عليها.
وقال الصحفي وائل الحويش ابن محافظة دير الزور خلال حديثه لـ”نون بوست” إن المنظمة افتتحت مكاتب عبر وكلاء سوريين في مناطق متفرقة لشراء العقارات، مستغلةً النزوح ودمار الأبنية، وسوء الأحوال الاقتصادية، فضلًا عن بثها معلومات عن نية نظام الأسد مصادرة العقارات التي لا تثبت ملكيتها، وفق مضمون قوانين الملكية العقارية التي أصدرها الأخير، ما دفع السوريين إلى بيع ممتلكاتهم”.
وأضاف: “انتشار الميليشيات الإيرانية، وتحويل منازل الأهالي إلى مقار عسكرية يهدف إلى إجبار الناس على بيع عقاراتهم، وعمليات الاقتتال بين الميليشيات والابتزاز وتردي الأوضاع الأمنية، وانتشار المخدرات بشكل جنوني، تعد من أبرز أساليب التهجير غير المباشر للأهالي”.
تغيير ديموغرافي في محافظة دير الزور
تساهم المساعي الإيراني في استملاك العقارات بمحافظة دير الزور في إحداث تغيير ديموغرافي، لا سيما أنها تستغل الأوضاع الاقتصادية عبر سوق العقارات ومنع المنافسة وطرح أسعار محددة، ما يمنع الأهالي من اتخاذ أي إجراءات بهدف الحفاظ على ممتلكاتهم.
تكمن خطورة النشاط الإيراني في أن المنطقة تشرد أغلب سكانها، حيث يتم استهداف البيوت والعقارات المدمرة، عبر مافيات سورية تنسق مع الميليشيات الإيرانية (وسطاء) يفاصلون بالأسعار مع أصحابها، حسب ما أوضح، مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فاضل عبد الغني.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “السوري في الأحوال الطبيعية لا يرغب في بيع ممتلكاته، لكن هناك أسباب تدفعه لبيعها، ولعل أبرزها شراء الميليشيات الإيرانية للعقارات باستخدام القوة، والتهجير والتشريد القسري، وتعرض العقار للقصف والدمار، وانعدام الأمل في العودة إلى المنطقة، وتسهيل نظام الأسد لإيران للسيطرة وشراء العقارات، وسط غياب أفق الحل السياسي، أو رحيل نظام الأسد وخروج الميليشيات الإيرانية التي باتت تتغلغل بين المجتمعات السورية”.
وأضاف: “نظام الأسد سن قوانين تتعلق بالملكية العقارية، للسيطرة على ممتلكات المهجرين السوريين، كما أتاح الفرصة أمام حلفائه لشراء العقارات التي استملكها، الأمر الذي أوصل السوريين إلى اليأس ودفعهم للبيع المباشر”.
كان نظام الأسد قد أصدر قوانين عدة بهدف السيطرة على أملاك المعارضين السوريين بغية منع أقاربهم من إمكانية التصرف بها، ولعل أبرزها قانون 10 للعام 2018، الذي نص على تجريد السوريين النازحين والمهجرين من إمكانية التصرف في ممتلكاتهم وحقوقهم، عبر تسريع عملية نقل الملكية العقارية من أصحابها الأصليين وخاصة المعارضين إلى جهات موالية لنظام الأسد.
واعتبر حقوقيون سوريون أن إجراءات نظام الأسد في سن قوانين جديدة تهدف إلى مصادرة أملاك المهجرين والنازحين غير القادرين على العودة إلى منازلهم في المناطق الخاضعة لسيطرته، فضلًا عن فقدان الآلاف منهم لوثائق ممتلكاتهم جراء القصف والعمليات العسكرية، ما شكل عائقًا أمامهم في إثبات ملكية عقاراتهم.
وأوضح عبد الغني، أن نظام الأسد يستخدم تكتيكات للسيطرة على الممتلكات، من خلال وضع حكم محكمة إرهاب على أصحاب العقار، وهي أحكام تعسفية باطلة، لكنها تشرعن السيطرة، بينما في سياق آخر، يحاول الوسطاء المحللون المرتبطون بإيران التواصل مع أصحاب العقارات، بهدف شراء العقارات بأقل من أسعارها الحقيقية، وهذا يوضح التنسيق والتناغم بين نظام الأسد والميليشيات الإيرانية.
وتابع عبد الغني قوله بأن تلك الإجراءات التي تطال الأراضي والعقارات المدمرة تصب في منح نظام الأسد والميليشيات الإيرانية اليد الطولى في إعادة الإعمار والإسكان، ما يؤدي إلى الاستيطان واستجلاب ميليشيات شيعية، وعناصر غربية عن المجتمع ويتم إحلالها بهذه المناطق، مستغلين التهجير والأوضاع الاقتصادية، بطريقة مدروسة.
تسعى الميليشيات الإيرانية ونظام الأسد إلى إحداث تغيير ديموغرافي بهدف التخلص من السكان الذين يشكلون تهديدًا لوجودهم، عبر آليات التهجير القسري وملء مناطق المهجرين بأعضاء الميليشيات الأجنبية والجماعات الدينية الشيعية.