فنّ ولد من التزاوج الطبيعي بين الموروث الغنائي الشعبي الليبي من رقص وشعر حضري وغناء عربي وأمازيغي، والموروث الثقافي الإفريقي من غناء وصلوات وتمائم وسحر وشعوذة وقصص وخرافات، في مدينة مرزق جنوب ليبيا التي كانت الرابط بين حضارة العرب والأمازيغ في الشمال وحضارة وتراث إفريقيا في الجنوب.
فنّ ازدهر في مدينة بنغازي، المدينة التي احتضنت الجميع أكثر من غيرها، فهي التي استقبلت من طردتهم القبيلة ومن أرادوا الفكاك من قيود العشيرة والهاربين من شروط الولاء الصارم للطرق الدينية، وكل من آثر البقاء والاستقرار في المجتمع الحضري بدلاً عن التنقل والترحال، والمهاجرين الحرفيين من مصراته وطرابلس، إنه فنّ “المرسكاوي” الذي نشأ بين مزيج مكون من الفصاحة الشعرية البدوية العربية والثقافة الأمازيغية المحلية والتقاليد الإفريقية.
من مرزق إلى بنغازي
“المرسكاوي” نمط من الموسيقى الشعبية في ليبيا، نشأ بالقرب من الصحراء الليبية، حيث يتميز بأنغامه وإيقاعه وشعره الغنائي الخاص به، كان يؤدى عبر لحن محلي على مقام متعارف عليه، وتميز بعنصرين غير عضويين يدخلان في تركيبته أولهما ما يشبه الموال العربي في المقدمة مصحوبًا بموسيقى الديوان (السلم الذي يبنى عليه المتن الأساسي)، وفيه يتم التهيئة للمغني للدخول في الأغنية.
وثانيهما ما يطلق عليه شعبيًا “التبرويلة” وهي حركة سريعة عند نهاية الأغنية تكون في الديوان الأصلي للأغنية وكلماتها أو في ديوان مغاير، لكن لها إيقاع رقصي يوصل إلى التسليم النهائي للأغنية.
لئن بدأ هذا الفنّ طريقه في مدينة مرزق الجنوبية، فقد ازدهر واشتهر في بنغازي التي مسحت دموع العبيد الأفارقة وأعتقتهم من عبوديتهم
بدأ هذا الفن المعروف باسم “المرسكاوي”، ويطلق عليه آخرون “المرزقاوي”، في مدينة مرزق الواقعة أقصى الجنوب الليبي التي ارتبطت منذ العصور القديمة بثلاثة معابر برية تمتد من الساحل الليبي إلى أعماق إفريقيا، مما أهّلها لأن تكون نقطة التقاء القوافل التجارية قديمًا، والواصلة بين إفريقيا وسواحل المتوسط، وبين الشرق والغرب الإفريقي.
ويعتمد “المرسكاوي” على السماع بالدرجة الأولى، وليس من الضروري أن تصاحب هذا الفن الغنائي آلات موسيقية، لكنه كغيره من الأنماط الحضرية الليبية كالمالوف في طرابلس ودرنه، يشكل وحدة مترابطة.
ولئن بدأ هذا الفنّ طريقه في مدينة مرزق الجنوبية، فقد ازدهر واشتهر في بنغازي التي مسحت دموع العبيد الأفارقة وأعتقتهم من عبوديتهم وأطلقت العنان لإبداعاتهم وبشاشتهم وإنسانيتهم وحناجرهم لتتلاقح الحضارات هناك، ويتشكّل تلاقح ثقافي بين فنون الحضر وفنون السود والموروث الغنائي الطرابلسي والإفصاح الشعري البدوي، كل ذلك أدى إلى انتشار فن المرسكاوي في بنغازي والمناطق الحضرية في الشرق الليبي.
الآلات الشعبية.. سطع نجم هذا الفن بها
في هذا الفن الذي مزج بين الفنون الليبية والأمازيغية والإفريقية، تُستَخدَم عدة آلات أهمّها “الغيطة”، وهي عبارة عن آلة موسيقية هوائية تشبه “الزرنة”، تعمل بالنفخ وتتألف من قصبتين وجسمها خشبي، حيث يتم النفخ في القصبتين بواسطة الفم، وكذلك “الزمارة” وهي آلة نفخ شعبية قديمة جدًّا.
ونجد أيضًا “الدربوكة” التي تتكوَّن من غطاء جلدي رقيق جدًّا يشد عليها قطعة من الرق باستعمال غراء لاصق خاص، إلى جانب شبكة من الخيوط مهمتها شد الرق في أثناء تركيبه فقط، ومشدود على جسم من الفخار يميل شكله للقمع، ولاستخراج الأصوات منها يقوم العازف باستعمال كلتا اليدين.
من الآلات المستعملة في هذا الفن، “القصبة” أو “تاغانيمت” بالأمازيغية وهي تشبه آلة الناي المستعملة في الموسيقى التقليدية العربية والفارسية
فضلاً عن “البندير” ويسمى أيضًا “الرق” و”الدف” وهو عبارة عن دائرة من الخشب في طرفه ثقبٌ يدخل فيه الناقر إبهام يده اليسرى، يغطى أحد جوانبه بجلد الماعز عادة، ويضبط الناقر الإيقاع على “البندير” بطرق مختلفة إما بالضرب على وسطه أو طرفه.
ومن الآلات المستعملة في هذا الفنّ، نجد أيضًا “القصبة” أو “تاغانيمت” بالأمازيغية وهي تشبه آلة الناي المستعملة في الموسيقى التقليدية العربية والفارسية، وتختلف القصبة عن الناي بعدم وجود ثقب خلفي بها مما يجعل إمكاناتها الصوتية محدودة المسافة ولا تستطيع استخراج أكثر من سبعة أصوات فقط.
وكذلك “البالوص” وهو قصبة صغيرة أقل سُمكًا من القصبة الأساسية ويحتوي على الريشة التي تتذبذب لإصدار الأصوات ويقوم العازف بإدخال البالوص في فمه بالكامل والنفخ بقوة ليجعل ريشة البالوص تتذبذب بحرية داخل الفم وتصدر صوت “الزمارة”، ويقوم العازف بغلق الثقوب وفتحها لتقصير وتطويل عمود الهواء المحبوس داخل القصبة واستخراج الدرجات الصوتية لهذه الآلة.
انتشار كبير لهذا الفن في ليبيا
و”الدنقة” التي تأتي في شكل أقرب للأسطواني من وجهيْن مكوَّنيْن من الجلد الرقيق بوسط خشبي وتُعلَّق على الكتف الأيسر للعازف الذي يستعمل عصا معقوفة للضرب على الوجه الأمامي لاستخراج الصوت القوي باليد اليمنى، فيما تقوم أصابع اليد اليسرى باستخراج الأصوات الضعيفة والزخارف الإيقاعية على الوجه الأمامي للآلة نفسها.
ويعتبر المرسكاوي مأثور شعبي عريق، كان يقام في الزمن الجميل وما زال إلى الآن، خلال بعض المناسبات، وفيه بعض الأسى واللوعة، ويتميّز بجماله النغمي وأشعاره غير المهذبة وطقوسه البنغازية (نسبة إلى مدينة بنغازي) المتحررة.