المدن وسيكولوجية الفرد.. إجهادٌ متواصل واضطرابات نفسية عديدة

من المعروف منذ فترة طويلة أن حياة المدن، خاصة الكبيرة منها، مرهقة، وهذا هو السبب الذي دعا بيكاسو لترك باريس وتفضيل العيش في الأرياف والضواحي. ومما لا شكّ فيه أنّ تلك الحياة لها آثارها السلبية على كل من جسم الإنسان ودماغه، بأنشطته الفسيولوجية وحالاته العاطفية وقدراته العقلية وعملياته المعرفية مثل التفكير واتخاذ القرارات والاستدلال والتفاعل مع الأشياء والأشخاص وما حوله من حياة.
تستخدم نظرية “الهوية المكانية” للإشارة إلى مجموعة من الأفكار حول المكان و هويته في مجالات الجغرافيا والتخطيط العمراني والتصميم العمراني وآثارها العديدة على نفسية وعقلية الأفراد
وقد أثبتت العديد من الدراسات والأبحاث أن معدلات الأمراض والاضطرابات العقلية تميل إلى أن تكون أعلى في المراكز الحضرية المزدحمة مما هي عليه في المناطق الريفية، إضافة إلى أنّ الأشخاص المولودين في المدن يطوّرون معدلات أعلى من القلق والاكتئاب والذهان من أولئك الذين يولدون خارج المدن.
في علمي النفس والاجتماع تستخدم نظرية “الهوية المكانية” للإشارة إلى مجموعة من الأفكار حول المكان و هويته في مجالات الجغرافيا والتخطيط العمراني والتصميم العمراني وتصميم المناظر الطبيعية وعلم النفس البيئي وعلم الاجتماع العمراني/وعلم الاجتماع البيئي.
تختص هذه النظرية بمعنى الأماكن وأهميتها للقاطنين فيها، وكيف تُنتج آثارًا عاطفية وعقلية وجسدية عميقة، مما يؤثر على إحساسنا بذواتنا وانتماءاتنا وأهدافنا ومعنى الحياة أو غيابه عندنا.
وقد برزت نظرية الهوية المكانية بوصفها إحدى النظريات التي تحظى بالاهتمام في التخطيط والتصميم العمراني خلال ربع القرن الماضي. ومع ازدهار الحركة العالمية لحماية المواقع ذات الأهمية الخاصة في التراث، ازدادت المخاوف بشأن فقد الشخصية الفردية والسمات المميزة بين الأماكن المختلفة نظرًا للتأثير الذي تتركه العولمة الثقافية عليها.
باتت كلّ من الهندسة المعمارية والتصميم الداخليّ وحتى تخطيط المدينة تدرس أثر المكان على السلوكيات البشرية والعمليات العقلية للأفراد، التي قد تلعب دورًا مهما في حالاتهم السيكولوجية
هناك الكثير لا نعرفه عن أسباب هذا الارتباط بين مكان المعيشة والصحة العقلية، ولكن من الممكن الاستنباط بسهولة أنّ ضغوطات الحياة اليومية في المدن قد يسهم في انتشار مثل هذه الاضطرابات.
أخذ علم النفس البيئي موضوع المكان والبيئة المعيشية بعين الاعتبار، وأضحى من الواضح أنّ طريقة تصميم المساحات المعمارية وتشكيل الأحياء السكنية يمكن أن يكون لها تأثير ملموس على الدماغ البشريّ. وبالتالي باتت كلّ من الهندسة المعمارية والتصميم الداخليّ وحتى تخطيط المدينة تدرس أثر المكان على السلوكيات البشرية والعمليات العقلية للأفراد، التي قد تلعب دورًا مهما في حالاتهم السيكولوجية، غالبًا دون وعيهم أو ملاحظتهم، بسبب انخراطهم المتسارع والمتواتر في الحياة اليومية للمدينة.
توصلت العديد من الأبحاث أنّ سكان المدن يطوّرون معدلات أعلى لاضطراب المزاج والقلق من التي يطوّرها سكان الأرياف
لهذا، ظهرت تخصصات فرعية من علم الأعصاب وعلم النفس تعمل جنبًا إلى جنب مع المهندسين المعماريين والمصممين لفهم كيف تؤثر الفضاءات والمساحات من أرصفة المدينة إلى المباني السكنية إلى الغرف الفردية، على حياة الإنسان، وعلى الطريقة التي يفكر بها الأشخاص ويشعرون أو ينظرون بها للعالم من حولهم.واحدة من الدراسات أثبتت أنّ سكان المدن يطوّرون معدّلًا أعلى لاضطرابات المزاج والقلق الناجم عن النقد الاجتماعي من الذي يطوّره أو يكتسبه سكان الأرياف. في هذه الدراسة، طُلب من المشاركين القيام بعدة مهام رياضية صعبة في حين تلقوا وابلًا من الانتقادات الشديدة في حال أخطؤوا الإجابة، وبناءً على ذلك فقد أظهر سكان المدينة مستويات أعلى من التنشيط في لوزة الدماغ ” amygdala” المسؤولية عن تنظيم الاستجابات العاطفية للأحداث، مقارنةً بسكان الريف.
تشكّل اللوزة جهاز استشعار الخطر في الدماغ، وبالتالي فهي ترتبط بالقلق والاكتئاب. ما استخلصته الدراسة أنّ االتجربة اليومية في بيئة عالية الكثافة تشكّل ضغطًا كبيرًا على دماغ الفرد وأجزائه المسؤولة عن تنظيم حياته العاطفية. فالوابل المستمر من الأحداث التي تعمل كمنبّهات وإنذارات للإنسان وتحدث بشكلٍ يوميّ في المدينة، تؤثر سلبًا على الدماغ البشري، الذي قبل كل شيء قد تطوّر أساسًا للتعامل مع البيئات الريفية أو الرعوية أكثر بكثير من التعامل مع المدن الحديثة.
التفكك الاجتماعي والإجهاد الناجم عنه، وازدحام الطرقات والساعات الطويلة في المواصلات العامة وضجيج الحياة والضوضاء وضغط العمل وعدم المساواة، كلّها قد تكون عوامل أساسية في تطوير القلق والتوتر والإجهاد لإنسان المدينة.
وفي دراسة أخرى، توصلت النتائج إلى أنّ أن الأفراد الذين يعيشون في المدن يُظهرون نسبة إصابة باضطرابات القلق أعلى بـ21٪ واضطرابات المزاج أعلى بنسبة 39٪ من الأفراد الذين يعيشون خارج المدن. ووفقًا لإحدى الدراسات أيضًا، فإنّ نسبة الإصابة بالفصام تتضاعف عند أولئك الذين ولدوا وترعرعوا في المدن.
إذن فتحديد الأسباب والعوامل التي تسبب الإجهاد للدماغ وتؤدي لتحفيز إنذارات الخطر فيه هو الخطوة لفهم أثر حياة المدن خاصة الكبيرة منها على نفسية الفرد والمجتمع. فالتفكك الاجتماعي والإجهاد الناجم عنه، وازدحام الطرقات والساعات الطويلة في المواصلات العامة وضجيج الحياة والضوضاء وضغط العمل وعدم المساواة، كلّها قد تكون عوامل أساسية في تطوير القلق والتوتر والإجهاد لإنسان المدينة.
دراسة طويلة أخرى ممتعة أُجريت على 2232 طفلًا توأمًا في المملكة المتحدة، بدأت معهم في عمر الخامسة حتى الثانية عشر من عمرهم، وشملت إجراء المقابلات مع الأمهات والجيران وعددٍ ممن يعيش في محيط الأطفال، والذين شملتهم الدراسة أيضًا.
كشفت الدراسة أنّ النمو في المدينة ضاعف احتمال ظهور عدد من الأعراض الذهانية والاضطرابات عقلية عند الأطفال في سن 12 عامًا، وأنّ التعرض للجريمة إلى جانب انخفاض التماسك الاجتماعي، أي عدم وجود التقارب والدعم بين الجيران، كانا أكثر النتائج المترتبة على الأمر خطرًا.
يرجع السبب إلى أنّ الإجهاد والضغط النفسي الناجمين عن العيش في المدن يضعف قدرة الدماغ على التعامل مع الضغوط الاجتماعية، بالإضافة إلى إضعاف تحمّله للاحتكاك بالجيران والأشخاص الذين يحيطون به، وهو ما توصلت إليه الدراسة التي تحدثنا عنها بدايةً، بانخفاض معدل تحمّل الأفراد في المدينة للنقد الاجتماعي.
وبغض النظر عن عوامل الإجهاد الكثيرة، فإنّ الصلة بين الرفاه النفسي والطبيعة تبدو قوية، ويمكن للعديد من الأشخاص أن يؤكدوا على فوائد الوقت الذي يقضونه في الطبيعة وأثره على استرخاء العقل وراحته.
فقد وجد باحثون من كلية الطب بجامعة إكستر في بريطانيا عام 2014، أن الأشخاص الذين انتقلوا للعيش من منطقة حضرية أقل خضارًا إلى منطقة حضرية أكثر خضارًا، تحسنًا طويل الأمد في صحتهم النفسية والعقلية. وقد تمت متابعة المشاركين في الدراسة لمدة خمس سنوات، أي قبل عامين من انتقالهم، وبعد ثلاث سنوات لانتقالهم للمناطق الجديدة. الأمر الذي يعني أنّ الاهتمام بتواجد المساحات الخضراء والحدائق الطبيعية وسط المدن، يلعب دورًا كبيرًا في تحسين الصحة النفسية والعقلية لساكنيها.