تدخل الحرب على غزة يومها الـ97 بعد المائة وسط إجرام إسرائيلي وحشي ممنهج لم تشهده الساحة الفلسطينية منذ بداية الاحتلال قبل أكثر من 75 عامًا في ظل صمت دولي فاضح وعجز مخزٍ عن الضغط على الدولة المحتلة وإثنائها عن جرائم الإبادة التي تشنها ضد المدنيين والأطفال والنساء في القطاع المحاصر.
وأسفرت الحرب حتى الآن عن استشهاد أكثر من 34 ألف فلسطيني وما يزيد على 76 ألف مصاب، فضلًا عن نزوح ما يزيد على مليون ونصف إنسان بعدما دمر الاحتلال ثلثي البنية التحتية والمعمارية للقطاع في ظل سياسة “الأرض المحروقة” التي يتبعها منذ العملية البرية التي بدأها قبل 4 أشهر.
وبعد قرابة مائتي يوم من تلك الحرب الهمجية التي شنها الكيان المحتل ضد قطاع غزة وأطفاله ونسائه وشيوخه، وأرقام الضحايا غير المسبوقة التي سقطت جرائها، يبقى السؤال: هل نجح المحتل في تحقيق أهدافه التي أعلن عنها قبل 6 أشهر؟ وكيف حولت الحرب حياة أكثر من مليوني غزي باتوا ينتظرون الموت إما قصفًا وإما جوعًا وإما عطشًا؟ وماذا يحتاج المجتمع الدولي ابتداء ثم العرب على وجه الخصوص لينفضوا من على أعينهم غبار الخذلان والانبطاح؟ متى يكون التحرك إن لم يكن الآن؟
شمال القطاع.. معركة النفس الطويل
كان لشمال القطاع النصيب الأكبر من الاستهداف، كونه ساحة المواجهة الأولى في تلك المعركة طويلة الأمد، والنقطة الأقرب جغرافيًا لتهديد الأمن الداخلي الإسرائيلي، ومركز انطلاق عملية طوفان الأقصى التي زلزلت الكيان المحتل وحولته إلى ثور هائج، معصوب العينين، يبحث عن الانتقام.
وكان جيش الاحتلال قبل شهرين أو أقل قد أعلن بشكل كامل سيطرته على الشمال وإنهاء عملياته العسكرية بكل المناطق به، زاعمًا أنه قضى نهائيًا على معاقل المقاومة هناك واستهدف مرتكزاتها ومقارها، محاولًا الترويج لانتصار وهمي ينتقل به من المرحلة الأولى من الحرب إلى المرحلة الثانية حيث الوسط.
وعلى هذا الأساس بدأ جيش الاحتلال – مطمئنًا – في سحب قواته ومدرعاته من تلك المناطق، بعدما توهم أنه قد سيطر عليها بالكامل، خاصة أنه حولها إلى أرض محروقة لا مقومات فيها للحياة على الإطلاق، لكن كانت المفاجأة حين استعادت المقاومة نشاطها مرة أخرى في الشمال، مستهدفة العمق الإسرائيلي مجددًا، حيث لم تتوقف صافرات الإنذار عن الدوي في عسقلان ومناطق الغلاف.
غارات جوية إسرائيلية تستهدف العائدين إلى شمال غزة لإجبارهم على التوجه جنوبًا pic.twitter.com/k58gUHdkaB
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) April 14, 2024
وهنا عادت المدرعات الإسرائيلية للشمال مرة أخرى، وذلك بعد أسابيع من مغادرتها، وبدأ الطيران الحربي شن غاراته الجوية العنيفة لتدمير المدمر والإجهاز على القليل المتبقي من مقومات الحياة في كل المناطق التي تحولت إلى مدن أشباح غير قابلة حتى للمرور من خلالها، ناهيك بالحياة والعيش فيها.
اللافت هنا أنه ومع كل مرة يتوهم فيها المحتل أنه نجح في تفريغ الشمال من سكانه، إذ به يفاجأ مع كل انسحاب بعودة النازحين إلى منازلهم لا سيما في بيت حانون وجباليا، رغم تحولها إلى ركام وأشلاء بيوت لا مكان فيها للحياة، ليعاود الاحتلال القصف مرة أخرى، في معركة “النفس الطويل” بين جيش الاحتلال والمتشبثين بمنازلهم وذكرياتهم من أبناء الشمال.
وسط غزة.. البحث عن الانتصار الزائف
لم يختلف الوضع كثيرًا في الوسط، حيث كثف الاحتلال من عملياته هناك بشكل لا يقل بشاعة وإجرامًا عن المشهد في الشمال، وإن حاول جيش المحتل الاستفادة من الفشل الذي مُني به في الجولة الأولى من تلك المعركة، ليعتمد على العمليات النوعية التي يستهدف بها إيقاع أهداف محددة بدلًا من العشوائية التي تميزت بها عملياته شمال القطاع.
ومارس الاحتلال في الوسط سياسة “قضم الأرض” حسب تعبير الخبير العسكري حاتم الفلاحي، حيث دخول منطقة صغيرة ثم الانتقال إلى غيرها وهكذا بدلًا من شن عمليات واسعة لا تحقق الهدف منها، بجانب تكثيف موجات الاعتقال لا سيما بحق الشباب وصغار السن.
عاجل | الناطق العسكري الإسرائيلي: نخوض معارك وجهًا لوجه وسط قطاع غزة pic.twitter.com/C74EnkCnvw
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) April 20, 2024
وكما هو الوضع في الشمال كان في الوسط، فبعد الانسحاب من بعض المناطق عاود جيش الاحتلال استهدافها مرة أخرى، خاصة بعد استعادة المقاومة لعملياتها في تلك البقاع التي ظن المحتل السيطرة عليها، حيث حاول دخول الأماكن التي لم يدخلها من قبل على أمل استهداف المقاومين بها، لكنه صُدم بوجود شرس للمقاومة أسفر عن إيقاع إصابات بالغة في صفوفه بين قتيل وجريح جراء الفخاخ التي نصبتها كتائب عز الدين القسام في منطقة المغراقة وهو السبب الذي دفعه للانسحاب مرة أخرى بحسب محللين عسكريين.
وعلى مدار أكثر من 4 أشهر منذ بداية الاجتياح البري للقطاع لم يستطع الاحتلال حسم المعركة بعد في الشمال والوسط رغم آلة التدمير والقتل التي بحوزته، وحولت تلك المناطق لمدن أشباح، فصمود المقاومة وإصرار الغزيين على العودة أيًا كان الوضع حالا دون تحقيق الاحتلال لانتصاره المأمول في تلك المناطق.
جنوب غزة.. أمل الاحتلال الأخير
بالتوازي مع عمليات الشمال والوسط التي لم تنته رغم الإعلانات المتكررة لجيش الاحتلال بإنهاء مهامه بها، بدأ المحتل في البحث عن انتصار رمزي آخر في خان يونس، بصفتها معقل قادة حماس وعلى رأسهم يحيي السنوار، الذي تحول في حد ذاته إلى هدف إسرائيلي ثمين.
ورغم يقين الاحتلال بعدم وجود قادة المقاومة في منازلهم، حاول تسول انتصار يداري به عورات الفشل في الشمال والوسط، فدمر البيوت وهدم البنى التحتية وحول خان يونس إلى ركام وبقايا جدران مهدمة غير قابلة للحياة.
وبينما ارتكن جيش الاحتلال لسياسة الارض المحروقة في القضاء على معاقل المقاومة في خان يونس، ما دفعه للانسحاب جزئيًا، ظنًا أنه حقق الهدف المنشود، إذ برد القسام يأتي سريعًا، حيث العمليات النوعية والكمائن التفخيخية التي أسقطوا بها العشرات في صفوف الإسرائيليين كما حدث في عمليتي الزنة وحي الأمل الأخيرتين، وأسفرت عن سقوط 14 عسكريًا إسرائيليًا، في ضربة أحدثت صدمة داخل الأوساط الإسرائيلية، وهي العمليات التي وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أفيجدور ليبرمان بقوله “جنودنا ومواطنونا باتوا كطيور بطّ في مرمى النيران”.
وأمام المقاومة التي تطورت في عملياتها النوعية ونتائجها الدقيقة اضطر جيش الاحتلال إلى الانسحاب من خان يونس والاكتفاء بلواء واحد فقط “ناحال” الذي يعمل في ممر نتساريم لفصل الشمال عن الوسط والجنوب.
"ابني نجا من أول صـاروخ ضربوه الثاني".. الجزيرة مباشر تلتقي عائلة الشبان الأربعة الذين استـ ـشـ ـهدوا بمسيَّرة إسرائيلية أثناء تفقد منزلهم بـ #خان_يونس #الجزيرة_مباشر #غزة pic.twitter.com/XWSeAegoiK
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) April 19, 2024
ولم تكن الخسائر التي تكبدها الاحتلال هي السبب الوحيد في انسحاب قواته من خان يونس، حيث يرى خبراء أن عملية الانسحاب التي جاءت في 7 أبريل/نيسان الجاري بعد 4 أشهر من العمليات، ترجع في جزء منها إلى مخطط الكيان ترك الفرصة لسكان رفح والنازحين إليها للانتقال إلى خان يونس بما يمهد الطريق نحو تفريغ المدينة الجنوبية استعدادًا لعملية الاجتياح البري التي يخطط لها نتنياهو وجنرالاته.
وتشير التقارير الصادرة عن وسائل إعلام أمريكية وإسرائيلية إلى أن قرار شن عملية برية في رفح قد تم اتخاذه بالفعل، فيما يتبقى التوقيت والإستراتيجية العملياتية الفيصل لتنفيذ عملية الاجتياح التي يرى فيها نتنياهو الفرصة الأخيرة للقضاء على المقاومة بشكل كامل، رغم التحفظات الأمريكية المصرية بشأنها لما قد يترتب عليها من كارثة إنسانية حيث أكثر من مليون ونصف نازح بالمدينة قد تتعرض حياتهم للخطر.
وكان موقع “أكسيوس” الإخباري الأمريكي قد ذكر أن واشنطن وتل أبيب ناقشا مساء الخميس 18 أبريل/نيسان 2024، تلك العملية، حيث اتفقا على أن الهدف المشترك منها هو هزيمة حماس في رفح، كما نقل الموقع عن أمريكيين قولهم إن حكومة نتنياهو تفهمت مخاوف إدارة بايدن بشأن المدنيين، حيث قدم الجيش الإسرائيلي بعض الخطط العسكرية للعملية تتضمن تنفيذها ببطء وعلى مستويات تدريجية في أحياء محددة برفح، سيتم إخلاؤها مسبقًا، بدلًا من غزو شامل للمدينة بأكملها.
التهجير القسري مقابل التشبث بالأرض
عسكريًا لا يمكن القول إن الاحتلال حقق أيًا من أهدافه التي شن الحرب لأجلها، بعد مرور أكثر من 6 أشهر، رغم الدعم الذي لا يتوقف من أقوى جيوش العالم وأجهزتها الاستخباراتية، فلا حرر الأسرى ولا قضى على المقاومة ولا منع تهديد القطاع لأمنه الداخلي، وهو ما أوقعه في مأزق وحرج كبير، داخليًا وخارجيًا.
وأمام تلك المعضلة حاول الكيان المحتل الاستئساد على المدنيين العزل، عبر سياسة الأرض المحروقة وتدمير كل مقومات الحياة، من أجل ترسيخ إستراتيجية التهجير القسري، كانتصار يمكن تسويقه داخليًا على الأقل، فهدم البيوت أكثر من مرة، وأجبر النازحين العائدين على النزوح مرة أخرى للمخيمات، وقتل ونكل بعشرات الآلاف من المدنيين والأطفال والنساء.
لكن يبدو أن تلك الإستراتيجية لم تحقق الهدف المنشود منها، أمام شعب يتمسّك بالحياة من بين رفاة الموت، حيث فوجئ المحتل بثبات وصمود الغزيين والبقاء داخل منازلهم ومساكنهم حتى لو كانت ركامًا، متمسكين بكل فرصة تُتاح للعودة مهما كان الوضع، وهو ما يفسر عودة تدمير البيوت المدمرة في السابق أكثر من مرة، محاولًا قتل كل أمل في استعادة الحياة مرة أخرى.
"إنهم حرفيًا يموتون للحصول على مساعدات".. مشاهد توثق اضطرار الفلسطينيين في غزة للمخاطرة بحياتهم أملًا بالحصول على ما يسد الرمق رغم فقدان البعض منهم حياته غرقًا #غزة_تموت_جوعاً pic.twitter.com/Mwmi32BuZY
— نون بوست (@NoonPost) April 18, 2024
فها هو المسن الفلسطيني جميل الفيومي الذي أصر وعائلته البقاء داخل خيمة مؤقتة نصبوها بجوار أنقاض منزلهم المدمر في حي الشجاعية شرق غزة، متمسكن بالبقاء والصمود رغم تحويل بيتهم إلى أكوام من الأنقاض غير القابلة للحياة.
ورغم أن “المنطقة بأسرها مقلوبة وأصبحت خرابًا ودمارًا، ولا أعرف ماذا أفعل، الوضع صعب للغاية والأوضاع المعيشية معقدة” على حد وصفه، فإن الفيومي (63 عامًا) يصر على البقاء بجوار ركام بيته من خلال خيمة مؤقتة نصبها، منتظرًا الفرصة المواتية لإعادة إعمار منزله، مضيفًا: “عندي 3 شهداء وآخر مصاب، والوضع واضح ولا يحتاج إلى وصف، نريد فقط أن نعيش ونأكل ونشرب مثل باقي البشر” بحسب تصريحاته لمراسل “الأناضول“.
وهناك عشرات الآلاف من الغزيين في مناطق الشمال والوسط حالهم حال الفيومي، يتمسكون بالبقاء في منازلهم بجوار ذكريات طفولتهم وشبابهم، رافضين الرحيل رغم آلة التدمير التي جرفت كل مقومات الحياة وحولت مناطقهم إلى حطام وركام غير قابل للعيش، ليبقى السؤال: إلى متى الرهان على هذا الصمود في ظل الإجرام الوحشي الذي يمارسه المحتل طيلة مائتي يوم دون أي اعتبارات إنسانية أو أخلاقية؟ ومتى يتحرك العالم، خاصة العربي والإسلامي، لنصرة أكثر من مليوني إنسان لا جريرة لهم إلا التمسك بمنازلهم ووطنهم الذي ولدوا وتربوا وعاشوا بين أركانه؟ هل ينتظر مجزرة جديدة في رفح ليزيل الجميع غبار الخذلان والصمت من فوق الأعين والرؤوس؟ وإن لم يكن التحرك اليوم فمتى يكون إذًا؟