دخلت الثورة السورية مرحلة جديدة من التعقيد بعد توسع رقعة الاحتجاجات الشعبية لتشمل مختلف المحافظات، وتبني نظام الأسد الحل الأمني القمعي، ما أدى إلى تحول الثورة للتسليح، الذي أصبح واقعًا مؤثرًا على مسيرة الثورة السورية بأكملها، وتحديدًا مع دخول قوى إقليمية ودولية على خط الصراع السياسي والعسكري.
في الوقت ذاته، استمرت الثورة منذ بدايتها في إفراز أحزاب وكيانات سياسية جديدة معارضة للنظام، مختلفة المرجعية والرؤى والأفكار والمقاربات، وبرزت المكونات والتيارات الإسلامية كقوة مؤثرة ومهمة في المؤسسات السياسية المعارضة، وفي الميدان العسكري على حد سواء.
مقابل ذلك، أخذت تتشكل مكونات وتشكيلات سياسية معارضة مطلع العام 2012، لم تعتنق مرجعية دينية أو عرقية محددة، بل كانت رؤاها السياسية موجهة إلى كل الفئات السورية على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية والسياسية والعرقية، منها ما اندمج مع مؤسسات المعارضة الرسمية حينها كالائتلاف الوطني السوري، ومنها ما بقي يعمل منفردًا، وهو ما أفرز بدوره تصورات مختلفة للحل السياسي في سوريا.
تيار بناء الدولة السورية
في سبتمبر/أيلول عام 2011، أعلنت مجموعة من الشخصيات المعارضة في دمشق، منهم لؤي حسين وفدوى سليمان وإياد شربجي ومنى غانم، تشكيل “تيار بناء الدولة السورية” الذي حدّد في وثيقته التأسيسية أهدافه السياسية في بناء دولة ديمقراطية مدنية محايدة تجاه أي أيديولوجيا أو عقيدة، والعمل على تمكين السوريين من الانخراط العلني والفعال في الحياة السياسية والعامة وترسيخ الديمقراطية والحكم الرشيد.
وتزامنًا مع توسع دائرة الاحتجاجات الشعبية، التي قابلها النظام بمزيد من العنف، أخذ التيار مسارًا إشكاليًا، جعله عرضة لسيل من انتقادات الشارع السوري المعارض بعد أيام من تأسيسه، فقد أبدى رغبته في التغيير عبر الحوار مع النظام، مع تصاعد دعوات الشارع السوري المطالبة بإسقاط النظام، ورفض تسليح الثورة والتدخل الخارجي لإسقاط النظام، داعيًا إلى الحل السلمي، ورافعًا علم النظام بدلًا من علم الثورة السورية.
من جهة أخرى، اتهمت المعارضة السياسية التيار بأنه لا ينسجم مع أهداف الثورة، واعتبرته أداة لشرعنة نظام الأسد، لا سيما أن التيار كان ينشط في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام في دمشق دون أن يتعرض لملاحقات أمنية كما جرت العادة مع باقي المكونات والشخصيات الثورية المعارضة.
يضاف إلى ما سبق، حركة الانشقاقات الواسعة التي طالت بعض قيادات التيار، وعلى رأسهم ريم تركماني، التي اتهمت التيار بـ”التحول من محاولة لوضع رؤى سياسية تخدم الصالح العام إلى طموح سياسي شخصي للوصول إلى السلطة”.
بقي التيار محافظًا على تفرده عن الخطاب العام للثورة والمعارضة السورية، وأبدى رئيسه لؤي حسين معارضته الشديدة للثورة السورية من خلاله منشوراته وكتاباته حتى وفاته عام 2022 في إسبانيا
كما تعززت تلك الاتهامات عقب تشكيل روسيا مؤتمرات ومنصات سياسية بهدف البدء في حوار بين المعارضة والنظام، وتحييد القوى المعارضة الرافضة لفكرة الحوار مع النظام، وهو ما تجلى في مؤتمرات موسكو (1+2) التي شارك بها التيار، ورفضها الائتلاف الوطني السوري، مكررًا اتهاماته للتيار بمحاولته شرعنة نظام الأسد.
لم يدخل التيار في علاقات وثيقة مع القوى المعارضة في الداخل السوري، كهيئة التنسيق الوطني، كما رفض الانضمام للأجسام السياسية المعارضة كالمجلس الوطني والائتلاف، حيث شهدت تلك الفترة علاقات ندية واتهامات متبادلة حتى بداية العام 2015 بعد خروج رئيس التيار لؤي الحسين إلى تركيا بعد اعتقاله لمدة 3 أشهر من النظام، ليدخل في سلسلة لقاءات وتفاهمات جديدة مع الائتلاف، تمثلت باتفاق الطرفين على رؤية مشتركة للحل السياسي قائم على رحيل الأسد، وتأسيس جيش وطني للثورة السورية، ثم لتتوتر العلاقات مجددًا بين التيار وقوى المعارضة، بعد انسحاب التيار من الهيئة العليا للمفاوضات عام 2016.
في العموم، بقي التيار محافظًا على تفرده عن الخطاب العام للثورة والمعارضة السورية، وأبدى رئيسه لؤي حسين معارضته الشديدة للثورة السورية من خلاله منشوراته وكتاباته حتى وفاته عام 2022 في إسبانيا، حيث خرج له تسجيل صوتي مسرب يحتقر فيه الثورة والمعارضة عام 2015، بعد يوم من إزاحته علم الثورة خلال مؤتمر صحفي جمعه برئيس الائتلاف الوطني حينها خالد خوجة، ووصفه الفصائل الإسلامية المعارضة بـ”الميليشيات الطائفية”.
الكتلة الوطنية الديمقراطية السورية
في شهر يناير/كانون الثاني عام 2012، أعلنت مجموعة من الشخصيات الوطنية المعارضة السورية في العاصمة المصرية القاهرة تأسيس الكتلة الوطنية الديمقراطية السورية، وضمت الكتلة 50 عضوًا، على رأسهم سمير سطوف ومروان الأطرش، الذي تولى رئاسة الكتلة عام 2015، محددة أهدافها وتصورها للحل السياسي في سوريا بـ”إسقاط نظام الأسد، وإقامة نظام ديمقراطي تعددي مدني يقوم على أساس دولة المواطنة وفصل السلطات وحرية الرأي والإعلام، ووحدة سوريا أرضًا وشعبًا”، دون أن تبلور تصورًا سياسيًا واقتصاديًا واضحًا لشكل النظام السياسي في سوريا.
من جهة أخرى، تنوعت نشاطات الكتلة في تركيا، وتحديدًا في مدينتي غازي عنتاب وأورفا، بين المجالين السياسي والإغاثي، إذ نظمت عددًا من المؤتمرات والفعاليات الحوارية والتدريبية للسوريين، وقدمت المساعدات الإغاثية للسوريين في تركيا والداخل السوري.
كما جمعت الكتلة علاقات جيدة مع مختلف تيارات المعارضة ومؤسساتها، فانضمت إلى الائتلاف الوطني السوري، وانتقدت عمله في عدد من المواقف، ودعمت الهيئة العليا للمفاوضات، وجمعتها علاقات جيدة مع بعض المنظمات والأحزاب الإيطالية والمصرية، وأدانت التدخل الروسي، ورفضت ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الانفصالية وإعلانه الفدرالية في الشمال السوري، وطالبت التيارات الكردية المعارضة باتخاذ موقف واضح من تلك الخطوة.
تيار التغيير الوطني
في شهر فبراير/شباط 2012، أعلنت مجموعة من المعارضين السوريين مؤلفة من 84 عضوًا على رأسهم عمار القربي، تأسيس تيار التغيير الوطني في تركيا، وعرّف نفسه بأنه “حزب ديمقراطي حر، منفتح على جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم”.
حصر التيار أهدافه وتصوره السياسي بالسعي إلى نصرة الشعب السوري وثورته حتى إسقاط النظام بكل أركانه، وترسيخ أهداف الثورة وتحويلها إلى أسس لبناء دولة سورية حديثة قائمة على العدل والمساواة واحترام الحقوق والحريات.
بعد نحو عام ونصف على تأسيس التيار، قدّم 92 عضوًا من أعضائه استقالة جماعية، بقيادة صلاح الدين بلال ووسيم سنقر، وبرر المستقيلون ذلك بـ”فشل عملية الإصلاح والهيكلة داخل التيار وسيطرة العمل الفردي والمصلحي لقيادته، وتهميش كل المبادرات التي طالبت بتطوير العمل المؤسساتي، وابتعاد التيار عن روح الثورة وأهدافها”، ثم أعاد التيار ترتيب صفوفه وافتتاح مكاتب جديدة في الداخل السوري وأوروبا، والسعودية والإمارات وروسيا عام 2016.
لم يخفِ التيار امتعاضه من عمل المجلس الوطني والائتلاف، فكان على خلاف دائم معهما، ووجه لهما انتقادات في أكثر من مناسبة، بينما جمعت التيار علاقات جيدة مع السلطة الفلسطينية وتيارات سياسية لبنانية ومصرية.
اتحاد الديمقراطيين السوريين
في سبتمبر/أيلول عام 2013، أُعلن تأسيس اتحاد الديمقراطيين السوريين في مدينة إسطنبول التركية، حيث وصل عدد أعضاء الاتحاد بداية العام 2017 نحو 300 شخصية سورية معارضة، على رأسهم ميشيل كيلو وكمال اللبواني ومرح البقاعي، وتركز نشاطه في سوريا وتركيا.
وأكد الاتحاد على ضرورة إقامة نظام سياسي ديمقراطي، وإقامة الدولة الديمقراطية المدنية العصرية، ورفع شعاره المتمثل بـ”ديمقراطية، تنمية، عدالة اجتماعية”، بينما ركّز نشاطه في المجالات الإغاثية في تركيا والداخل السوري، لا سيما ما قدّمه الاتحاد من منح ومساعدات للطلاب السوريين، والجانب الثقافي والسياسي في أوروبا.
تميز الاتحاد بمواقفه تجاه القضية الكردية، حيث صرح ميشيل كيلو عام 2016 أنه لا وجود لأرض كردستانية في سوريا، معتبرًا مشروع الإدارة الذاتية مشروعًا إقليميًا هدفه تقسيم سوريا، وهو ما أثار ردود فعل ساخطة في صفوف الناشطين المعارضين الكرد، واتبع ذلك استقالة الكتلة الكردية من صفوف الاتحاد ردًا على تصريحات كيلو.
أثارت تصريحات أخرى لكيلو سخط البعض، ووصفت بـ”المسيئة للإسلام”، واستدعت ردًا من الشيخ أسامة الرفاعي، وفتحت سجالًا طويلًا، ومع ذلك كوّن الاتحاد علاقات جيدة مع مؤسسات المعارضة السورية، لا سيما المنظمات والهيئات الإغاثية، ومع بعض الحكومات الأوروبية والأحزاب الاشتراكية فيها، خاصة الحزب الاشتراكي الفرنسي.
كما رحّب رئيس الاتحاد ميشيل كيلو بتوسعة الائتلاف لضم ممثلين عن الجيش الحر إليه، حيث تبنى موقفًا إيجابيًا تجاه الجيش الحر، دون أن يكون للاتحاد أي نشاط عسكري على الأرض، ليُعلن كيلو نهاية العام 2016 استقالته من الائتلاف بعد سيطرة قوات النظام بدعم من روسيا وإيران على مدينة حلب، وأشار كيلو حينها إلى أن سبب الاستقالة رفض الائتلاف اتخاذ قرار يدين “جبهة النصرة”.
حزب الجمهورية
في 17 أبريل/نيسان عام 2014، وفي الذكرى السنوية لعيد جلاء الاستعمار الفرنسي عن سوريا، أُعلن تأسيس حزب الجمهورية بعضوية 57 شخصية معارضة سورية، أبرزهم حازم نهار وخضر زكريا في مدينة إسطنبول بتركيا، وافتتح الجلسة التأسيسية أصغر الأعضاء سنًا، تكريمًا لدور الشباب في الثورة السورية، حيث عبّر الحزب عن نفسه بكونه من الأحزاب الوطنية الديمقراطية.
حدد الحزب أهدافه ورؤيته لبعض القضايا الرئيسية المتعلقة بالملف السوري، أبرزها قضية عسكرة الثورة، فرغم غياب العلاقات التي تجمع بين الحزب والفصائل العسكرية، إلا أنه طرح في العام 2015 ما أطلق عليه “ميثاق عمل لفصائل المعارضة العسكرية“، يقوم على ضبط وتنظيم العسكرة، ووضع معايير وضوابط لعمل الفصائل العسكرية في الميدان، ورفع مستوى معاملة الأسرى واحترام المدنيين وعدم تجنيد القصر، ودور الفصائل بعد سقوط النظام، معتبرًا أن المجتمع السوري ذهب للعسكرة مضطرًا نتيجة قمع النظام، وليس خيارًا مبدئيًا للثورة السورية، وأن الحل في سوريا هو حل سياسي يقوم على رحيل الأسد وأركان نظامه.
حصر الحزب نشاطه منذ بداية نشأته على المشاركة في الفعاليات والمؤتمرات والندوات الحوارية والصالونات الثقافية الداعمة للثورة السورية بالخارج، في تركيا وقطر وأوروبا، إضافة إلى بعض المؤسسات البحثية والثقافية التي عدّها البعض رديفًا للحزب.
لم ينخرط الحزب في الأجسام الائتلافية الرسمية، ووجه عدة انتقادات لطريقة عمل مؤسسات المعارضة السورية، ممثلة بالمجلس الوطني ثم الائتلاف، بينما واجه الحزب عدة انتقادات من التيارات المعارضة السياسية تتهمه بـ”النخبوية المفرطة”.
حركة ضمير
تأسست حركة الضمير في فبراير/شباط عام 2016 بباريس، بعضوية 60 شخصية معارضة من ناشطين ومثقفين وفنانين وسياسيين سوريين، أبرزهم سميح شقير ومي سكاف وريم علي وأنور البني، وعرّفت نفسها بوصفها حركة مدنية ثقافية سياسية، تستمد أهدافها ومبادئها من أهداف الثورة السورية السلمية وإنهاء الديكتاتورية والتطرف الديني والفكري.
تُعتبر الحركة محاولة لإعادة هندسة الوسط الثقافي السوري، واقتصر نشاطها على تنظيم الحملات المناصرة للشعب السوري والتضامن مع اللاجئين السوريين في الخارج، وخاصة في أوروبا، وبقي نشاطها محدودًا في الداخل السوري، ولم يجمعها أي علاقات مع الفصائل العسكرية، بينما دفعت باتجاه تشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحيات كاملة كمدخل للحل السياسي في سوريا.
في الختام، يمكن القول بأن فشل التجربة الائتلافية والمطبات التي عرقلت عمل المعارضة السورية، إلى جانب ضعف أداء المعارضة سياسيًا على الصعيدين المحلي والخارجي، أسهم في ظهور تشكيلات وتيارات جديدة بداية العام 2012، عرّفت نفسها بكونها مكونات وطنية تمثل كل الفئات السورية على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية والسياسية والعرقية، وعملت منفردة في بعض الحالات، في محاولة منها كما يبدو لكسر احتكار هيمنة الأجسام الائتلافية على تمثيل المعارضة والثورة داخليًا وخارجيًا، ومحاولة للتعبير عن رؤى ومقاربات مختلفة وجديدة تجاه الحل السياسي في سوريا.