شهد مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم شمالي الضفة الغربية خلال الأيام الأربع الماضية معركة حامية الوطيس، بين قوات الاحتلال التي فرضت عليه كماشة خانقة وحصارًا مطبقًا، وعناصر من المقاومة داخل المخيم، ما أسفر عن استشهاد 14 فلسطينيًا وإصابة 9 جنود إسرائيليين.
طيلة أكثر من 45 ساعة متواصلة مارس جيش الاحتلال كل أنواع التنكيل والقتل والانتهاكات بحق سكان المخيم البالغ عددهم قرابة 14 ألف نسمة، وأجبرهم على النزوح خارج المخيم، لكنه فوجئ بتصد بطولي من بعض الشباب الفلسطيني المناضل الذي رفض الاستسلام والخنوع لإملاءات وأوامر المحتل.
وعمّ إضراب شامل كل أنحاء الضفة، استجابة لدعوات فلسطينية، حدادًا على شهداء نور شمس، وسط دعوات لاستمرار المسيرات في جميع المدن، تنديدًا بتلك المجزرة التي تضاف إلى سجل الإبادة الجماعية التي ينفذها الاحتلال منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
غزة الصغرى
حوًل الاحتلال مخيم نور شمس في غضون ساعات قليلة إلى نموذج مصغر من قطاع غزة، حيث كان التدمير والتجريف والقتل والحصار والتنكيل والتهجير القسري لغته التي لا يجيد سواها، فهدم الأسوار والمنازل والجدران والمحال التجارية بجرافاته المجنزرة، وطوق المخيم من كل جوانبه بسلاسل من المدرعات.
تقدم شهادة المسعف المتطوع توفيق قانوح (25 عامًا) من داخل المخيم، صورة شبه مكتملة لما ارتكبه جيش الاحتلال داخل نور شمس، لافتًا في حديثه لـ”الجزيرة” إلى أن القوات المحتلة لجأت إلى أسلوب “قضم المناطق” تسهيلًا لعملياتها ولتحقيق أكبر قدر من الأهداف في أقل وقت، حيث قسمت المخيم إلى 3 مناطق رئيسية: أولًا: حارة المنشية، المحاصرة من مداخلها كافة وبها أصوات انفجارات لا تتوقف، ثانيًا: حارة الدمج التي تشهد عمليات استهداف وقصف مستمرة، ثالثًا: حارة العيادة التي يتم بها تجميع الجرحى والمصابين جراء القصف من أجل العلاج.
صور تظهر هدم جرافة الاحتلال مخبزا في مخيم نور شمس شرق طولكرم pic.twitter.com/AX0RkriQeL
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) April 21, 2024
وعن طبيعة الاستهداف والقصف الإسرائيلي، يقول المسعف الفلسطيني إن قوات الاحتلال استهدفت المنازل داخل المخيم بقذائف الأنيرجا والقذائف المحمولة على الكتف، هذا بخلاف تبديل الجنود بين الحين والآخر بسبب ساعات القصف الطويلة والتي استمرت لقرابة 4 أيام متواصلة، لافتًا في حديثه لـ”الجزيرة” إلى أن جيش المحتل دمر 60 منزلًا على الأقل في حارة المنشية وحدها، وأضاف “القذائف لم تتوقف منذ عصر الخميس 18 أبريل/نيسان الحالي، وهو الوقت الذي بدأ فيه حصار المخيم، لكنها ازدادت بشكل لافت منذ ساعات الصباح الأولى ليوم السبت”.
أسفر هذا القصف عن خروج الناس من منازلها في حارة المنشية إلى منازل أخرى متطرفة في أزقة المخيم حيث كان يجتمع في البيت الواحد ما بين 4 إلى 5 عائلات، غير أن الاحتلال كان يدخل كل بيت على حدة ويمشطه كاملًا، ثم يدمر محتواه بعد مغادرته، في مخطط يهدف إلى محو المخيم من أساسه وإجبار الناس على تركه، على حد قوله.
اختمم قانوح شهادته بقوله إن “هذه صورة غزة الصغرى، باختصار ما يحدث في المخيم هو ما يحدث في غزة، الدمار الكبير في المنازل واقتحام البيوت، واعتقال المصابين وقتل الناس في الشوارع من قبل القناصين المتمركزين على أسطح المنازل، والقصف المستمر، كل ذلك يذكر بأعمال الاحتلال في غزة، وكل ذلك هدفه معروف، وهو الخلاص من المقاومة ومحاولة تفكيكها هنا في المخيم”.
“لن نترك منازلنا”
تتطابق شهادة المسعف مع شهادات آخرين من سكان المخيم ممن كشفوا عن مخطط التهجير الذي يحاول الاحتلال تنفيذه من خلال وأد كل مقومات الحياة، وتفريغ كل المناطق من مرافقها العامة وتدمير بنيتها التحتية وتحويلها إلى مناطق طاردة لسكانها غير قابلة للعيش.
وعلى مدار أكثر من ثلاثة أيام كاملة عاش سكان نور شمس حرب مصغرة لما عاشه الغزيون طيلة الأشهر الست الماضية، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا اتصالات، وصعوبة في الحصول على الطعام والشراب، وفرض طوقًا أمنيًا مشددًا على التنقل والحركة، ومنع سيارات الإسعاف والحماية المدينة من الدخول، وتناثر الجرحى داخل البيوت في ظل حرمانهم من الحق في العلاج والحركة.
حاول الاحتلال في غضون ساعات قليلة سحب بساط الأمان والاستقرار والحياة من تحت أقدام سكان المخيم، آملًا أن يدفع ذلك نحو النزوح الجماعي خارج المخيم، من أجل تفريغه وبسط الهيمنة الكاملة عليه، كرسالة تهديد وإنذار وترهيب واضحة لكل المخيمات الأخرى وبقية مناطق طولكرم وأجوارها في الضفة الغربية.
أمام هذا الوضع المأساوي، توهم المحتل أن ما فشل في تحقيقه في غزة سيحققه في مخيمات الضفة، لكنه فوجئ بصمود أهل نور شمس وتشبثهم بمنازلهم رغم الحصار، وتمسكهم بالبقاء حتى إن انتفت مقومات الحياة، وهو الإصرار الذي أجبر جيش الاحتلال على الانسحاب لاحقًا بعدما استقر في يقينه فشل كل مخططات التهجير، سواء في غزة أم غيرها.
بعد استشهاد 14 إثر اقتحام الاحتلال لمخيم نور شمس.. كلمة مؤثرة لطفل لحظة تويع عدد من شهداء المخيم#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/LLm1hrNVGU
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) April 21, 2024
تصف الفلسطينية فدوى الصباريني (40 عامًا) الذي يحاصر الاحتلال منزلها في المخيم، هذا المشهد المروع، بقولها إن هناك حالة رعب بين الناس لا سيما الأطفال، فكل مقومات الحياة تتلاشى ساعة تلو الأخرى، مضيفة أن هدف الاحتلال الرئيسي هو طرد السكان وتهجيرهم، وتابعت “كل ذلك للقضاء على المخيم، بعض الناس تركوا منازلها بشكل إجباري خوفًا من اقتحامها أو قصفها، لكن والدي الذي جرب الهجرة من قضاء حيفا عام 1948 قال لنا: لن أعيد التجربة، لن أترك منزلي مرة أخرى، حتى وإن قصفوه فوق رأسي”.
المفاجئ لجيش الاحتلال، وللوسط الإسرائيلي برمته، أنه ظن أن مخيم نور شمس وطولكرم وبقية مناطق الضفة ستكون لقمة مستساغة ونزهة خلوية يستعرض فيها المحتل عضلاته على أمل تحقيق نصر وهمي يروج له داخليًا، لكنه صُدم بمقاومة شرسة من الشباب الفلسطيني غير التنظيمي، الذي يزود بحياته عن أرضه وعرضه، شاهرًا سلاح الصمود والتحدي، مهما حاول الاحتلال وأعوانه تسطيح وعيه وفكره وتهميشه خارج معادلة “الأرض مقابل السلام”.
طولكرم.. شرارة الثورة الفلسطينية الكبرى
لم يتوقف الاحتلال منذ طوفان الأقصى عن التحرش بين الحين والآخر بمدينة طولكرم بصفة عامة، فهي تتمتع بموقع استراتيجي محوري، يجمع بين الأصالة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ حيث يعود تاريخها إلى آلاف السنين (العصر الحجري النحاسي “4500-3200 قبل الميلاد”) والجغرافيا اللوجستية حيث تقع على الحد الفاصل بين الطبيعة السهلية الساحلية الخصبة الواقعة غرب المدينة، والأراضي الجبلية التي تمتد للشرق من المدينة.
خضعت المدينة التي كان يطلق عليها في العصر الكنعاني “تل- كرمتة العنب”، ثم “طور كرم” وتعني “جبل العنب”، في العصر الأموي، ثم حرّفت إلى اسمها الحالي طولكرم، للانتداب البريطاني عام 1918، ليصادر الكثير من أراضيها لصالح الاحتلال الإسرائيلي في حرب 1948.
كما كانت الشرارة الأولى التي أشعلت الثورة الفلسطينية الكبرى قبل 88 عامًا حين قُتل اثنان من اليهود وأُصيب ثالث خلال هجوم لشباب فلسطيني على مركبتهم في طولكرم في 15 أبريل/نيسان عام 1936، وهو ما جعلها هدفًا رئيسيًا للاحتلال بعد ذلك.
ومنذ النكبة عام 1948 تحولت طولكرم خاصة مخيم نور شمس إلى قبلة النازحين من الفلسطينيين، الأمر الذي أثار قلق الاحتلال فبدأ في فرض طوق خانق عليها، وإصابتها بحالة من الشلل التام من خلال توسيع المستوطنات بداخلها، لتجريدها من زخمها التاريخي والتراثي والنضالي.
إضراب شامل يعم الضفة الغربية حداداً على أرواح شهداء مخيم نور شمس شرقي #طولكرم الذين استشهدوا خلال عملية عسكرية نفذتها قوات الاحتلال في المخيم واستمرت قرابة 3 أيام pic.twitter.com/nC9Ci27Ict
— TRT عربي (@TRTArabi) April 21, 2024
ويُنظر لطولكرم على أنها واحدة من منارات العلم والعلماء في فلسطين وخارجها، فكانت من أقدم المدن العربية التي عرفت التعليم، حيث تأسست أول مدرسة بها عام 1885م، وهي مدرسة طولكرم الابتدائية، واليوم يوجد بها 8 مدارس للذكور ومثلها للإناث، و4 مدارس مختلطة تدرّ آلاف الطلبة والطالبات.
علاوة على ذلك، كانت “جبل العنب” كما كانت تسمى في العصر الأموي، مفرخة للعلماء والشعراء والأدباء على رأسهم الشعراء: حسن الكرمي وعبد الرحيم محمود وجمال توفيق محمود، والعلماء: محمد خليل عميد كلية الحقوق سابقًا في الجامعة الأمريكية في بيروت، وعالم الرياضيات والفيزياء حلمي مارة، الذي شارك في مؤتمر عالمي للذرة عام 1946، والمؤرخ محمد زايد عميد كلية التاريخ في الجامعة الأمريكية ببيروت سابقًا.
نظرًا لتلك المكانة العلمية والثقافية والتراثية لطولكرم حاول الاحتلال خنقها بشكل كامل، وإخراجها عن سياقها الفلسطيني رويدًا رويدًا، فحولها إلى ما يشبه المدينة المنعزلة، وذلك بتطويقها بأكثر من 25 مستوطنة، أغلبها مستعمرات سكنية وتعاونية (كيبوتز).
تزامنًا مع مجزرة نور شمس الأخيرة، تعانق طولكرم غزة، برباط الدم والروح والمصير المشترك، ليقدم الاحتلال – بغبائه وصلفه وعجزه عن تحقيق انتصار ميداني فعلي في القطاع، فرصة على طبق من ذهب للداخل الفلسطيني من أجل توحيد جبهته والالتفاف خلف إرادة التصدي والصمود والمقاومة للمحتل، خاسرًا أحد أبرز الأسلحة التي تفنن في توظيفها خلال السنوات الماضية، سلاح التفرقة وبث الفتنة بين الفرقاء الفلسطينيين، وهو السلاح الذي آن الآوان أن يرتد في صدر الكيان المحتل اليوم قبل الغد.