مصر تفتح قواعدها الجوية أمام الروس.. ما المقابل؟

كشفت الاتفاقية التي أُعلن بعض تفاصيلها مؤخرًا بشأن الاستخدام المتبادل للأجواء والمطارات بين القاهرة وموسكو، النقاب عن بعض ملامح الوجود العسكري الروسي في مصر رغم تصريحات النفي الصادرة عن البلدين طيلة الأشهر الماضية.
الاتفاقية التي كلف رئيس الوزراء الروسي دميتري مدفيديف، وزارتي الدفاع والخارجية بالتفاوض مع مصر من أجل توقيعها وفق المرسوم الصادر يوم 28 من نوفمبر/تشرين الثاني ونشر الخميس 30 من نوفمبر/تشرين الثاني، في الموقع الرسمي للحكومة الروسية الخاص بالمعلومات القانونية، تشير إلى “استخدام المجال الجوي والبنية التحتية الخاصة بالمطارات لروسيا ومصر”.
وفي حال التوقيع عليها رسميًا، فإنها ستتيح لقوات البلدين استخدام الأجواء والقواعد الجوية لبعضهما البعض بما في ذلك الطائرات العسكرية، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات عن دوافع كل من القاهرة وموسكو لإبرام هذه الاتفاقية؟ وما يمكن أن تثيره من تداعيات قد تؤثر على خريطة الصراعات الإقليمية من جانب، ومنظومة التحالفات من جانب آخر.
تفنيد أكاذيب القاهرة وموسكو
قبل تسعة أشهر تقريبًا، كشفت مصادر دبلوماسية، أمريكية ومصرية، عن نشر روسيا لقوات خاصة لها في قاعدة جوية في منطقة سيدي براني على بعد 100 كيلومتر من حدود مصر مع ليبيا، حسبما أشارت “رويترز” في تقرير وصفته بـ”الحصري” نشر بتاريخ 14من مارس/آذار 2017.
المصادر وقتها قدمت بعض التفاصيل عن هذه القاعدة كونها وحدة عمليات خاصة قوامها 22 فردًا من العسكريين والفنيين الروس، غير أنها لم تذكر شيئًا عن طبيعة المهمة التي كلفوا بالوجود من أجلها، كما أضافوا أن روسيا استخدمت قاعدة مصرية أخرى شرق سيدي براني أوائل فبراير/شباط الماضي.
حينها نفى المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة المصرية العقيد تامر الرفاعي، وجود أي جندي أجنبي على الأراضي المصرية قائلاً إنها مسألة سيادة، وهو نفس ما أشارت إليه موسكو التي نفت بدورها وجود أي قوات لها في مصر، كما جاء على لسان النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي فلاديمير جاباروف الذي وصف تلك الأنباء بـ”الوهمية” وأنها لا تستحق الاهتمام، قائلاً: “روسيا لم تفعل ذلك ووزارة الدفاع لا تؤكدها، إنها أنباء وهمية لا تستحق الاهتمام”.
غير أنه وبعد سبعة أشهر من نفي ما ورد في “رويترز” أشارت صحيفة “إزفيستيا” الروسية إلى وجود مباحثات رسمية بين القاهرة وموسكو بشأن استئجار الأخيرة منشآت عسكرية مصرية، في مقدمتها قاعدة جوية في مدينة سيدي براني، نفس المدينة التي كانت بها القاعدة البحرية الروسية القديمة.
الصحيفة نقلت عن مصدر في الخارجية الروسية ومقرب من وزارة الدفاع، أن المحادثات عن مشاركة روسيا في إعادة ترميم مواقع عسكرية مصرية في مدينة سيدي براني على ساحل البحر الأبيض المتوسط تجري بنجاح، موضحًا أن القاعدة التي تقع في المدينة ذاتها سيتم استخدامها كقاعدة عسكرية جوية، وستكون جاهزة للاستعمال بحلول عام 2019، في حال توصل الطرفان إلى اتفاق.
ومن ثم تأتي الأنباء الواردة بشأن الاتفاقية المزمع إبرامها بين موسكو والقاهرة التي تتضمن فتح القواعد الجوية أمام قوات البلدين، وتتواكب مع وجود وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، في القاهرة، لتؤكد أن الدخان الذي أحدثته كان لنيران أشعلت قديمًا حتى وإن سعى كلا الطرفين لإخمادها تجنبًا لما يمكن أن تثيره من حرائق هنا أو هناك، لتفتح الباب أمام تساؤل آخر يفرض نفسه بقوه: ماذا تريد روسيا من إنشاء قاعدة جوية لها في غرب مصر على وجه التحديد بالقرب من الحدود الليبية؟
قبل تسعة أشهر تقريبًا، كشفت مصادر دبلوماسية، أمريكية ومصرية، عن نشر روسيا لقوات خاصة لها في قاعدة جوية في منطقة سيدي براني على بعد 100 كيلومتر من حدود مصر مع ليبيا
وزير الدفاع الروسي خلال لقائه الرئيس المصري في القاهرة قبل يومين
ماذا تريد موسكو؟
القراءة المتأنية للمشهد الإقليمي وما طرأ عليه من مستجدات وتغير في ملامح خريطته العامة، تدفع إلى القول بأن روسيا نجحت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة على وجه التحديد في إحياء دور الاتحاد السوفيتي كأحد القطبين الكبيرين في العالم، وهو ما كانت تسعى إليه منذ سنوات طويلة، وذلك عبر الباب الخلفي لأزمتي سوريا واليمن من جانب، والدخول في تحالفات جديدة مع إيران والصين من جانب آخر، وهو ما أهلها لأن تكون الطرف الأكثر تأثيرًا في كثير من ملفات المنطقة.
ورغم هذا التمدد الذي نجحت موسكو في توسعة دائرته غير أنه لا يزال يعاني من بعض الثغرات التي تتطلب مزيدًا من التحرك وبسط النفوذ بما يتماشى مع حلم إحياء الإمبراطورية السوفيتية القديمة، على رأسها غياب الوجود الروسي في شمال إفريقيا.
أولا: التأثير في الملف الليبي
لم تكن موسكو حاضرة بالشكل الملائم في الملف الليبي مقارنة بالملفات الأخرى، فمنذ 2011 تعاني من غياب شبه تام لوجودها العسكري، إذ احتل الملف السوري الغالبية العظمى من الاهتمام والتركيز، ونظرًا لما يعاني منه الدب الروسي من أزمات اقتصادية في السنوات الأخيرة، آثر عدم فتح أي جبهات صراع جديدة.
ابتعاد روسيا عن المشهد الليبي ترك الساحة خالية تمامًا لبعض القوى الدولية الأخرى، على رأسها الولايات المتحدة وإيطاليا، ثم جاءت فرنسا بعد إيمانويل ماكرون لتفرض نفسها هي الأخرى كلاعب مؤثر في ساحة الصراع، ومن ثم أعادت موسكو التفكير في الأمر مرة أخرى في محاولة لإحياء دورها مجددًا في هذا الملف من خلال بعد الإستراتيجيات التي اعتمدتها مؤخرًا.
اقتصر دور موسكو خلال الأشهر الماضية على القيام بمهام الوسيط بهدف تقريب وجهات النظر بين حكومة الوفاق الوطني المدعومة أمميًا والجنرال خليفة حفتر، قائد ما سمي بعملية الكرامة، وهو ما تمخض عن عدد من اللقاءات التي جمعت بين الطرفين برعاية روسية، وإن كان هذا لا يخفي دعم موسكو الواضح لحفتر.
الاتفاقية المزمع إبرامها بين موسكو والقاهرة التي تتضمن فتح القواعد الجوية أمام قوات البلدين، وتتواكب مع وجود وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، في القاهرة، تؤكد أن الدخان الذي أحدثته كان لنيران أشعلت قديمًا
الدعم السياسي الروسي لقائد ما سمي بعملية الكرامة يبدو أنه لم يكن كافيًا من وجهة نظر أصحاب القرار داخل الكرملين، ومن ثم كان البحث عن تدخل أكثر نفوذًا، قادر على إحداث التغيير الفعلي على أرض الواقع، وهذا بلا شك يقتضي تهيئة المجال أمام استخدام القوة العسكرية كما حدث في سوريا، وهو ما يتطلب وجود قاعدة عسكرية قريبة من مسرح الأحداث.
موسكو تعي جيدًا أهمية دعم الجنرال بشتى السبل، محققة بذلك حزمة من الأهداف على رأسها منحها مكان الصدارة عند عقد الصفقات الاقتصادية حال نجاحها في تحقيق نفوذ سياسي قوي، ومن ثم تعويض الخسائر التي تكبدتها بسبب سقوط معمر القذافي الذي كان مقربًا من الروس بصورة كبيرة.
هذا بخلاف الاستفادة من النفط الليبي الذي من الممكن أن يفتح مجالاً كبيرًا للتعاون بين البلدين، بعد مساعدة قوات حفتر على السيطرة على ما يُسمَّى الهلال النفطي الليبي، ولعل بدء التعاون بين شركة “روس نفط” أكبر شركات النفط الروسية والمؤسسة الوطنية الليبية للنفط أول الخيط في هذا التعاون.
كما يساعد وجود قاعدة جوية روسية بالقرب من ليبيا في ترسيخ مركز موسكو العسكري في البحر المتوسط، في محاولة لإحياء ما تطرق إليه القذافي في 2008 حين تحدث عن موضوع القواعد البحرية الروسية في ليبيا، وهو ما يعظم دورها الإقليمي بصورة كبيرة.
أهداف عدة تسعى موسكو لتحقيقها من وراء دعم فريق حفتر
ثانيًا: مناهضة حلف شمال الأطلسي”الناتو”
السماح باستخدام القواعد الجوية المصرية بالنسبة لروسيا ورقة ضغط مهمة يمكن اللعب بها ضد حلف شمال الأطلسي “الناتو” والذي يمثل صداعًا مؤلمًا في رأس موسكو التي تسعى إلى تخفيف تأثيره قدر الإمكان، باحثة في ذلك عن كل ما يمكن أن يمثل ضغطًا عليه.
العلاقة بين موسكو والناتو تشهد خلال الآونة الأخيرة موجات متلاطمة من المد والجذب خاصة بعد تصاعد حدة المواجهة في بعض الملفات على رأسها الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن نشر قوات الحلف في دول شرق أوروبا، مما يعتبره الروس تهديدًا صريحًا لهم.
ومن هنا فإن وجود قاعدة عسكرية لروسيا سواء في مصر أو في ليبيا أو السماح لها باستخدام المجال والقواعد الجوية والبنية التحتية في هذه المنطقة الإستراتيجية بالقرب من البحر المتوسط وعلى الحدود الليبية، سيعطي موسكو الفرصة لتهديد الحلف الأوروبي ومن ثم سينعكس بلا شك على موازين القوى حيال الملفات المتصارع عليها بين الطرفين.
ابتعاد روسيا عن المشهد الليبي ترك الساحة خالية تمامًا لبعض القوى الدولية الأخرى، على رأسها الولايات المتحدة وإيطاليا، ثم جاءت فرنسا بعد إيمانويل ماكرون لتفرض نفسها هي الأخرى كلاعب مؤثر في ساحة الصراع، ومن ثم أعادت موسكو التفكير في الأمر مرة أخرى
ثالثًا: تطويق النفوذ الأمريكي
رغم سقوط الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة بمقاليد الأمور في الخريطة السياسية الدولية، فإن صراع القطبين بين البلدين لم ينته، ولا تزال فصول الحرب الباردة بينهما مستمرة حتى وإن اتخذت أشكالاً مختلفة، وهو ما أشار إليه خبراء خلال تعليقهم على دوافع موسكو من بناء قاعدة عسكرية لها في شمال إفريقيا.
فروسيا وفق البعض تسعى إلى تطويق منطقة النفوذ الأمريكي بالخليج بين البحر الأحمر وإيران، خاصة بعد نجاحها في سحب البساط من تحت الأقدام الأمريكية في عدد من الملفات التي كانت تحت الهيمنة الأمريكية بصورة كبيرة على رأسها سوريا واليمن.
علاوة على ذلك الدخول في تحالفات جديدة استطاعت تفتيت الخريطة التي رسمتها واشنطن خلال العقود الأخيرة، لعل أبرزها التحالف مع إيران والصين وكوريا الشمالية، هذا بخلاف نجاحها في فتح قنوات تواصل مع حلفاء أمريكا في المنطقة في مقدمتهم السعودية وها هي مصر تدخل على الخط بصورة ربما يكون لها تأثيرات مستقبلية، بما تسمح به من مساعدة موسكو على التمدد في شمال إفريقيا (ليبيا – تونس – الجزائر).
https://www.youtube.com/watch?v=1kRUhzy3VIk
فماذا عن القاهرة؟
تلهث القاهرة خلف الدب الروسي قرابة 26 شهرًا لإثنائه عن قرار وقف الرحلات الجوية والسياحية لمصر في أعقاب سقوط الطائرة الروسية في سيناء أكتوبر/تشرين الأول 2015، ورغم ما تقدمه من تنازلات أمنية وإدارية فإن ذلك لم يكن شفيعًا لها عند موسكو.
وكما تشير التجارب السابقة، فإن السلطات الحاكمة في مصر لا تمانع في إبرام أي اتفاقيات طالما ستدر عليها عائدًا اقتصاديًا ينتشلها من المأزق الذي تحياه ، حتى وإن تضمن بعضها تهديدًا لأمنها القومي كما حدث مع اتفاقية إعادة ترسيم الحدود بين مصر والسعودية والتي كان بمقتضاها التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح الرياض، وهي القضية التي لا تزال محل جدل داخل الشارع المصري رغم حسمها بالتوقيع.
ارتماء القاهرة في أحضان الدب الروسي قد يترتب عليه تهديد لعلاقاتها مع دول أوروبا على رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا والتي ترى في موسكو خصمًا لها
البعض ذهب فيما يتعلق باتفاقية الاستخدام المتبادل للأجواء والمطارات بين القاهرة وموسكو، إلى وجود صفقة تبادلية بين الجانبين، تحيي روسيا من خلالها أمجاد الاتحاد السوفيتي السابقة في امتلاك قاعدة جوية لها في هذه المنطقة الحيوية، في مقابل استئناف رحلاتها السياحية مرة أخرى، خاصة أن السياحة الروسية تعد المصدر الأول في قائمة الدخول الناتجة عن السياحة الأجنبية لمصر.
عودة السياحة ليست الهدف الوحيد الذي من الممكن أن يحققه النظام المصري من وراء السماح باستخدام قواعدها الجوية أمام القوات الروسية، فمن الممكن أن تكون ورقة ضغط تمارسها القاهرة ضد الولايات المتحدة وأوروبا حال عرقلة الأخير للمصالح المصرية.
عودة السياحة الروسية هدف أساسي في مغازلة القاهرة المستمرة لموسكو
كما ذهب آخرون إلى أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ربما يهدف من وراء توقيع هذه الاتفاقية إلى الاستقواء بالروس ضد أوروبا وأمريكا فيما إذا عارضا ترشحه لفترة رئاسية جديدة وذلك من خلال الضغط عليهما بالحليف الجديد الذي يملك الكلمة العليا في أغلب ملفات الصراع الإقليمية.
وبعيدًا عن الدوافع والأهداف فإن هناك من أشار إلى تخطي مثل هذه الاتفاقيات للإرادة الشعبية ما يتضمن مخالفة واضحة للقانون والدستور، خاصة أنها لم تمرر – ولو صوريًا – عن طريق مجلس النواب المصري، وهو ما يفقدها شرعيتها، بالإضافة إلى ما تحمله من تهديد للأمن القومي المصري الذي ربما بعد توقيع هذه الاتفاقية يصبح مجاله الجوي عرضة للاختراقات الجوية من هنا أو هناك أو أن يتم الزج باسم مصر في بعض الصراعات الإقليمية حال توجيه روسيا ضربات عسكرية لبعض الدول مستخدمة في ذلك القواعد الجوية المصرية أو مجالها الجوي.
ارتماء القاهرة في أحضان الدب الروسي قد يترتب عليه تهديد لعلاقاتها مع دول أوروبا على رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا والتي ترى في موسكو خصمًا لها، كذلك قد يهدد على المستوى البعيد العلاقات مع دول الخليج نظرا للتحالف الواضح مع إيران العدو الأبرز للسعودية.
ومن ثم تمثل هذه الاتفاقية – إذا ما تم الموافقة عليها – لغمًا شديد الخطورة قد ينفجر عند الاستخدام السيئ لموسكو للقواعد الجوية المصرية بما يضع القاهرة في موقف حرج إقليميًا ودوليًا، كذلك حال نشوب أي خلاف بين البلدين، أما ما يثار بشأن إمكانية استخدام مصر للقواعد الجوية الروسية بنص الاتفاقية التبادلية فإنه حديث يفتقد للقيمة الفعلية نظرًا لعدم الحاجة إليها.