تترقب مختلف الأوساط السياسية في الجزائر ما سيقوله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته للبلاد في الـ6 من ديسمبر/كانون الأول الحاليّ من تصريحات بشأن الماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وهو المطالب أكثر من أي رئيس فرنسي سابق بالذهاب بعيدًا في معالجة ملف الذاكرة الذي لا يزال ينغص العلاقات بين البلدين بالنظر لما أطلقه من تصريحات سابقة، لذلك فهو مدعو للاعتراف الرسمي بجرائم باريس البشعة في الجزائر على الأقل إن لم يستطع الاعتذار عنها.
في فبراير الماضي، قال ماكرون في أثناء زيارته للجزائر خلال حملته الانتخابية في مقابلة مع قناة الشروق نيوز الخاصة: “الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي، إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات”.
واحتلت فرنسا الجزائر في 1830 وحتى سنة 1962 عندما نالت البلاد استقلالها، بعد ثورة تحرير استمرت 7 سنوات ونصف، وأسفرت عن سقوط مليون ونصف مليون شهيد من الجزائريين.
بوادر تفاؤلية
لا يستطيع أي متابع للعلاقات الفرنسية الجزائرية أن يتكهن بما سيقوله ماكرون الأربعاء المقبل للجزائريين عند الحديث عن ملف الذاكرة، بالنظر إلى أن جميع سابقيه من الرؤساء الفرنسيين لم يتمكنوا من تقديم الاعتراف الرسمي والاعتذار عن 132 سنة من الاستعمار الاستيطاني في الجزائر، واكتفوا بإدانة محتشمة لبعض المجازر الاستعمارية كأحداث 8 من مايو 1945 التي ذهب ضحيتها 45 ألف جزائري، وأحداث 17 من أكتوبر 1961 التي جرت في فرنسا عندما تم رمي أكثر من 500 جزائري في نهر السين الفرنسي من قائد الشرطة موريس بابون.
خلال جولته الإفريقية، اعترف الرئيس الفرنسي بفقدان دول القارة السمراء الثقة في السياسة الفرنسية بالنظر إلى ممارسات من سبقوه، وقال في تصريحات لصحفيين فرنسيين: “لم تكن هناك سياسة فرنسية تجاه إفريقيا”
غير أن التصريحات التي أدلى بها ماكرون في بوركينا فاسو الأسبوع الفارط تبعث على التفاؤل بأن يقوم الرئيس الفرنسي بخطوات جديدة تسهم في حل ملف الذاكرة مع الجزائر.
وقال ماكرون خلال خطاب ألقاه أمام طلبة جامعة العاصمة البوركينابية واغادوغو الثلاثاء الماضي: “جرائم الاستعمار الأوروبي في إفريقيا لا جدال فيها، وهو ماضٍ يجب أن يمضي”، وأضاف ماكرون أنه من الجيل الذي يدين الاستعمار الأوروبي في إفريقيا، ومن الذين لا يملون على الأفارقة ما يجب أن يفعلوا.
لكن ما يعاب على تصريحات ماكرون أنه لجأ إلى الإدانة العامة للاستعمار الأوروبي، في وقت كان مطالبًا فيه أن يقوم أيضًا بالإدانة الخاصة للاستعمار الفرنسي تحديدًا في القارة السمراء، وهو المطلوب منه أيضًا تحديدًا في الجزائر التي من الأكيد أنها لا تنتظر إدانة عامة أو حتى خاصة، لأن هذه المرحلة قد تم تجاوزها والمنتظر اليوم هو الاعتراف الرسمي بالجرائم والاعتذار عنها.
لا شيء دون مقابل
خلال جولته الإفريقية، اعترف الرئيس الفرنسي بفقدان دول القارة السمراء الثقة في السياسة الفرنسية بالنظر إلى ممارسات من سبقوه، وقال في تصريحات لصحفيين فرنسيين إنه لم تكن هناك سياسة فرنسية تجاه إفريقيا.
ومقابل اعترافه بأخطاء باريس في إفريقيا، طلب ماكرون من الأفارقة المساهمة في الاستثمار في العلاقات التاريخية بين الطرفين، وفي مقدمتها اللغة الفرنسية التي قال بشأنها: “اللغة الفرنسية الأكاديمية أصبحت جامدة وأدعو الأفارقة بما أنها عامل مشترك بيننا أن يساهموا في تطويرها بإدخال كلمات يختارونها هم”.
لا تزال مختلف الإدارات الجزائرية تستعمل الفرنسية في مراسلتها، رغم وجود مرسوم رئاسي يلزم موظفي الهيئات الحكومية باستعمال اللغة العربية في مراسلاتهم الإدارية
ويسعى ماكرون إلى أن يعيد المجد للغة بلاده التي تفقد عامًا بعد عام حجم استعمالها لصالح عدة لغات في مقدمتها الإنجليزية، وقال إن الواقع يتطلب التخلي عن الفرنسية الكلاسيكية وإثرائها باللغة البسيطة التي يستعملها الممثلين والمغنيين في أفلامهم وموسيقاهم.
وأوضح ماكرون أن هذه الرؤية كانت وراء عدم تعيينه وزيرًا للفرانكفونية، واستبداله بشخصية مكلفة بهذا الملف، ودعا الأفارقة إلى إعادة النظر في المنظمة العالمية للفرانكفونية بشكل يجعلها أكثر فعالية.
وفي الجزائر، تظل اللغة الفرنسية تصنف كلغة أجنبية أولى قبل الإنجليزية التي صارت في الصدارة عالميًا، حيث تدرس لغة موليير في الطور الابتدائي ويمتحن فيها رفقة اللغة العربية والرياضيات للانتقال للطور المتوسط (الإعدادي).
كما لا تزال مختلف الإدارات الجزائرية تستعمل الفرنسية في مراسلتها، رغم وجود مرسوم رئاسي يلزم موظفي الهيئات الحكومية باستعمال اللغة العربية في مراسلاتهم الإدارية.
وتأتي زيارة ماكرون عشية انعقاد اللجنة المشتركة الجزائرية – الفرنسية بباريس برئاسة الوزير الأول الجزائري أحمد أويحيى ونظيره إدوارد فليب في 7 من ديسمبر/كانون الأول بهدف تطوير التعاون بين البلدين.
خلال جولته الإفريقية الأخيرة، أعلن ماكرون تأكيد رغبته في إقامة قوة دول الساحل الخمسة النيجر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا للتصدي للمجموعات المتطرفة
ورغم فقدان فرنسا صدارة معاملاتها التجارية مع الجزائر لصالح دول كالصين وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، تظل باريس من بين أهم المتعاملين الاقتصاديين للسوق الجزائرية سواء تعلق الأمر بفوز بعض شركاتها بصفقات بملايين الدولارات في الجزائر، أو بحجم صادرتها نحو السوق الجزائرية.
وتطالب الجزائر في كل مرة أن تقام العلاقات الاقتصادية بين البلدين على مبدأ “رابح – رابح”، وأن تترجم الصادرات الفرنسية إلى استثمارات حقيقية عبر مصانع في الجزائر، لكن هذه المطالب تظل إلى غاية اليوم خارج الأمل المنشود.
خلاف بشأن منطقة الساحل
شكل ملف معالجة الوضع الأمني في منطقة الساحل الصحراوي دائمًا نقطة خلاف بين فرنسا والجزائر، فرغم سماح الأخيرة للأولى في 2013 باستعمال مجالها الجوي لمرور الطائرات الفرنسية العسكرية التي تدخلت في مالي تحت حجة ملاحقة الإرهابيين شمال البلاد ، تظل الجزائر تنظر بعين عدم الرضا لوجود قوات أجنبية قرب حدودها الجنوبية شمالية، كما كانت من المعارضين للتدخل العسكري في ليبيا للإطاحة بنظام معمر القذافي الذي قاده الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي.
وفي جولته الإفريقية الأخيرة، أعلن ماكرون تأكيد رغبته في إقامة قوة دول الساحل الخمسة النيجر ومالي وبوركينافاسو وتشاد وموريتانيا للتصدي للمجموعات المتطرفة، قائلاً: “حان الوقت لسد الطريق أمام التطرف الديني”.
قال الوزير الأول أحمد أويحيى على هامش القمة الخامسة للاتحاد الإفريقي – الاتحاد الأوروبي بأبيجان: “الجزائر أنفقت خلال سبع أو ثماني سنوات أكثر من 100 مليون دولار لمساعدة خمسة بلدان (التشاد ومالي والنيجر وموريتانيا وليبيا)
وأعلن ماكرون أنه سيقترح مبادرة أوروبية إفريقية لضرب المنظمات الإجرامية وشبكات المهربين التي تستغل المهاجرين من جنوب الصحراء الإفريقية حتى بلغ الأمر ببعضهم حد الرق.
ويرى مراقبون أن هذه القوة ما هي إلا غطاء جديد لباريس لتعزيز سيطرتها على منطقة الساحل بعد زيادة الاهتمام الأمريكي بالمنطقة.
وكشفت صحيفة نيويورك تايمز أن البنتاغون سيقوم بنشر طائرات قتال من دون طيار فوق النيجر بعد تلقي الضوء الأخضر من السلطات النيجيرية، وذكرت الصحيفة أن القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) وقعت مع حكومة النيجر على مذكرة تفاهم ترخص نشر هذه الآلات القتالية انطلاقًا من العاصمة نيامي وأغاديز.
وكان الجيش الأمريكي يستعمل في النيجر طائرات من دون طيار لأغراض الاستعلامات في إطار الدعم للقوات النيجيرية ضد الجماعات الإرهابية، غير أنه سعى إلى أن تكون هذه الطائرات قتالية وقد أدى الكمين الذي أودى في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم بحياة أربعة جنود أمريكيين إلى تسريع ذلك.
وأرسلت واشنطن إلى النيجر 800 جندي، وتعتزم إنهاء بناء قاعدة عسكرية في أغاديز سنة 2018، مما سيسمح للقوات الأمريكية بالقيام بعمليات هجومية بواسطة طائرات قتالية بدون طيار ما وراء حدود النيجر وضرب أهداف في ليبيا ومالي والتشاد ونيجيريا.
وإن كان لا يروق للجزائر الوجود الفرنسي والأمريكي معًا على حدودها الجنوبية، إلا أن الاتهام الأول يبقى دائمًا يوجه لباريس التي أفشلت بتدخلها العسكري في يناير 2013 العمل الذي كانت تقوم به لجنة قادة أركان جيوش دول الساحل التي كانت تضم الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر وليبيا قبل الإطاحة بمعمر القذافي.
وقال الوزير الأول أحمد أويحيى الخميس الماضي على هامش القمة الخامسة للاتحاد الإفريقي – الاتحاد الأوروبي بأبيجان: “الجزائر أنفقت خلال سبع أو ثماني سنوات أكثر من 100 مليون دولار لمساعدة خمسة بلدان (التشاد ومالي والنيجر وموريتانيا وليبيا) من شبه منطقة الساحل في مجال تكوين نحو عشرة فرق من القوات الخاصة ومنحها تجهيزات ضخمة”.
وأضاف أويحيى أن “المساهمة التضامنية للجزائر في مكافحة الإرهاب في شبه المنطقة الساحلية قائمة منذ أكثر من 10 سنوات من خلال لجنة قيادة الأركان العملية للجيوش وآليات تعاون أخرى”.
وأردف أويحيى قائلاً: “على سبيل المقارنة ومن دون أي جدال، فإن الاتحاد الأوروبي أعلن مساعدة بقيمة 50 مليون دولار لقوة مجموعة الخمسة، وهذه المساعدة من البلدان الـ28 للاتحاد الأوروبي دون ضمان بشأن تحريرها أم لا”.