ظل الجيش السوداني يدافع عن قواعده ومقارّه أمام هجمات قوات الدعم السريع منذ اندلاع النزاع بينهما قبل عام، دون التردد في الانسحاب حال تكثّفت الهجمات، مثلما حدث في مقرّ الاحتياطي المركزي وقاعدته في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور ومقراته في ولاية الجزيرة، لكن مؤخرًا انتقل من هذه المرحلة.
في الواقع، انتقل من مرحلة الدفاع إلى الهجوم بعد نسج شبكة علاقات قوية مع ميليشيات قديمة وأخرى جديدة، بحيث يجعلها تتقدم الصفوف الأمامية سواء في معارك تحرير مقر الإذاعة والتلفزيون بمدينة أم درمان، أو الهجوم على مصفاة الجيلي لتكرير النفط في الخرطوم بحري، أو في محاور استعادة السيطرة على ولاية الجزيرة.
الميليشيات في الخرطوم
قام لواء البراء بن مالك، وهو تنظيم يضمّ مقاتلين ينتمون إلى نظام الرئيس المعزول عمر البشير، بإعادة السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون في أم درمان ثالث مدن العاصمة الخرطوم إليه، حيث أُعيد السيطرة عليه في 12 مارس/ آذار الفائت بعد أن كان بيد قوات الدعم السريع منذ اندلاع النزاع.
ويحتمل أن إسراع قادة اللواء في نسبة الانتصار إليه، الغرض منه إعطاء مكافأة معنوية لعناصره الذين ظلوا يحاربون الدعم السريع بضراوة، خاصة في قاعدة سلاح المهندسين وأحياء مدينة أم درمان، وأيضًا لإرسال رسائل لقادة الجيش والقوى السياسية والاجتماعية بأن اللواء أصبح رقمًا لا يمكن تجاوزه.
نحن في لواء البراء نؤكد عملنا تحت مظلة القوات المسلحة وإمرتها وقد نذرنا أنفسنا للدفاع عن الشعب السوداني وقيمه وأرضه وعرضه، متوكلين على الله ومتسلحين بالإيمان ، يشد من عضدنا مجاهدات إخواننا وأرواح الذين صدقوا فسبقوا.. وكلنا ثقة ويقين بنصر الله.#القوات_المسلحة_السودانية… pic.twitter.com/UV8QhEDn43
— لواء البراء بن مالك (@lwa84948) April 8, 2024
تعتمد الميليشيات في استقطاب المقاتلين وعقيدتهم العسكرية التي يتلقونها في مراكز التدريب على الروافع القَبَلية، سواء حركات دارفور أو شرق السودان الجديدة والقديمة.
وقبل استرداد الإذاعة، طاف قائد اللواء، المصباح أبو زيد طلحة، في عدد من مناطق السودان لتنجيد الشباب، حيث أقام مركز تدريب في قاعدة المعاقيل بمدينة شندي التابعة لولاية النيل شمالي السودان.
وعلى غرار سابقة لواء البراء بن مالك، قدّمت القوة المشتركة للحركات المسلحة في 19 أبريل/ نيسان الجاري نفسها على الجيش، في انتصارات زعمت تحقيقها في مصفاة الجيلي بالخرطوم بحري، حيث قالت إنها فكّكت خطوط دفاع قوات الدعم السريع الأمامية، وتحاصرها في منطقة ضيقة جدًّا داخل المصفاة.
باستثناء مصطفى تمبور وعقار لماذا تحرص الحركات المسلحة على التمييز بينها وبين الجيش وتوجيه خطاباتها دون التنسيق معه وبعيدًا عنه؟!
— willz (@UGKwilly) April 21, 2024
وتضم القوة المشتركة حركة تحرير السودان بقيادة حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة برئاسة وزير المالية جبريل إبراهيم، إضافة إلى 3 فصائل انشقت من تجمع قوى تحرير السودان وحركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي، بعد إعلان القوة المشتركة المشاركة في القتال إلى جانب الجيش ضد الدعم السريع.
يمتلك عناصر الحركات خبرة قتالية في أسلوب حرب العصابات، القائم على خفّة الحركة والتحرك السريع وعدم التقيُّد بالخطط العسكرية، حيث الأمر متروك للقادة الميدانيين، وهو أسلوب قوات الدعم السريع ذاته، ما يجعل القتال بينهما شرسًا، لا سيما أنه مدفوع باستقطاب أهلي حادّ.
وإضافة إلى هؤلاء، هناك مقاتلون يتبعون لـ”غاضبون بلا حدود”، وهو تنظيم ثوري كان أفراده يتقدمون الاحتجاجات السلمية ضد الحكم العسكري قبل اندلاع الحرب، حيث أُثيرت ضده اتهامات بتكوين ميليشيا جديدة، لكنه نفى ذلك وقال إن أعضاءه يتواجدون في مختلف وحدات الجيش.
ويقول مساعد قائد الجيش، الجنرال ياسر العطا، إن هناك 12 كتيبة من المقاومة الشعبية المسلحة تقاتل قوات الدعم السريع في أم درمان من مختلف القوى السياسية.
إذًا، توجد 17 ميليشيا منظَّمة على الأقل تقاتل إلى جانب الجيش في العاصمة الخرطوم التي تتكون من 3 مدن، إضافة إلى المستنفرين الذين انضمّوا طوعًا للقتال وأفراد “غاضبون بلا حدود”.
الميليشيات في المناطق الأخرى
يحاول الجيش استعادة ولاية الجزيرة التي انسحب منها في أواخر العام السابق، بعد اشتباكات محدودة مع قوات الدعم السريع التي سيطرت عليها، حيث يحاصرها من 3 اتجاهات.
ويقع الاتجاه الأول في ولاية القضارف الذي تتقدم فيه قوات تابعة لحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وقوات حركة تحرير السودان برئاسة مصطفى طمبور؛ أما الاتجاه الثاني في ولاية سنار، وفيه يتقدم المستنفرون ولواء البراء بن مالك؛ فيما يتمثل الاتجاه الثالث في المناقل التي أصبحت عاصمة إدارية لولاية الجزيرة بدلًا عن ود مدني.
وتلقت القوات المتقدمة من محور القضارف هزيمة من قوات الدعم السريع، ما جعل خطة استعادة ولاية الجزيرة تتباطأ، وهذا ما دفع لجان مقاومة مدني إلى اتهام الجيش بتقديم المستنفرين ذوي الخبرة التي لا تتعدى الشهر من التدريب العسكري وأشتات الحركات، وقالت إن “الجيش يحارب الميليشيات بالميليشيات ويصنع المزيد منها وسرعان ما ينسحبون مسرعين”.
وتقاتل القوة المشتركة للحركات إلى جانب الجيش في ولاية شمال دارفور، لكنها مُنيت بهزيمة في مدينة مليط جعلت قوات الدعم السريع تحكم حصارها على الفاشر، عاصمة دارفور التاريخية التي تدور فيها معارك شرسة.
ويسود اعتقادٌ أن ميليشيا تابعة لقبيلة البرتي يُطلق عليها “قوات شوقارة” تتحالف مع الجيش، حيث استطاعت إلحاق هزيمة بالدعم السريع في منطقة أم كدادة بولاية شمال دارفور وطردته من المنطقة.
تشجيع وميليشيات أخرى خاملة
شارك مساعد قائد الجيش الفريق أول ياسر العطا، في 10 مارس/ آذار المنصرم، في حفل أقامته حركة العدل والمساواة في ولاية كسلا شرقي السودان بمناسبة تخريج 1500 مقاتل، وبعد 3 أسابيع من ذلك حضر مساعد قائد الجيش، الفريق أول شمس الدين كباشي، حفل تخريج مقاتلين جُدد لحركة تحرير السودان في ولاية القضارف.
تمتلك الميليشيات التي تقاتل لصالح الجيش حاليًّا قدرًا من الاستقلالية التنظيمية يمنحها فرصًا كبيرة لتجنيد مزيد من المقاتلين.
وإذا كان الجيش قد شجّع حركة تحرير السودان والعدل والمساواة على تجنيد مقاتلين جدد وتدريبهم في مناطق خاضعة لسيطرته، فإنه شجّع أو غضّ الطرف عن أعمال تجنيد تقوم بها جماعات مسلحة أخرى، من بينها حركة تحرير شرق السودان التي يتزعّمها إبراهيم عبد الله “دنيا”، حيث خرّجت دفعة أولى وأعلنت عن رغبتها تجنيد الدفعة الثانية عن طريق مكتبها في مدينة كسلا.
ودرّبت هذه الحركة الدفعة الأولى في معسكر تدريب على الحدود السودانية الإريترية، وهي الحدود ذاتها التي تُدرَّب فيها الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة بقيادة الأمين داؤود جناحها العسكري الذي سمّته قوات الأورطة، وفي كسلا بدأ محمد طاهر سليمان بيتاي في تأسيس ميليشيا جديدة بمسمّى الحركة الوطنية للعدالة والتنمية.
وينشط رئيس تجمع أحزاب وقوات شرق السودان، شيبة ضرار، في تعزيز الميليشيا التي يتزعّمها في مدينة بورتسودان، التي اتخذها الجيش مركزًا لإدارة شؤون البلاد بعد التدمير الواسع الذي لحق بالعاصمة الخرطوم جرّاء الحرب.
ولم تتخلف قوى سياسية إقليمية تنشط في شرق السودان عن ركب تأسيس الميليشيات، بإعادة تأسيس أجنحتها العسكرية في ظل سباق التسليح، حيث يقوم حزب الأسود الحرة الذي يرأسه مبروك مبارك سليم بتجنيد مقاتلين، والأمر ذاته يفعله مؤتمر البجا الذي يقوده موسى محمد أحمد، والحزبان تقاسما السلطة مع نظام البشير بعد توقيع تحالف في أكتوبر/ تشرين الأول 2006.
في المجمل، هناك 25 ميليشيا معلنة تقف في صف الجيش، سواء انخرطت في القتال فعليًّا أو تنتظر دورها لمحاربة قوات الدعم السريع، التي صنّفتها القوات المسلحة ميليشيا منذ اندلاع النزاع في 15 أبريل/ نيسان 2023.
وتعتمد الميليشيات في استقطاب المقاتلين وعقيدتهم العسكرية التي يتلقونها في مراكز التدريب على الروافع القَبَلية، سواء حركات دارفور أو شرق السودان الجديدة والقديمة، بينما يجنّد لواء البراء بن مالك عناصره على أساس أيديولوجي.
لماذا يعتمد الجيش على الميليشيات؟
لعلّ السؤال الملحّ هو كيف يشجّع الجيش تكاثر الميليشيات وزيادة مقاتليها لمحاربة قوات الدعم السريع، بدلًا عن أن يقوم بتنجيد جنود وتدريبهم؟
لا أحد يملك إجابة يقينة لهذا السؤال، لكن الجيش لجأ إلى الميليشيات بعد فشل التعبئة العامة التي أعلنها قائده عبد الفتاح البرهان في 27 يونيو/ حزيران 2023، والتي دعا فيها القادرين على حمل السلاح للانضمام إلى الوحدات العسكرية للدفاع عن بقاء الدولة.
ويتمثل السبب الثاني بالاستعانة بالميليشيات في رغبة الجيش الاحتفاظ بحياة جنوده وعتاده العسكري لأطول فترة ممكنة، في ظل عدم قدرته على تجنيد واسع النطاق، مقارنة بالجماعات التي تعتمد في حشد المقاتلين على روافع عرقية مثل الحركات المسلحة، أو دينية مثل كتيبة البراء بن مالك، أو على مخاوف وجودية مثل المقاومة الشعبية المسلحة.
أيضًا، يستطيع الجيش تحميل الجماعات المسلحة التي تقاتل لصالحه الانتهاكات التي تُرتكب في سياق النزاعات، بذريعة أنها قوات شبه عسكرية لا تملك معرفة بقواعد الاشتباك في المدن، ولا بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
وحقق الجيش، في حقب سابقة، نجاحًا في محاربة الجماعات المسلحة بالميليشيات، حيث استعان في فترة سابقة بقوات المراحيل وقوات الدفاع الشعبي لمحاربة الحركة الشعبية لتحرير السودان، قبل أن يوقّع معها النظام السابق اتفاق سلام مهّد لانفصال جنوب السودان، كما حارب حركات دارفور بميليشيات الجنجويد التي تطورت لاحقًا إلى قوات الدعم السريع.
ما العواقب؟
نجاح الميليشيات في إلحاق الهزيمة بالجماعات المسلحة في الحقب السابقة، يرجع إلى أن المعارك كانت تدور خارج المدن، لكن هذه الانتصارات تسبّبت في كوارث سياسية، منها انفصال جنوب السودان والاضطرابات الأمنية في إقليم دارفور وتأسيس قوات الدعم السريع.
تمتلك الميليشيات التي تقاتل لصالح الجيش حاليًّا قدرًا من الاستقلالية التنظيمية، يمنحها فرصاً كبيرة لتجنيد مزيد من المقاتلين، وإذا افترضنا نجاح ضغوط المجتمع المحلي والإقليمي والدولي في إلزام الجيش والدعم السريع على توقيع اتفاق سلام، ماذا عن وضع الميليشيات؟
لا شكّ أنها لن توافق على تسليم أسلحتها وتبدأ في عملية الدمج والتسريح وإعادة الاندماج، دون أن تتلقى حوافز كبيرة تتضمّن تقاسم السلطة والثروة، رغم أن تاريخ السودان يشير إلى أنه عادة لا تدمج الجماعات المسلحة في الجيش، مع أنه هناك اتفاقيات السلام تتضمّن بنودًا بالدمج.
إذًا، في حالة توقيع اتفاق سلام لإنهاء النزاع القائم، فإن تسليم الميليشيات لأسلحتها ودمج مقاتليها في الجيش يتطلب تدابير جديدة لا توجد ضمانات كافية لتنفيذها، لذلك ستظل موجودة وستعمل على تحقيق مطامعها بقوة السلاح.
ويرجّح أن يؤدي تزايد الميليشيات إلى إطالة أمد النزاع، خاصة في ظل الاستقطاب السياسي والأهلي، وهذا سيعزز نفوذها، وربما يدفع بعضها إلى وحدة اندماجية مع البعض الآخر.
والخوف الأكبر هو أن تحاول هذه الميليشيات أن تصبح مستقلة في قراراتها عن الجيش، وبالتالي البحث عن مصادر دخل سواء بالانخراط في أعمال النهب أو الاترزاق وربما تجارة المخدرات، قبل أن تصطدم بالجيش في فترة لاحقة حال تبادلت المصالح، مثلما هو الحال مع قوات الدعم السريع.
يعيش السودان الآن في ظل واقع يزداد تعقيدًا بمرور الأيام، حيث أن بقاءه في حال استمر النزاع لعام ثانٍ أو أقل قليلًا سيكون معجزة، فجميع المعطيات تنحو إلى أن قتال الجميع ضد الجميع بات قريبًا.