سيل من التصريحات والاتهامات المتبادلة فضح حجم التوتر الحاصل بين طرفي المصالحة الفلسطينية وكشف عن بروز مشكلات جديدة تذرعت بها حركة فتح للتنصل من الاستحقاقات المطلوبة منها وفق الاتفاق الموقع، وتوحي بحدوث تغير في توجه القيادة الفتحاوية وفي جدية تعاطيها مع ملفات المصالحة، تجاوبًا على ما يبدو مع المتغيرات الإقليمية الجارية ورضوخًا لإملاءات واشتراطات خارجية، خصوصًا بعد زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للرياض.
قرار مجلس الوزراء الفلسطيني القاضي بعودة جميع الموظفين المستنكفين إلى عملهم كان بمثابة الشرارة التي كادت أن تنال من المصالحة وتتسبب في انهيارها، في خطوة تسعى قيادة السلطة من خلالها إلى خلق واقع جديد في قطاع غزة.
سبق ذلك إعلان رامي الحمد الله رئيس حكومة الوفاق الوطني أنه من دون التمكين الفعلي الإداري والأمني لن يُكتب لحكومته النجاح بغزة، إضافة إلى اتهام عزام الأحمد لحركة حماس بوضع عراقيل أمام تمكين الحكومة وأنها حلت لجنتها الإدارية على الورق في حين أنها ما زالت تمارس مهامها على أرض الواقع، وتوصيفه لاحقًا قطاع غزة بالطائرة المخطوفة من حركة حماس.
ولم تتوقف التصريحات الفتحاوية عند هذا المستوى بل تعدت ذلك لتطال سلاح المقاومة الذي هاجمه حسين الشيخ، رافضًا أن يُصنف سلاح الفصائل على أنه خط أحمر أو أن يكون شأنًا تنظيميًا أو فصائليًا مقررًا أنه لن يكون إلا سلاح واحد وقانون واحد.
تتابعت التصريحات بشكل يبدو منه أنها تسير ضمن خطة ممنهجة ومدروسة وموزعة الأدوار، وأوجدت حالة من الإرباك في الساحة الفلسطينية مما استدعى تأجيل استئناف عملية تسليم حكومة التوافق مهامها إلى الـ10 من ديسمبر الحاليّ، ذلك في الوقت الذي يتطلع فيه المواطن الغزي إلى تحسن ظروفه الحياتية ورفع العقوبات التي فرضها الرئيس الفلسطيني محمود عباس على غزة ولا تحتاج إلا لقرار منه لتكون من الماضي، لكنه صرح بأنه “مش مستعجل” في رفعها.
ولم يقض مضجعه معاناة سكان القطاع ولم تدغدغ عاطفته خروجهم إلى الشوارع والميادين احتفالًا بتوقيع المصالحة ونفيرهم لاستقبال وفد السلطة القادم إلى غزة برئاسة رامي الحمد الله وحكومته بحفاوة وتقدير لافت للأنظار، فتحقيق المكاسب السياسية وهزيمة الخصم أكثر أهمية عند فريق رام الله من المواطن وما يعانيه من بؤس وشقاء.
تدرك فتح أن المصالحة طوق نجاة يخرج حركة حماس من أزماتها تلك ويخلصها من أعباء حكم غزة الذي أرهق كاهلها واستنفد قوتها وهذا يمنح حركة فتح فرصة لا يمكن تعويضها لابتزاز حركة حماس وإجبارها على تقديم تنازلات قد تطال برنامجها السياسي وسلاحها ومنهجها
ذلك على الرغم من قيام حركة حماس وبشهادة التنظيمات الفلسطينية المشاركة في اتفاق المصالحة بتقديم عدة خطوات مهمة في سبيل إنجاح المصالحة، فقد قامت بحل لجنتها الإدارية وسلمت المعابر والوزارات لحكومة الوفاق بسلاسة وأريحية، مؤكدة وفي أكثر من مناسبة بأنها ملتزمة بما تم الاتفاق عليه وجاهزة لتذليل العقبات وتقديم كل ما يساهم في إنجاز وتسريع المصالحة.
بات من الواضح أن قيادة حركة فتح تحاول التحكم في وتيرة المصالحة وتسعى إلى حرف مسارها والالتفاف على الالتزامات المستحقة عليها، وتتطلع في حقيقة الأمر إلى فرض مصالحة على هواها ووفق مقاييسها تكون لها السيادة المطلقة والكلمة العليا دون مشاركة من أحد أو منافسة من أي طرف.
فهي وعلى الرغم مما تعانيه من أزمات سياسية وفشل مشروعها التفاوضي مع الاحتلال، تملك أوراقًا قوية تفتقر لها حركة حماس التي بادرت إلى حل اللجنة الإدارية والتوجه إلى المصالحة وأبدت استعدادًا صريحًا لتقديم تنازلات صادمة وغير مسبوقة في التعاطي مع جميع الملفات المطروحة نتيجة لما يواجهها من تحديات وأزمات قاهرة ما زالت قائمة حتى اللحظة وتشكل عوامل ضغط على القيادة الحمساوية.
وتدرك فتح أن المصالحة طوق نجاة يخرج حركة حماس من أزماتها تلك ويخلصها من أعباء حكم غزة الذي أرهق كاهلها واستنفد قوتها وهذا يمنح فتح فرصة لا يمكن تعويضها لابتزاز حماس وإجبارها على تقديم تنازلات قد تطال برنامجها السياسي وسلاحها ومنهجها وثوابتها التنظيمية، فمشكلة المصالحة الحقيقية ليست في تمكين الحكومة أو تسليم المعابر أو صلاحيات الوزراء.
السلطة الفلسطينية تسعى إلى طي حماس تحت جناحها وتدجينها وثنيها عن مبادئها وحرفها عن مسار المقاومة، ولا يوجد طرف مهما بلغ من القوة والتأثير عربيًا وإقليميًا أو حتى عالميًا يمكنه تجاوز هذا الأمر لأنه ببساطة يتوافق وينسجم مع الرؤية الإسرائيلية والأمريكية، فاللغز المراد لغزة فهمه هو الانصياع التام والمطلق للإرادة الإسرائيلية والتسليم للتنسيق الأمني والردة عن المقاومة والتبرؤ منها والتقيد بالاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي وعلى رأسها أوسلو.
ولن تتطوع حركة فتح لإنقاذ حركة حماس ومد يد النجاة لها بالمجان ولو تعنتت حركة حماس وتمنعت عن مجاراة الرغبة الفتحاوية لن تتورع الأخيرة عن دفع غريمها الحمساوي للغرق وتضييق الخناق عليه أكثر فأكثر، فالميدان السياسي تحركه المصالح والمكتسبات الحزبية ولا تحكمه الأخلاق والمشاعر الوطنية.
أكثر ما يجب على حماس وفصائل المقاومة تجنبه في هذه المرحلة هو التصعيد مع الجانب الإسرائيلي والدخول في مواجهة عسكرية معه خصوصًا أن إرهاصات الحرب قوية
في ظل هذا الوضع المتأزم والآخذ في التأزم أكثر قد تكون الخيارات الأخرى المطروحة على الطاولة الحمساوية غير مجدية وليست مضمونة النتائج وتمثل قفزات غير محسوبة في وضع إقليمي ودولي ضبابي وغامض، فخيار التوجه لدحلان لا يبدو خيارًا جيدًا ولا يجانبه الصواب لأن دحلان رجل أمريكا في الشرق وشريك استراتيجي للإمارات والسعودية التي تناصب حركة حماس العداء وتتهمها بالإرهاب وتحرض عليها المجتمع الدولي وبالتالي سيتحرك دحلان وفق رؤية شركائه وأحلافه ولن يستطيع أن يمنح حركة حماس ما عجز عنه عباس.
فيما يشكل إعادة حركة حماس سيطرتها على المعابر والمؤسسات الحكومية خطأ استراتيجي باهظ الثمن لأن ذلك يمنح رام الله فرصة ذهبية للتشهير بها ووصفها كمن انقلب على الشرعية مرة أخرى وتجييش الرأي العالمي عليها وشحن الناس ضدها وتجريمها عبر الوسائل الإعلامية والقنوات الدبلوماسية، مما يبرر فرض إجراءات عقابية شديدة على غزة تصل في نهايتها بحماس إلى الانهيار الذاتي ولن ترحمها حينها السكاكين المتربصة.
وأكثر ما يجب على حركة حماس وفصائل المقاومة تجنبه في هذه المرحلة هو التصعيد مع الجانب الإسرائيلي والدخول في مواجهة عسكرية معه خصوصًا أن إرهاصات الحرب قوية وتهديدات قادة العدو الموجهة لغزة وتحركاته على الحدود البرية والبحرية والوجود المكثف لطائرات الاستطلاع في سماء غزة ليست عابرة أو غير مقصودة، والواضح أن أي مواجهة قادمة ستكون طاحنة ولن تتورع “إسرائيل” عن ارتكاب مجازر بشعة بحق سكان القطاع وبغطاء دولي بل وربما بدعم ومشاركة من بعض الدول العربية.
في حين أن الضغط على الجبهة الداخلية الإسرائيلية من خلال العمل الفدائي وتفعيل ساحة الضفة كما شهدنا في هبة القدس يؤثر بشكل كبير على القرار السياسي الإسرائيلي وقد يجبر “إسرائيل” على رفع الفيتو وإعطاء الضوء الأخضر للسلطة بالتساهل في إجراءات المصالحة مع حماس، ولكن ذلك يبدو شبه مستحيل وتحيط به صعوبات جمة نتيجة للتنسيق الأمني والقبضة الأمنية المحكمة لأجهزة السلطة هناك.
وعليه يبدو أنه ليس أمام حماس إلا أن تستمر في المصالحة لأجل الخروج من أزماتها ولتجنيب قطاع غزة الوقوع في مزيدٍ من الويلات والعقوبات، إذ إن الخيارات البديلة غير مضمونة النتائج ولا يمكن الاتكاء عليها، ويتوجب على حركة حماس وبمشاركة الفصائل الفلسطينية إيجاد طرق للتأثير على اللاعبين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية لإشعارهم بالخطر الكامن من وراء تعطيل المصالحة، مع الاستمرار في البحث عن بصيص أمل في مؤسسات المجتمع الدولي يمكن أن يصل بالمصالحة إلى بر الأمان.
وضرورة حشد اصطفاف جماهيري وشعبي واسع لتفادي الابتزاز الفتحاوي وللضغط على عباس لإنقاذ المصالحة، ويتوجب في ذات الوقت قيام الطرف المصري الراعي الأساسي للمصالحة بما يجب عليه القيام به من أجل إلزام السلطة الفلسطينية بالإيفاء بما عليها من التزامات.