ترجمة حفصة جودة
الدخان رائحة المجاعة، عند عبور “حزام الموز” من أوغندا (حزام الموز يُطلق على المناطق الأكثر دفئًا عن بقية المناطق حولها) إلى جنوب السودان في التسعينيات من القرن الماضي، كنت أرى الصبيان يشعلون النيران في الغصون لشيّ الجراد الذي لم يستطيعوا الإمساك به، أو ضرب القوارض الهاربة من جحورها أو هدم عشش الطيور المبنية على الأرض، ربما أيضًا كانوا يقومون بغلي أوراق الشجر في صفيحة من القصدير من أجل الغذاء، أو تسلق الأشجار وتناول براعم النباتات في الأعلى.
كنت أشعر بالحيرة والارتباك، فقد كانوا يضعون المصفاة في وجه التيار للقبض بأصابعهم على سمك المنوة أو الضفادع، كانوا هزيلين من أعلى رأسهم وحتى أخمص قدمهم، كانوا مجرد جلد على عظم، يبدو الجوع وكأنه ابتلاع عصا تنغرس في المعدة أو الإصابة بصداع نصفي، لقد رأيت على الطريق أحد الأولاد يجري ناحية أمه وهو يقبض بيديه على حبة ذرة واحدة التقطها من الطريق، لكن كل ذلك لم يكن ليقضي على الجوع.
والآن بعد 20 عامًا من زيارتي تلك، ما زالت ذكريات تلك المعاناة التي رأيتها تصيبني بالحزن، خاصة لأن الجوع أطل برأسه مرة أخرى في جنوب السودان والصومال واليمن وشمال نيجيريا، مهددًا نحو 20 مليون شخص حسب تقديرات الأمم المتحدة.
المجاعة تعمل على انتشار الجوع مثل سحابة تنشر ظلها بأكبر مما هو متوقع
عندما ذهبت إلى شرق إفريقيا للكتابة عن المجاعة، تذكرت قصة الأربع أو خمس نساء من قبيلة “أشولي” الموجودة في جنوب السودان الآن، حيث هجمت عليهن التماسيح في النيل عندما كن يتفقدن مصيدة الأسماك الخاصة بهم ومحاولتهم خوض المياه بصعوبة نتيجة جذور النباتات النيلية، كانت هؤلاء النساء يحاولن اصطياد سمك الفرخ النهري الذي قد يصل وزن ما تجمعه شبكة الصيد إلى 45 كيلوغرامًا، وهو ما يعني وليمة لعائلاتهم وأمر يستحق المخاطرة.
لا يبدو الأمر وكأن الـ”أشولي” لم يزرعوا أرض أجدادهم، لكنهم طُردوا منها قبل الحصاد وقُبض عليهم في الحرب بين الحكومة السودانية وجيش التحرير الشعبي السوداني، والآن بعد أن أصبحوا في المنطقة المعادية، أصبح كل تركيزهم موجه إلى حماية أنفسهم من الهجوم.
في أحد مخيمات مجموعات المساعدة، شاهدت اثنين من المغتربين يلعبون الشطرنج في الطين بينما يجلس الشباب الجائعون بانتظار انتهاء عمال الإغاثة من طهي كيس من الذرة في برميل سعته 247 لترًا، يحصل كل فرد على كوب في اليوم رغم أنه لا يوجد تدافع على الطعام حتى الآن، وعلى طول الطريق نجح اللاجئون في الحفاظ بيأس على ما تبقى من طاقتهم، لكنهم حافظوا على انضباطهم أيضًا عند حصولهم على الطعام.
كانت رقعة الشطرنج هذه ممتعة، واستغرق الأمر بعض الوقت لإطعام جميع الناس، ووزعنا بعض البسكويت لكنه كان قليلاً للغاية (كنت أتناول أنا وعمال الإغاثة سرًا مسحوق البيض مرتين في اليوم)، لم يعد هذا البرميل كبيرًا الآن فقد أوشك على النفاد، فهذه المجاعة تعمل على انتشار الجوع مثل سحابة تنشر ظلها بأكبر مما هو متوقع، وعلى طول طريق الغابات الذي أمشي فيه كنت أشاهد قبور الأطفال وعلى قمة كل قبر منهم هناك قطعة من ملابس الطفل أو لعبة مكسورة.
هناك مئات الآلاف من المدنيين لم يصلهم أي طعام منذ 3 أشهر
في نيروبي انتشر الجوع أيضًا، لكن كان هناك كنيسة تحتوي على غرفة لتخزين المؤن وكان هناك بعض السياح حيث يستطيع الناس التسول منهم، التقيت هناك في فندق نيو ستانلي ببعض المتطوعين من أوكسفام يمرحون في عطلة نهاية الأسبوع، ويكتبون المذكرات لأصدقائهم على لحاء أشجار الشوك العملاقة في فناء الفندق.
كنت أرغب في الكتابة عن الصومال أيضًا حيث يموت الأطفال بصورة جماعية، لكن مدير مجموعة الإغاثة كان رافضًا للفكرة، فالطيران إلى هناك يعني التضحية بـ90 كيلوغرامًا من الطعام لأجل شركة “سيسنا” (شركة طيران أمريكية) وبذلك سيموت المزيد من الأطفال.
كانت هناك مجاعة في السودان أيضًا – كما أخبرني المدير – وقال إنهم سيرسلوا 58 شاحنة محملة بالذرة في اليوم التالي، فهناك مئات الآلاف من المدنيين لم يصلهم أي طعام منذ 3 أشهر، ثم قال: “انتظر أمام باب الفندق في الثامنة صباح غد، فسوف تذهب إلى هناك”.
من نيروبي إلى كامبالا كانت السلاحف تعبر الطريق بينما تحوم الضباع بالقرب من بعض الأولاد الذي يسوقون قطيعًا من الماشية للاستفادة من لبنهم على الغداء، كنا نرافق قافلة الذرة التي أرسلتها جمعية خيرية كاثوليكية من ولاية “أيوا”، وعند الحدود السودانية سألني الحارس بلهجة ساخرة: “هل أنت مبشرّ”، وكأنه سيسمح بمروري فقط إذا كنت كذلك، ثم توسّل إليّ من أجل الحصول على رشوة وسمح لأبناء أخوته بالتسول من سائقي الشاحنات.
كانت جماعات الإغاثة تقوم بإطعام جانبي القتال في الحرب الأهلية
بينما كنت أشعر بالرعب من مشاهد المجاعة، كنت بصحبة أحد المراقبين الذي بدا غير مهتم تمامًا بقضية الجوع، لكن تركيزه كان منصبًا على سؤال الجنود عن تسليحهم، وعندما كنا نبيت معًا في غرفة واحدة كنت استمتع بمشاهدة جوازات السفر المختلفة الموجودة في حقيبة ظهره – ألمانية وفرنسية وسويسرية وبلجيكية – حتى إنني سألته مازحًا إذا كان عميلاً إسرائيليًا أو أمريكيًا أو ربما من رجال المخابرات، فقد سمعت من قبل أن أمريكا كانت تُسلّح المتمردين.
كانت جماعات الإغاثة تقوم بإطعام جانبي القتال في الحرب الأهلية، حيث كان اللوثريون يهربون الطعام إلى القوات الحكومية المُحاصرة في جوبا بينما يقوم الكاثوليكيون بتموين المتمردين الذي يحاصرون قوات الحكومة، وفي فندق نيو ستانلي كان اللوثريون والكاثوليكيون يتحدثون بكل أسف عن مساعدتهم في تقوية هذا الصراع الحزين، لكن الناس سيجوعون أيضًا إذا توقفوا عن إطعام المقاتلين، فباستطاعتنا أن نرفض إطعام القوات المقاتلة، لكن في الليل ييقومون بالإغارة على المدنيين ونهب طعامهم، الطعام يغذي الحرب.
ومن جينجا في أوغندا إلى أم درمان في السودان حيث يلتقي النيل الأبيض بالأزرق، بدأت أشعر بأن هذا النهر السحري والمأساوي في الوقت نفسه، كله لي، لم أستطع أن أتخلص من هذا الشعور رغم عودتي للمنزل، الجوع أمر قاسٍ ومرعب، فلا يمكنك أن تأكل الجبال والقرى الجميلة، إذا لم يكن هناك ما تتناوله فلن تجد ما تتناوله بالفعل، هنا يحفر الناس بحثًا عن جذور النباتات ولن يتوقفوا عن ذلك حتى ينتهي الأمر باحتراق كل شيء.
المصدر: نيويورك تايمز