في لقاء تلفزيوني له في 17 أبريل/نيسان الجاري أعاد اللواء المصري المتقاعد والخبير العسكري سمير فرج، الحديث مجددًا عن مسألة إدارة مصر لقطاع غزة لفترة مؤقتة، لافتًا إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي رفض مقترحًا قدمه رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA” ويليام بيرنز خلال زيارته الأخيرة للقاهرة حول إدارة الجانب المصري للقطاع 6 أشهر تمهيدًا لإجراء انتخابات وتشكيل حكومة تكنوقراط لتولي المسؤولية.
واعتبر الخبير العسكري، والذي كان أحد قادة السيسي سابقًا بالجيش المصري، أن رفض الرئيس لهذا المقترح “من أحسن القرارات التي أخذها، وحقيقي ربنا ألهمه في ذلك القرار، وكان قرار حكيم، رغم الإغراءات المالية والعسكرية وحاجات أخرى، إلا أن الرئيس رفض، وقال إن غزة يديرها أهلها”.
ويأتي التباحث حول عملية إدارة القطاع ضمن سياق مناقشة مسألة “غزة بعد الحرب” وهو السياق الذي أحدث جدلًا كبيرًا على المستويات كافة وداخل مختلف الأوساط، الإسرائيلية والأمريكية والعربية، ليبقى السؤال: لماذا رفضت القاهرة إدارة غزة ولو لفترة مؤقتة؟ وما هي مقارباتها إزاء تلك المسألة؟
ضغوط وإغراءات.. ليس المقترح الأول
لم يكن تقديم هذا المقترح خلال زيارة بيرنز الأخيرة للقاهرة في السابع من الشهر الجاري هو الأول من نوعه، فسبق وأن قدمته إدارة بايدن بعد شهر واحد فقط من عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في دلالة واضحة على إصرار واشنطن على أن تنخرط مصر في إدارة القطاع وترتيبات ما بعد الحرب.
ففي 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ذكرت وسائل إعلام أمريكية أن نقاشًا مطولًا شهده لقاء السيسي ومدير وكالة المخابرات الأمريكية الذي كان يزور القاهرة في ذلك الوقت، تضمن رؤية الولايات المتحدة لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، والتي كان من بينها إدارة مصر للقطاع لمدة 6 أشهر على الأقل، وتشكيل قوات متعددة الجنسيات لحماية الأمن داخل غزة.
ونقلت تلك الوسائل عن مسؤولين مصريين وأمريكيين قولهم إن الجانب المصري أبلغ نظيره الأمريكي رفضه لتلك المقترحات، بما فيها إدارة مصر للقطاع وإدخال قوات أجنبية أو من دول حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والتأكيد على أن تكون إدارة غزة فلسطينية في المقام الأول.
وفي 6 فبراير/شباط 2024 أكد الخبير العسكري المقرب من السيسي، سمير فرج، خلال تصريحات تلفزيونية لبرنامج «صالة التحرير» المقدم على قناة “صدى البلد” المملوكة لرجل الاعمال والبرلماني المقرب من السلطة، محمد أبو العينين، أن الرئيس المصري رفض المقترح الأمريكي بشأن إدارة قطاع غزة حتى موعد تسليم الفلسطينيين إدارة شؤون القطاع.
وأضاف “عُرض على مصر مبالغ كبيرة جدًا ومعدات عسكرية تكفي جيشًا ميدانيًا يسيطر على غزة، ولكن الرئيس السيسي رفض بشكل قاطع ورد (غزة ستكون للفلسطينيين والسلطة الفلسطينية)”، لافتًا إلى أن الجانب المصري أكد لنظيره الإسرائيلي أن السلطة الفلسطينية هي التي ستدير القطاع بعد الحرب.
يبدو أن هناك رغبة أمريكية إسرائيلية في أن تكون مصر شريكًا أساسيًا في إدارة قطاع غزة بعد الحرب وأن تكون ركيزة محورية في السلطة البديلة المؤقتة بعد القضاء على حماس كما طالب عدد من جنرالات الكيان المحتل الذين حثوا على استغلال الحالة الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها الدولة المصرية وتقديم المغريات المادية لها للموافقة على هذا العرض، حسبما جاء على لسان الجنرال الإسرائيلي موشيه إلعاد في مقال نشرته صحيفة “معاريف” العبرية الذي قال إنه “من غير المستبعد أن تكون حوافز بمئات الملايين من الدولارات كفيلة بدفع مصر إلى أن تتبنى تحدي غزة، وتؤتمن عليها إلى حين تسليمها للسلطة الفلسطينية المحسنة”.
وأمام تلك الرغبة الواضحة من تل أبيب وواشنطن، كان الرفض المصري القاطع إزاء هذا المقترح هو لغة الخطاب الوحيدة – حتى الآن – والتأكيد على أن يكون الحكم في غزة بأيدي الفلسطينيين، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول الموقف المصري ودوافع التمسك برفض إدارة القطاع رغم كل المغريات المقدمة.
التوريط في فخ غزة.. قلق مصري
يأتي الرفض المصري لهذا المقترح انطلاقًا من خشية التورط في فخ غزة، وهو الفخ الذي قد يحول القاهرة من حليف للقضية الفلسطينية، حتى لو كان حليفًا خاملًا أو متخاذلًا بعض الشيء، إلى طرف أساسي في المعركة وذلك من خلال محورين أساسيين:
الأول: أن مشاركة مصر في إدارة القطاع قد يجعلها خصمًا مباشرًا للمقاومة الفلسطينية، لا سيما إذا حاولت ممارسة أعمالها ونشاطها الذي تستهدف به الداخل الإسرائيلي، وهنا قد يجد المصريون أنفسهم في مواجهة الفلسطينيين، نيابة عن الاحتلال، وهو ما تنأى مصر بنفسها عنه في الوقت الحالي.
الثاني: في حال استهداف المقاومة للداخل الإسرائيلي في ظل إدارة مصرية للقطاع، فإن القوات المصرية قد تجد نفسها فجأة في مرمى الاستهداف الإسرائيلي، بزعم مباركة مصرية لتلك العمليات، وهي الاتهامات ذاتها التي رددها الإعلام العبري بداية الحرب، حين أشار إلى تسهيل مصر إدخال الأسلحة للمقاومة عبر معبر رفح، رغم النفي الرسمي المصري.
وهنا قد تتحول القاهرة إلى خصم مباشر للاحتلال، ما يعني انخراط الدولة المصرية في الأزمة كطرف وليس كوسيط، ما قد يترتب عليه إشعال للمنطقة بأسرها وتغيرًا كاملًا وجذريًا في قواعد اشتباك الصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما لا تريده القاهرة لما له من تبعات.
حماية الأمن القومي.. المقاربة المصرية الأهم
تنطلق مصر في موقفها الرسمي إزاء القضية الفلسطينية بصفة عامة والحرب في غزة على وجه الخصوص من حزمة من المقاربات التي تراعي في المقام الأول حماية الأمن القومي المصري وتبريد بؤر التوتر على الشريط الحدودي مع الجانب الفلسطيني، وهي المقاربة التي تهيمن على الخطاب الرسمي المصري منذ بداية الحرب، وتفسر حالة الخذلان الواضحة إزاء دعم المقاومة والانخراط أكثر في المشهد الغزي.
ومن ثم فإن توتير الأجواء على الحدود مع غزة ليس في صالح الدولة المصرية في المجمل، كما أن تخييم الاستقرار على الأجواء هناك مسألة أمنية في المقام الأول، وهو ما يفسر تجاهل السلطات المصرية للاستفزازات الإسرائيلية والتحرش بين الحين والآخر بالحدود المصرية وإحداث إصابات محققة لا ينكرها الجانب الإسرائيلي الذي يكتفي بالاعتذار مبررًا ذلك بوقوعها على سبيل الخطأ رغم تكرارها أكثر من مرة.
وعليه ترى السلطات المصرية أن إدارتها لقطاع غزة سيشعل الأجواء أكثر من تهدئتها، إذ إن تلك الخطوة إذا ما وافقت عليها القاهرة ستعزز بطبيعة الحال من وضعية الانقسام الفلسطيني الفلسطيني، وتعمق عزلة القطاع عن عمقه الفلسطيني، وهو ما سيضر حتمًا بالقضية الفلسطينية ويزيد من البون الشاسع بين غزة ورام الله، ما يصب في صالح الاحتلال الذي لن يتوانى عن توظيف هذا المشهد لخدمة أجندته الاستعمارية التوسعية.
هذا بخلاف أن بقاء القطاع كبؤرة ثابتة ومركزية لمقاومة الاحتلال، يصب في خدمة الأمن القومي المصري ويزيد من عمقه داخل الجانب الفلسطيني، مقارنة بالوضع إذا ما تم القضاء على المقاومة بما يسمح لقوات الاحتلال بفرض السيطرة والهيمنة والتواجد الرسمي على الحدود مع مصر، وهو ما كشفت عنه صحيفة “وول ستريت جورنال” التي نقلت عن السيسي قوله إن “مصر لن تلعب دورًا في القضاء على حماس؛ لأنها تحتاج إلى الجماعة المسلحة للمساعدة في الحفاظ على الأمن على الحدود”.
الرأي العام ودروس التاريخ
الرأي العام وردة فعل الشارع المصري لا شك أنها أحد المقاربات التي تضعها الدولة المصرية في حساباتها إزاء الموقف الرسمي من الحرب في غزة ومسألة إدارة القطاع، فالانخراط في هذا المستنقع بما له من تبعات واحتمالات قد يشيطن النظام شعبيًا ويحوله إلى شريك ضالع في تصفية القضية الفلسطينية برمتها.
كما أن الماضي ودروس التاريخ ليست في صالح مصر إزاء هذا الملف، فسبق وأن خضع القطاع للإدارة المصرية عقب حرب 1948 وظل لسنوات طويلة تحت إدارتها بفرضية الأمر الواقع حينها، لكنها تجربة لم تكن جيدة للمصريين، حيث تحولت القوات المصرية المتمركزة هناك إلى خصم مباشر للاحتلال الذي استهدفها بزعم ملاحقة المخربين على حد قوله، هذا بخلاف تغير قواعد اللعبة عما كانت عليه بداية الاحتلال وما آلت إليه اليوم.
في ضوء ما سبق، ترى مصر – رغم علاقتها المتوترة مع حماس وفصائل المقاومة – أن إدارة قطاع غزة لا بد أن تكون فلسطينية فلسطينية، دون أي تدخلات أجنبية إلا في أضيق الحدود، وأن مشاركتها في مرحلة ما بعد الحرب، لا تعدو كونها شريكًا وليس كسلطة مطلقة تحملها أعباء ومسؤوليات ليست على استعداد لها في الوقت الحالي.