على مدى أسبوع، تكون مدينة تيشيت التاريخية عاصمة للمدن القديمة في موريتانيا، لاحتضانها الدورة الـ7 للمهرجان الخاص بهذه المدن الذي تسعى من خلاله السلطات الموريتانية لإعادة الاعتبار للمدن التاريخية في البلاد والحيلولة دون طمس آثارها ودخولها لائحة النسيان، باعتبارها الشاهد على عراقة موريتانيا وأصالتها العربية والإسلامية.
الدورة الـ7 للمهرجان
تحت شعار “مدننا التاريخية مُصانة من الاندثار”، انطلقت الجمعة الماضية، النسخة الـ7 من “مهرجان المدن القديمة” الذي تنظمه الحكومة الموريتانية، في مدينة تيشيت الآثرية التي أسسها الشريف عبد المؤمن سنة 536 هجريًا.
ويشكل هذا المهرجان، حسب القائمين عليه، فرصة ثمينة لانتشال مدن موريتانيا التاريخية – باعتبارها تشكل تراثًا عالميًا – من طيات النسيان والإهمال الذي عانت منه لعقود طويلة، فضلًا عن إبراز جوانب حياة مجتمع الشناقطة قديمًا.
تعتبر مدينة “تيشيت” أثرى المدن الموريتانية القديمة بنفائس المخطوطات بحكم توسطها طريق قوافل التجارة
وتتجه الأنظار خلال هذه الأيام، إلى مدينة “تيشيت” التاريخية شمال شرق موريتانيا، حيث المهرجان الذي يمثل فرصة للتعريف بالمدينة وبما تحتويه من كنوز تشكل متحفًا حيًا يحكي قصة ملحمة سطرها مجتمع الشناقطة خلال القرون الماضية تعكسها شواهد الآثار الحية في مختلف المجالات المعرفية التي تشكل مكتبات شنقيط الزاخرة بثقافة موسوعية عالمة تشي بما وصلت إليه المدن التاريخية الموريتانية من تطور وازدهار خلال القرون الـ7 الماضية.
وإضافة إلى “تيشيت”، هناك ثلاث مدن تاريخية أخرى يتم تداول تنظيم “مهرجان المدن القديمة” بينهم كل سنة منذ 2011، هي شنقيط ووادان وولاته، وقد شكلت هذه المدن على مر العصور، منارة للإشعاع الثقافي والفكري والديني ما بين شمال المغرب وغرب إفريقيا، وكانت طريقًا تجاريًا تمرُّ به القوافل المحملة بالذهب والتجارة والرقيق.
كما شكَّلت معقلًا للحركة العلمية بصحراء غرب إفريقيا، وتعتبر مدينة “تيشيت” أثرى المدن الموريتانية القديمة بنفائس المخطوطات بحكم توسطها طريق قوافل التجارة القادمة من الجنوب الشرقي والمحملة بخيرات القارة الإفريقية وقوافل التجارة القادمة من شمال إفريقيا، واحتضانها العديد من العلماء والأدباء عبر العصور.
يجسّد المهرجان تفاصيل عيش الشناقطة قديمًا
وفي كلمة افتتح بها هذا المهرجان، قال الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز: “إطلاق مهرجان المدن القديمة من مدينة تيشيت التي ظلت مصدر إشعاع حضاري ومنارة علمية سامقة والمعبرة في عمرانها وثقافتها عن أصالتنا، يجعل هذه المدينة العريقة عاصمة للثقافة الوطنية لهذا العام ومصدر إلهام للعبقرية الموريتانية”.
وأضاف “هذه المدن، مثلت عبر التاريخ، مناطق جذب للعلماء والطلاب ومراكز إشعاع للعلوم الإسلامية والمعارف الإنسانية التي حملها علماؤنا الأجلاء جنوب الصحراء وشمالها وعرف سكانها على مر العصور بالتمسك بتعاليم ديننا الحنيف، دين الوسطية والاعتدال”.
تسليط الضوء على المدن القديمة
يشكل المهرجان الذي تشرف على تنظيمه وزارة الثقافة والصناعة التقليدية، فرصة لتسليط الضوء على المدن القديمة، ودفع عجلة السياحة الداخلية في الجهة الشرقية من موريتانيا التي سادها الكساد منذ سنوات طويلة، حيث سيساعد تنظيم المهرجان على جذب السياح الأجانب والزوار المحليين لحضور فعالياته والاستمتاع بقضاء عطلة الشتاء في رحاب الصحراء والواحات، وزيارة بعض المكتبات الشهيرة والأماكن التاريخية في المدن العتيقة لمعرفة تاريخها وما تزخر به من كتب ومجلدات قديمة.
شكلت السهرات الفنية التراثية في “مهرجان المدن القديمة”، فرصة لإبراز الجوانب التراثية التقليدية للمجتمع الموريتاني
كما من شأن هذا المهرجان أن يعيد للمدن التاريخية في البلاد مكانتها التي تستحق بوصفها مركز إشعاع علمي وثقافي، ارتبط اسمها بجملة من المعاني، حيث شهدت منذ القرن الـ10 الهجري نهضة ثقافية شاملة، رغم أن أهلها لم يهتموا بتدوين حركتهم العلمية وتوثيق أحداثها والتاريخ لها.
وتشمل نشاطات هذا المهرجان فى مدينة تيشيت العبقة بأريج الأصالة والعراقة، سباقات للفروسية والإبل والرماية، ومسابقات في تلاوة القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة، والشعر، بالإضافة إلى محاضرات وأفلام وثائقية عن تاريخ ودور المدن القديمة ومعارض للمخطوطات، ومباريات فنية ثقافية ورياضات تقليدية كان المجتمع الموريتاني يوليها اهتمامًا كبيرًا وبدأت تختفي مع مرور الزمن.
وشكلت السهرات الفنية التراثية في “مهرجان المدن القديمة”، فرصة لإبراز الجوانب التراثية التقليدية للمجتمع الموريتاني من خلال الرقصات الشعبية الفلكلورية والمسابقات التراثية وأنماط الصناعات التقليدية التي تعكس الخصوصية التاريخية والتراثية والحضارية لهذه المدن وصمودها في وجه عوادي الزمن.
مدن المكتبات
تضم مدينة تيشيت إلى جانب المدن الثلاثة الأخرى: وادان وشنقيط وولاته، العديد من المكتبات التي تزخر بآلاف الكتب المقدسة والمخطوطات النادرة التي يعود أقدمها إلى أكثر من ألف عام فوق رفوف خشبية عتيقة ظلت صامدة صمود علم علمائها، حتى سميت هذه المدن بـ”مدن المكتبات”، وتغطي المخطوطات التي كتب قسم كبير منها على جلود الغزلان وأحيطت بغلاف من جلد الماعز، فترة زمنية تمتد من القرنين الثالث إلى الرابع عشر هجريًا.
إحدى المكتبات القديمة
تشمل هذه المكتبات كتب في شتى المصنفات من علوم نقلية وعقلية كالنحو والصرف والبلاغة والطب والفلك وغيرها من العلوم التي أنتجتها الحضارة العربية والإسلامية في أوج ازدهارها خلال العصر الوسيط، لتؤكّد أن اهتمام علماء موريتانيا لم يكن مقصورًا على العلوم الشرعية واللغوية والإنسانية فحسب، وإنما تجاوز ذلك إلى علوم الفلك وعلم الأنواء والحساب والهندسة والطب والبيطرة وغيرها من علوم الطبيعة.
وتحتوي مكتبات هذه المدن على أغلب المخطوطات التي أحصاها مشروع صيانة وتثمين التراث الثقافي الموريتاني الذي يموله البنك الدولي، وسبق أن أعلن هذا المشروع جرد أكثر من 30 ألف مخطوطة موزعة على 675 مكتبة منتشرة في 289 موقعًا في 91 بلدية موريتانية من ضمن 48 مقاطعة، تواجه أغلبها الكثير من المخاطر، خاصة أنها موجودة في بيوت من الطين على وشك السقوط والرمال تحاصرها.