من مجرد ضابط صف لم يحصل إلا على قسط متواضع من التعليم، استطاع في السادسة والثلاثين من عمره أن يُصبح رئيسًا لليمن الشمالي، ثم في 1990 رئيسًا لليمن بشطريه، ليمضي 33 عامًا في الحكم بين التحالفات والانقلابات.
إنه الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح أو “الراقص على رؤوس الثعابين” كما تهوى الصحافة العربية وصفه منذ كان في السلطة، بينما وصفه المسؤولون الأمريكيون يومًا أنه شخص “غريب ونكدي”، في حين اختارت مجلة ذا أتلانتيك مؤخرًا وصفًا أكثر حداثة وسينمائية حين أطلقت عليه لقب “فرانك أندروود” الشرق الأوسط، نسبة لبطل المسلسل السياسي الأمريكي الشهير “هاوس أوف كاردز”، في إشارة لطرقه “الخبيثة والملتوية” لتعزيز سلطته عبر التلاعب بخصومه وحلفائه على حد سواء.
وفي رقصة جديدة يغير صالح جلده على أرض عاصمة اليمن صنعاء، وما يجري فيها عبارة عن حرب بين حليفي الأمس: حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يرأسه صالح، ومليشيا الحوثي، وإن كانت طريقته في الرقص هذه المرة تواجه امتحانًا حاسمًا الآن، فهل هي رقصة صالح الأخيرة على رؤوس الأفاعي؟
بالنظر إلى سيرته الذاتية، فإنها ليست سوى مسلسل من التحالفات ثم الانقلاب على تلك التحالفات، فقد تحالف مع الجنوبيين وحاربهم، وحارب الحوثيين وتحالف معهم، وكذلك الحال مع السعودية التي تحالف معها وتلقى العلاج في مستشفياتها ثم حاربها.
ولم تكن الاشتباكات بين الحليفين (صالح والحوثي) التي بدأت أواخر الشهر الماضي مفاجئة للجميع، فـ”تحالف الضرورة” كان يحكم طبيعة العلاقة بين الجانبين، لكن هذه الضرورة يبدو أنها بدأت تغير جلدها خصوصًا في الساعات الماضية.
بات على صالح كمن ينوب عن التحالف العربي – المفترض أنه في حرب معه منذ عامين – الذي وصف مغامرة صالح بـ”الانتقاضة المباركة”
ومنذ أيام كانوا حلفاءً واليوم هم ألد الأعداء على الأرض اليمنيمة، فالأخير الذي فاجأ الجميع بالدعوة إلى “فتح صفحة جديدة” مع التحالف الذي تقوده السعودية التي وصفها في السابق بالعدو التاريخي للشعب اليمني يخرج ليتهم الحوثيين بارتكاب أعمال عدوانية وترهيب المدنيين بصنعاء.
هذه المرة أرادها على عبد الله صالح انتفاضة شاملة ضد الحوثيين وإذ بها معركة “كسر عظام” حتمية بين طرفي شراكة هشة يمكن أن تنهي أحدهما إذا لم يجرِ احتواء الخلاف، لكن سريعًا ما أيقن صالح ضعف موقفه، فقد فُك زمام المبادرة من معسكره، وقُبض على كبار أنصاره والموالين له، وسقطت في أيدي الحوثيين منشآت ومقار كانت في قبضة القوات التابعة لحزب المؤتمر الشعبي، بل وحتى منازل تابعة لصالح وأقربائه.
وللمفارقة، بات على صالح كمن ينوب عن التحالف العربي – المفترض أنه في حرب معه منذ عامين – الذي وصف مغامرة صالح بـ”الانتقاضة المباركة”، ويبدو أن الحلف الذي يبحث عن مخرج مشرف من اليمن مُصِر على جعل المواجهة في صنعاء جزءًا من معركة أكبر ضد إيران وحلفائها في اليمن.
لكن رهان الرئيس المخلوع ممن راهن عليهم اليوم خاب كما يبدو، فقد أراد فتح صفحة جديدة مع دول الجوار، وإذ بأوراقه جميعها تقريبًا تحترق، وكما يطلب طوق النجاة، يريد صالح من إيران وحزب الله أن يدخلا على خط الوساطة لترميم العلاقة مع الحوثيين، ويبدو أن طهران لا تمانع الإسهام في مسعى يحقق ذلك، وتقول إن الحل في اليمن ممكن فقط عن طريق الحل السياسي الشامل، ولا يفوتها أن تسجل بأن ما تصفها بلعبة الرياض الجديدة في اليمن محكوم عليها بالفشل.
“صالح”.. سيد الموقف المتبدلة
على مدار حكم اليمن قبل أن يضطر لترك السلطة في 2012 بعد حراك شعبي، خاض صالح ست جولات من الصراع ضد الحوثيين من 2004 إلى 2009، أسفرت أولها عن مقتل حسين بدر الدين الحوثي في المعارك بين الطرفين، ولم يكن مستغربًا أن يعود صالح للتحالف معهم عقب الإطاحة به من السلطة طالما وجد أن ذلك التحالف يمكن أن يخدم مصالحه، وليس من المستغرب أيضًا الحديث اليوم عن انفراط عقد هذا التحالف القائم منذ ثلاث سنوات، إذا رأى صالح أن تفكيكه يمكن أن يخدم مصالحه.
ومنذ عام 2014 دخل الرئيس المخلوع في تحالف مع الحوثيين، بعدما انقلبوا على هادي، وشكلوا معًا حكومة موازية في صنعاء رغم اختلافهم على تقاسم السلطة منذ أشهر، غير أن معسكر صالح شن حملة على الحوثيين بعدما دعا عبد الملك الحوثي في آذار/مارس الماضي إلى محاربة من وصفهم بـ”الطابور الخامس” وهو ما فسره مراقبون بأنه إشارة إلى أنصار صالح، الأمر الذي أجج التوتر بين الجانبين بعد أن اتهم صالح الحوثيين بالسعي إلى احتكار السلطة ونعته الحوثيون بالغدر لاشتباههم بأنه يجري اتصالات مع السعودية.
واستمرت جولات الصراع تباعًا، كال فيها صالح للحوثيين الكثير من الهجوم، واتهمهم بالتحالف مع حزب الله وإيران والسعي لإعادة نظام الإمامة، فيما كان معارضو صالح يقولون إنه يتخذ تلك الحروب وسيلة للهروب من واقع الفوضى والفساد الذي انتشر في البلاد واستشرى في مفاصل الدولة.
يؤكد ذلك أن ليس للمخلوع صالح حلفاء دائمين ولا أعداء دائمين أيضًا، فقد أثبت خلال العقود الماضية أنه قادر على تغيير جلده ببراعة، فنجح في الحصول على دعم السعوديين من أجل مواجهة خصومه الاشتراكيين في الثمانينيات، قبل أن ينقلب على الرياض منحازًا للرئيس العراقي صدام حسين إبان غزو العراق للكويت، قبل أن يعود للتحالف معها في حروبه ضد الحوثيين.
من خلال دفع السعوديين للدخول في الحرب، نجح صالح في ضرب عدة عصافير بحجر واحد، فمن ناحية استعاد علاقته مع الرياض، ونجح في ابتزازها للحصول على قدر كبير من المساعدات المالية، ومن ناحية أخرى عمد لاستغلال الحرب للتخلص من جميع القادة والمكونات المناهضة لمشروعه لتوريث الحكم
وقام بالتحالف مع “التجمع اليمني للإصلاح”، قبل أن ينقلب عليهم في نهاية المطاف، واحتضن الحوثيين وسمح لهم بالعمل السياسي ثم شن حربًا ضدهم لم يثنه عنها التوافق المذهبي، حيث يتشارك مع الحوثيين اعتناق المذهب الزيدي، قبل أن يعود ويقدم بعض الدعم لهم إبانها ضد جيشه ذاته، كما تحالف مع أبناء عمومته من قبائل حاشد لتعزيز سلطته، ثم عاد وحاول التخلص منهم عبر التهميش أو حتى عبر الاغتيال.
ويبدو أن سيولة حالة التحالف والعداء سواء في الحرب أو السلم، والمصنوعة على عين ثقافة صالح السياسية، قد صبغت السياسة اليمنية بأكملها، وكيف لا وقد ظل الشخصية السياسية الأكثر تأثيرًا في اليمن منذ تسميته أول رئيس لها كدولة موحدة عام 1990، وحتى اليوم بعد خلعه من السلطة.
عطفًا على تناقضات صالح وتعاطيه مع الحوثيين، لا يمكن إغفال الحديث عن تقلباته تجاه السعودية، فقد وصف صالح السعودية مؤخرًا بأنها “خائنة” بعد أن وقفت مع “إسرائيل” ضد جمال عبد الناصر، والآن أصبحت بالنسبة له “دولة شقيقة”، إلى جانب الوعود والمغريات التي تلقاها من الإمارات خاصة.
ومن خلال دفع السعوديين للدخول في الحرب، نجح صالح في ضرب عدة عصافير بحجر واحد، فمن ناحية استعاد علاقته مع الرياض، ونجح في ابتزازها للحصول على قدر كبير من المساعدات المالية، ومن ناحية أخرى عمد لاستغلال الحرب للتخلص من جميع القادة والمكونات المناهضة لمشروعه لتوريث الحكم.
وفي مايو/أيار 2017 أعاد صالح إطلاق دعوته للحوار مع السعوديين قائلاً: “سنحاور أصحاب الشأن، المملكة العربية السعودية” في الرياض أو منطقة خميس مشيط الحدودية أو حتى في مسقط، فيما أبدت المملكة ارتياحها لابتعاد صالح عن الحوثيين المدعومين من إيران، وهو ما ألمح إليه ولي العهد السعودي بقوله: “صالح تحت سيطرة وحراسة الحوثيين، وإذا خرج من صنعاء إلى منطقة أخرى فسيكون موقفه مختلفًا”.
اللافت أن الرياض ترقص مع صالح على نفس النغمة، فدعوة صالح لدول الجوار بفتح صفحة جديدة، قابلها التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات ببيان داعم لتحركات صالح ضد الحوثيين رحب فيه بعودة صالح إلى الحضن العربي، الأمر الذي أثار الاستغراب من أن يتحول العدو الذي أمطر المدن السعودية بالصواريخ الباليستة إلى حليف.
وفي مشهد يقرأ فيه مراقبون محاولة من السعودية وتحالف حربها في اليمن، لإعادة تأهيل صالح لإنقاذها من ورطتها، بعد أن أسهمت الرياض مرتين في إنقاذ حياته، أبرزهما عندما تعرض لحروق شديدة إثر محاولة اغتيال في يونيو/حزيران 2011، وفي اليوم التالي أعلنت السعودية أن صالح قبل عرضها لتلقي العلاج فيها من إصاباته، لكنه عاد إلى بلاده بعد إتمام العلاج.
وبعد تدخل قوات التحالف بقيادة السعودية لدعم حكومة هادي، اتهمها صالح بنشر “الكوليرا” في اليمن عبر استخدامها أسلحة محرمة دوليًا، وقال: “التحالف ينشر وباء الكوليرا في اليمن من خلال استخدام أسلحة مدمرة كالقنابل العنقودية والفراغية شديدة الانفجار، والتي تترك أثرًا كبيرًا على سكان اليمن”.
نسيت مملكة ابن سلمان أن الرئيس اليمني المخلوع لم يعد يكفيه مجرد التحالف السياسي والعسكري مع جماعة الحوثي فقرر في إطلالة له ارتداء العباءة الإيرانية تمامًا
ورغم ذلك، وحين توسعت الاشتباكات مؤخرًا بين الحليفين السابقين (صالح والحوثي)، حظي صالح وقواته بما يشبه “رعاية” إعلامية في تغطية ما باتت تسميه وسائل الإعلام السعودية والإماراتية “بالانتفاضة” على “مليشيات الحوثي الإيرانية”.
ونسيت مملكة ابن سلمان أن الرئيس اليمني المخلوع لم يعد يكفيه مجرد التحالف السياسي والعسكري مع جماعة الحوثي فقرر في إطلالة له ارتداء العباءة الإيرانية تمامًا، وكمن يجهد لإثبات الولاء خلط صالح السياسي بالمذهبي مشيدًا بطهران والقوى الموالية لها لا سيما حزب الله في لبنان، وراح يتماهى في خطابه أكثر فأكثر مع إيران فيتحدث عن أدوارها البناءة في المنطقة وهو بذلك لا يطلب ودها فحسب وإنما يتصدى لخصومها أيضًا.
وفي هذا الإطار، يذكر المحلل السياسي اليمني خالد الآنسي أن صالح خدع العالم وحلفاءه السعوديين طويلاً، بعد أن استثمر في دعمهم له بخوض حروب ضد الحوثيين، انتهت بتحالفه مع الحوثيين ضدها وضد تحالفها الساعي إلى تخليص اليمن منه ومن الحوثيين، على حد سواء.
وبعد كل سنوات الخداع هذه، يعيد الرئيس المخلوع تقديم نفسه بشكل درامي، ليستخدمهم مجددًا في حلقة جديدة يعيد فيها تقديم نفسه بطلاً محاربًا ومدافعًا عن الإقليم واليمن.
بندقية صالح تنتقل من كتف لآخر
وسط الاتهامات المتبادلة بين صالح والحوثي، يرى مراقبون أن الحرب بين الطرفين تمثل فصلاً جديدًا في التراجيديا اليمنية، فأسباب عدم ثقة الحوثيين بصالح لا تنحصر في ماضيه فقط، بل لها علاقة بتحالفاته “المتناقضة” حاليًّا مع دول التحالف العربي، حيث يقيم نجل صالح حاليًا في الإمارات يصول ويجول، ويُنظر إليه على أنه “استثمار” إماراتي في مستقبل السياسة في اليمن، وتتكاثر في تلك الآونة التسريبات عن خطط محتملة تُرتّب بين الرياض وأبو ظبي، تتلاقى أغلبها في تأكيد منح دور محوري لنجل صالح في مستقبل اليمن، فيما يوصف بـ”إعادة تأهيل حزب المؤتمر الشعبي”.
وإلى جانب أن الإمارات ترى في حزب الإصلاح اليمني المحسوب على الإخوان المسلمين عدوًا لا يقل ضراوة عن الحوثيين، فإنها تسعى دومًا إلى التفريق بين صالح والحوثي، ولا تضع الجماعتين في سلة واحدة، بل إنها أثنت مؤخرًا على خطاب لعلي عبد الله صالح، ووصفته بأنه “يمثل فرصة لكسر الجمود السياسي في اليمن الذي كرسه تعنت الحوثي”.
وسط التحالفات والانقسامات يبقى اليمن وأهله وخصوصًا الأطفال أكبر خاسر في بلد كان يطمح إلى الديمقراطية عندما خرج شبابه في مظاهرات ضد حكم صالح عام 2011، واليوم أصبح مهددًا بعدم البقاء ككتلة واحدة
ووسط هذا المشهد المتحول في اليمن، فإن مراقبين يرون أن السعودية انصاعت للوصفة الإماراتية لإعادة تأهيل صالح للوصول لنتيجة تضع بأي ثمن نهاية لحرب كلفتها مئات المليارات من الدولارات، ونالت من سمعتها الدولية، بعد أن باتت مادة لتقارير الأمم المتحدة، في حين انتهت أبو ظبي من ترتيب أمور نفوذها في الجنوب والغرب.
من ناحية أخرى، كان عبد الله صالح خيارًا رئاسيًا أمريكيًا، وظل حليف القوات الأمريكية في مطاردة القاعدة، بعد أن استنفد استثمارها ضد الشطر الجنوبي في اليمن، فهو الذي تنامى عدد المدارس الدينية في عهده فبلغ الألف، ومن فسحات هذه المعاهد تخرج ستمئة ألف تلميذ، هذا هو الرئيس “التقدمي” الذي تحالف مع “ورثة نظام الإمامة” من الحوثيين، بعد أن قتل سابقًا زعيمهم حسين الحوثي.
وأمام هذه الحيل ردّت الرياض وواشنطن وحلفاء آخرون بزيادة الدعم المالي لتعزيز حكم صالح، الذي يملك إلى جانب عزيمته القوية كثيرًا من الكاريزما، ولم يعدم في أوقات كثيرة شعبية بين أبناء مجتمع يفهم جيدًا تفاصيله.
وفي انتظار نتيجة مغامرة إعادة تأهيل صالح، لا يبدو أن اليمنيين يأملون سوى نهاية حرب زادت من بؤس السنوات العجاف التي عاشوها تحت حكم رئيس ثاروا عليه، ليعود لهم من جديد، بعد أن أعادته السعودية بداية ثورتهم بوجه جديد غير الذي أحرقته محاولة الاغتيال الفاشلة.
ووسط التحالفات والانقسامات يبقى اليمن وأهله وخصوصًا الأطفال أكبر خاسر في بلد كان يطمح إلى الديمقراطية عندما خرج شبابه في مظاهرات ضد حكم صالح عام 2011، واليوم أصبح مهددًا بعدم البقاء ككتلة واحدة.