لطالما كانت القدس محل أطماع القوى المحتلة منذ نشأتها، فهي المدينة المقدسة المسيلة للعاب الحثيين والإغريق والفرس والرومان والبيزنطيين إلى أن كتب الله لها العودة إلى حمى الإسلام بعد أن انطلقت رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحرير المسجد المقدس الثاني في الوجود في ليلة الأمن والأمل، ليلة استلام الإمامة من الأنبياء أجمع، ليلة الإسراء والمعراج وتحققت على الأرض يوم أن دخل المسلمون بيت الله المقدس.
مرت الحياة الاجتماعية والثقافية والعقدية بعصرها الذهبي الراقي في ظل واحة الإسلام الظليلة إلى أن تناثرت قوى الخلافة العباسية إلى دويلات متقاتلة متناحرة غرست ضعفًا سياسيًا خطيرًا تزاوج بالجمود الفكري فأنتج قابلية للاستعمار استثمر فيها الصليبيون!
جودفري الأول هو الملك الأول الذي جعل من القدس غداة السيطرة الهمجية للقوات الصليبية، عاصمة لمملكة الصليبيين، مانعًا على نفسه لسبب عقدي مصطلح بروتوكولي يشير إلى مكانة السيطرة الدنيوية “الملك”.
النزعة العقدية الدينية المغروسة في الوجدان البروتستانتي لقداسة القدس، وضرورة التمكين لليهود لبناء معبدهم الثالث المعجل بخروج المسيح
اختار جودفري لنفسه مقامًا عقديًا دينيًا سمى به شخصه “حامي القبر المقدس”، قبر المسيح الذي فدى به البشر فوق صخرة الجمجمة “الغلغوثا” التي يعتقد كل النصارى أنها المرحلة 12 من آخر طريق المسيح “طريق الآلام” مرحلة الصلب والفداء.
هذه النزعة العقدية الدينية المغروسة في الوجدان البروتستانتي لقداسة القدس، وضرورة التمكين لليهود لبناء معبدهم الثالث المعجل بخروج المسيح في آخر الزمان للحكم في العصر الألفي السعيد من عاصمته الأبدية في القدس هي الدافع والمبرر الأخلاقي الدائم لهم للتدخل في القدس.
تعود كلمة العاصمة في مرات عديدة منذ عهد جودفري الذي كان له من الشجاعة العسكرية أن فرض القدس عاصمة لمملكة الصليبين في الشام لتتكرر علينا في عصرنا المعاصر بعودة هذا الرجل اليميني المتطرف وتمكن جناحه جناح المحافظين الجدد التابعين للكنيسة الإنجيلية المتصهينة من مقاليد الحكم في “نيو إسرائيل” كما كانت تسميها الوفود البريطانية الأولى المتهافتة على العالم الجديد.
ترامب يريد أن يكون جودفري آخر، بإصراره اللامتناهي على نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس ليس لعيون “إسرائيل”، بل لتحقيق المعتقد الديني بوجوب عودة اليهود لمعبدهم تحضيرًا للخلاص الدنيوي الأبدي.
لم يكن أبدًا مشروع نقل السفارة الأمريكية للقدس وليد اليوم ولا حتى حديث الساعة بل كان حقيقة العهد القديم الذي يؤمن به كل رؤساء أمريكا السابقين، لكن لم يتجرأ السابقون على القيام بهذه الخطوة الخطيرة على المستوى السياسي في المنطقة والعالم أجمع، لكن ترامب، المخلص الجديد، حسب رؤيتهم، عله يكون له من الجرأة ما سيدفع به للقيام بمشروعه العقدي الديني.
سيناريوهات نقل السفارة الأمريكية متعددة لخصها الباحثون تلخيصًا معروفًا، حتى زمن التنفيذ ليس محددًا بقدر ما هو وعد واجب التنفيذ في لحظة مجهولة من عهد ترامب الرئيس الـ45 للولايات الأمريكية.
تحقق لجودفري مبتغاه في الأمد القريب بجعل القدس عاصمة المملكة التي تعاقبت عائلته على حكمها بداية من أخيه بلدوين الأول، إلى آخر ملوك الصليبين الطفل ذو العامين بلدوين الخامس!
التاريخ يحدثنا عن اتخاذ جودفري لبيت المقدس عاصمة لملكه وعن شرارة الثورة التجديدية الإصلاحية التي أطلقها العلامة المجدد أبو حامد الغزالي التي أخرجت جيلاً من العلماء والسياسيين والقادة الأفذاذ الربانيين رسموا تاريخًا مستقبليًا جديدًا للمنطقة
في ظرف إسلامي مشابه للظروف التي تحقق فيها هدف جودفري، هل يتحقق على يد ترامب أيضًا؟ لا أملك جوابًا واضحًا عن سؤال مفخخ مثل هذا بقدر ما أنا على يقين بأن التاريخ سيعيد دوراته الحضارية.
التاريخ يحدثنا عن اتخاذ جودفري لبيت المقدس عاصمة لملكه وعن شرارة الثورة التجديدية الإصلاحية التي أطلقها العلامة المجدد أبو حامد الغزالي التي أخرجت جيلاً من العلماء والسياسيين والقادة الأفذاذ الربانيين رسموا تاريخًا مستقبليًا جديدًا للمنطقة.
فهل ستكون خطوة ترامب الخطيرة في الظاهر محركة للجموع الإسلامية لتحرير بيت المقدس، فتكون بذلك عملية نقل السفارة بداية لمعلم كرونولوجي جديد ستكون فيه الغلبة لأصحاب الحق الراسخ؟!
دع الأيام تفعل ما تشاء، فالوقت جزء من العلاج، لكن لا تنتظر الهدية لاستعادة حقك الأخلاقي من نفس المرتكز العقائدي الذي لا ينكره الصهاينة في عملهم التهويدي أو المتصهينين من عقيدتهم الإنجليكانية!