“يُلقي “فِكري” الضوء بإقناع على مظهر غير متداول من مظاهر الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية؛ استغلال وانتهاك لحقوق الفلسطينيين الذين يجهدون بيأس في البحث عن عمل، بحيث يقبلون مهنًا مذلة ذات أجور زهيدة في المستوطنات الإسرائيلية”.
هذا ما قاله ريتشارد فولك، المقرر الخاص السابق في لجنة الأمم المتحدة بشأن الحقوق الفلسطينية، حول كتاب “تشغيل العدو: قصة العمال الفلسطينيين في المستوطنات الإسرائيلية“، وهو كتاب صدر بالإنجليزية عام 2017 في 160 صفحة من القطع المتوسط، عن دار “زيد بوكس” البريطانية للنشر، للصحفي الاسكتلندي ماثيو فكري.
وفكري هو صحفي وكاتب اسكتلندي يبحث في قضايا النزاع وحقوق الإنسان وحقوق العمال في أنحاء الشرق الأوسط، مع تركيز خاص على “إسرائيل” والمناطق الفلسطينية المحتلة، وقد تُرجم الكتاب إلى العربية عام 2021 عن دار منشورات المتوسط/ ميلانو، بواسطة المترجم يزن الحاج.
أجساد رخيصة وفائضة وغير شرعية
مشهد سينمائي ربما لا يقف عنده الكثير من المشاهدين، ضمن قصة الفيلم المصري “ولاد العم” الصادر عام 2009، حين خرج الضابط المصري كريم عبد العزيز في مهمة مخابراتية إلى تل أبيب، وكان انتقاله ودخوله إلى الأراضي المحتلة كأنه عامل مياومي أو فواعلي ضمن المئات مثله، وهم محمّلون في عربة نقل للذهاب إلى إحدى مستوطنات الضفة الغربية للبناء والعمل فيها، لكن هذا المشهد القصير العابر هو حياة يومية طويلة وشاقة لعشرات الآلاف من العمّال الفلسطينيين في مستوطنات الاحتلال.
تتعامل “إسرائيل” مع العمالة الفلسطينية، التي أنتجتها وشجّعت على إنتاجها للعمل في مستوطنات الضفة الغربية، على أنها عمال لا حقوق لهم منصوص عليها في قوانين العمل الإسرائيلية، بل كأنهم أجساد رخيصة منبوذة تعمل بأجور زهيدة، وساعات عمل غير محددة، وفي ظل أوضاع قاسية وبائسة، وأجساد فائضة يمكن استبدالها بكل سهولة، نظرًا إلى أن هناك الآلاف ينتظرون فرصة الحصول على العمل، وحتى أجساد غير شرعية تسلّلت للعمل بقوانين غير واضحة عبر وسطاء العمل، بلا أي ضمان اجتماعي أو صحي.
هذا ما يتعمق فيه الصحفي الاسكتلندي ماثيو فكري في كتابه “تشغيل العدو”، حيث قسم ماثيو الكتاب إلى قسمَين، القسم الأول، ويحمل عنوان تشغيل “العدو”، يحوي 5 فصول:
- تشغيل “العدو”
- السمسار وقوة تصريح العمل
- قاصرون وأجر مجحف، العمال الأطفال في الغور
- أقصى درجات إذلال الاحتلال
- معذبو الأرض المقدسة.
أما القسم الثاني بعنوان: استغلال “العدو، وضمت فصوله:
- التمييز في سوق العمل، خنق الاقتصاد
- إنشاء مناطق لفرص عمل ممكنة
- جيش احتياطي من العمال
- عمل قسري تحفّزه الدولة.
حاول فكري من خلال هذه الفصول، وعبر المقابلات الهامة التي أجراها مع من لديهم تجربة العمالة في المستوطنات الإسرائيلية، سرد قصصهم وآرائهم عبر زوايا مختلفة، إنسانية وقانونية وحقوقية اقتصادية واجتماعية وسياسية.
إذ ركّز في القسم الأول على العمّال وأنواع العمل وظروفه البائسة وأجوره الذهيدة، كما طُرُق انتقالهم سواء بتصريح من السلطة أو من خلال التهريب عبر وسطاء، كما استغلال القصّر والأطفال في العمل، وكيف تكون ظروف هذا العمل، وكل هذا في تبيان واضح لمدى الإذلال والاستباحة اللتين يتعرضان لهما أطفال وشباب ورجال قرى الضفة الغربية، في عملهم بمستوطنات الاحتلال الإسرائيلي.
أما القسم الثاني فركّز على فسلفة إدارة “إسرائيل” لهذه العمالة، من خلال تأسيس شبكة عمالة كبيرة مستباحة ذليلة مهدور حقها، مطرودة ومستبدلة في أي وقت، حسب مزاج وسيط العمل، كما مسؤولي إدارة العمل في تلك المستوطنات، وحاجات الإنتاج وغير ذلك، ما يجعل العامل الفلسطيني دائمًا راضيًا بظروف العمل، بل باحثًا عنها، رغم كل ممارسات الإذلال والاستباحة التي يتعرض لها، أو حتى كما يقول أحد العمال: “قد يطردونك لمجرد أنهم قرروا أنهم لا يحبونك، أنهم لا يحبون وجهك”.
كيف تنقص أجساد المقاومين؟
كما جرت العادة لدى أنظمة الاحتلال والاستبداد، إنها تسعى للقضاء على أي مقاومة لنزع سيطرتها عن الحكم، من خلال القمع بشكل مباشر عبر القتل والسجن والإخفاء والترهيب، أو حتى بشكل غير مباشر من خلال الترغيب بإدخال فئة من فئات الشعب تحت وصاية منافع ومزايا هذا النظام، وهي كثيرة، مثل الوظائف المريحة وغير ذلك من خدمات تقدمها الدولة، ومعها منظومة النيوليبرالية التي تغري الناس بالاستهلاك وتغنيهم عن المقاومة.
مقابل هذا العيش، يتغافل الإنسان المستعمَر عن السير نحو سبل مقاومة هذا النظام المحتل، بما أن هذه المقاومة ستفقده هذه الميزات، كما ستعرّض حياته نفسها لخطر الإزالة أو السجن.
في ما يخص تشغيل عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين، بطريقة شرعية وغير شرعية، في المستوطنات الإسرائيلية، فهذه العملية هي أيضًا تعدّ انتقاصًا لمفهوم المقاومة لدى هؤلاء العمال، إذ تستخدم “إسرائيل” هذه الأجساد في السخرة والإنهاك، وتربط مصير لقمة عيشهم واستمرار حياتهم بعملهم البائس لدى مستوطناتها.
فبدلًا من انفجار هؤلاء العمال في وجه الاحتلال، أو حتى السلطة الفلسطينية المنسِّقة معه، تستقطبهم “إسرائيل” للعمل بدلًا من سلك طرق أخرى للحصول على كرامتهم وعيشهم العادل.
هذا الانفجار سيأتي بسبب شدة الظروف المعيشية الإفقارية التي يتعرضون لها من قبل السلطتَين، وسيكون شكله عبر الاحتجاج المباشر على ظروف العيش تحت سلطة الاحتلال، أو حتى من خلال السعي للانضمام إلى مجموعات مقاومة لإنهاء هذا الاحتلال أو حتى إنهاء السلطة الفلسطينية المنسِّقة معه، وبهذا تحاول سلطة المحتل إبطال أو توقيف هذا الانفجار، عبر توفير عمل شديد المأساوية، لكن لا مفرّ ولا بديل عنه.
بمجرد انخراط عشرات الآلاف من العمال في ظروف العمل السيّئة، يوضعون تحت ضغط التنافس فيما بينهم فيما يخصّ من يحصل على هذا العمل، بل يقبل كل ممارسات الإذلال بحقه، حتى لا يُطرد منه ويُستبدل بغيره من آلاف المنتظرين خارج المنظومة.
وكما يقول فكري: “يدرك أصحاب العمل في المستوطنات تمام الإدراك مشكلات فرص العمل والوضع الاقتصادي الذي يواجهه الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، ما يسمح لهم (أصحاب العمل) باستغلال العمال بسهولة بالغة، بل الأدهى من هذا أن يكون لديهم مخزون من العمال المنتظرين المتأهّبين دومًا للعمل، رغم هذه الاستغلال”.
فلا ينتاب المستوطن صاحب العمل أو المسؤول الإسرائيلي أو الوسيط الفلسطيني أي قلق حيال أي عملية طرد للعمال، وعلى أقل الأسباب تفاهة يهددون ويعاقبون ويطردون، لأنه كما يفسّر ماثيو: “في ظل وجود عدد كبير من العمال المتوفرين، مع امتلاكهم خبرة أم لا، سيكون بإمكان أصحاب العمل طرد العمال لمجرد هفوات بسيطة، وهذا ما يقومون به فعلًا”.
مكملًا: “فالتأخُّر ولو لمرة واحدة، حتى لو لم يكن بسبب خطأ من العامل (كأن يتأخر بسبب طول إجراءات التفتيش مثلًا)، أو طلب زيادة أجر، أو معارضة صاحب العمل، أو امتلاكه فردًا من العائلة قُتل على يد جنود إسرائيليين، أو محاولة تنظيم زملائه وتشكيل نقابة، كل هذه الأمور قد تفضي إلى طرده من العمل”.
بمجرد هذا الانخراط تحت هذه المنظومة المستبدة، يصعب بعد ذلك التفكير في ممارسة أي عمل مقاوم لهذا الاحتلال، فمن ضمن شروط العمل أن يكون الفلسطيني خاليًا من أي شبهة أمنية، وهنا الشبهة الأمنية بمفهوم الاحتلال تعني ليس لديه تاريخ من المقاومة، ولا يفكر بالمقاومة في حاضره، ولا ينتمي إلى أي دوائر لها علاقة بمقاومة المحتل.
لذلك التفكير في المقاومة من قبل هؤلاء العمال، فضلًا على أنه يعرّضهم للقتل المباشر أو السجن في أوهن الظروف، يعرّضهم لعدم توفر أي فرصة عمل لهم، وبالتالي يستمرون في عيشهم المعدم.
هكذا تصنع دولة الاحتلال سجنًا آخر، بشكل آخر، للفلسطينيين ضمن منظومة عمل مستبدة تستبيح أجسادهم، وتنتج من خلال هذه الاستباحة وممارساتها خضوعًا ذاتيًّا يترسّخ داخل كينونة العامل الفلسطيني الذي يهدم بيته، أو تُبنى مستوطنة على أرضه وأرض شعبه المسروقة غصبًا من الاحتلال، مبتعدًا، رغمًا عن إرادته، عن مقاومة المحتل بسبب سياسات الإفقار والتجهيل والإذلال التي تمارَس عليه بالقوة.