بدأت موسكو استعادة أنشطتها وتحركاتها العسكرية في سوريا بعدما تراجع دورها العسكري الفاعل في الملف السوري، جراء الغزو الروسي لأوكرانيا منذ مطلع عام 2022 لتدخل في دوامة الصراع والعداء مع الدول الأوروبية.
وتسعى موسكو مجددًا إلى ترسيخ وجودها العسكري في سوريا بهدف حماية مصالحها ونفوذها واستثماراتها الاقتصادية في البلاد، عبر ملء الفراغ الذي أحدثه غياب مجموعة فاغنر الروسية عقب مقتل زعيمها يفغيني بريغوجين، التي كانت تؤدي دورًا مهمًّا لإدارة المصالح الروسية في سوريا.
تأسيس شركة أمنية روسية في سوريا
في هذا الإطار، صادقت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة نظام الأسد على تأسيس فرع لشركة أمنية روسية في سوريا، بهدف تقديم خدمات حراسة أمنية للمنشآت وحقول النفط في سوريا، حسب وثيقة نشرها موقع “سيريا ريبورت” الاقتصادي في 18 أبريل/ نيسان الجاري.
وأظهرت الوثيقة موافقة وزارة الاقتصاد والتجارة على تسجيل افتتاح شركة أجنبية تحمل اسم “اربوست – إم” الخاصة، ومحدودة المسؤولية للشخص الواحد، واسمها الأجنبي RPOST – M، حيث افتتحت فرعًا لها في دمشق.
وتتخذ الشركة من منطقة دمشق الجديدة جزيرة 16 شارع الفيلات بناء 116 مقرًّا لها منذ 28 يناير/ كانون الثاني الماضي، أي بعد 10 أيام من تقديم طلب الترخيص، فيما يبلغ رأسمال الشركة نحو 500 ألف روبل روسي (ما يعادل 5 آلاف و350 دولارًا أمريكيًّا تقريبًا)، وتساوي قرابة 75 مليون ليرة سورية.
وتأسست شركة (RPOST-M LLC) في العاصمة الروسية موسكو في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتهتم في تجارة قطع السيارات والتخزين حسب سجلّ الأعمال الروسي “كومبانيوم“، ويملكها غريخوف مكسيم يوريفيتش.
وحول هوية مؤسسة الشركة، كشفت مجموعة All Eyes On Wagner المتخصصة في متابعة أنشطة مجموعة فاغنر الروسية، في 19 أبريل/ نيسان الجاري، معلومات حصرية عن مؤسّس الشركة الأمنية الروسية في سوريا، بأنه ضابط كان يعمل لصالح المخابرات الروسية في الصين.
وقالت المجموعة على حسابها في موقع إكس: “نحن نؤكد بثقة تامة أن مكسيم غريخوف ضابط في المخابرات الروسية (GRU) وعمل في هونغ كونغ تحت غطاء في شركة “إيروفلوت”، وأضافت أنه يعمل مسؤولًا عن شركة Erpost-M LLC، وهي شركة شحن روسية تقدم خدمات في سوريا.
و”إيروفلوت” هي شركة طيران كانت الأكثر أهمية لدى المخابرات الخارجية الروسية، حيث تتخذ عددًا كبيرًا من المكاتب التمثيلية في الخارج، ويترأّسها ضباط محترفون في المخابرات الروسية حسب تحقيق أجراه موقع “ذا إنسايدر” الروسي.
وأكد التحقيق أن غريخوف كان ضابطًا سريًّا يترأّس مكتب شركة الطيران “إيروفلوت” في هونغ كونغ، ويتلقى راتبه من المخابرات العسكرية الروسية، بينما تدفع شركة الطيران تكاليف المكاتب ونفقات السكن والسفر، لكن بعد الحرب الروسية على أوكرانيا عاد رفقة ضباط آخرين إلى موسكو.
“اربوست – إم”.. شركة أجنبية تخالف القانون
تتركّز أنشطة شركة “اربوست – إم” في روسيا في تجارة البضائع وتجارة قطع غيار السيارات والتخزين، وهو ما يختلف كثيرًا عن عملها في سوريا الذي تمحور حول تقديم الخدمات الأمنية في الحماية والحراسة والدفاع عن المنشآت، بما فيها حقول النفط.
وبناءً على قانون ترخيص عمل شركات الحماية والحراسة الخاصة، الذي أصدره رأس نظام الأسد رقم 22 لعام 2023، والذي جاء تعديلًا عن المرسوم التشريعي رقم 55 لعام 2013، يعدّ عمل الشركة الأمنية الروسية مخالفًا للقانون.
ويرى المحلل العسكري النقيب عبد السلام عبد الرزاق، أن مصالح حلفاء نظام الأسد تتجاوز القانون، وهذا يعني أن القانون لا يشمل روسيا وإيران، ومصالحهما في الأراضي السورية فوق القانون، لأنهما تحتلان سوريا تحت ذريعة حماية حليفهما نظام الأسد.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تقدم شركات الحماية والحراسة خدمة الحماية لمنشآت صناعية وتجارية سورية بما فيها النفط، وتحصل على نسبة من المستثمرين، سواء السوريين المقرّبين من نظام الأسد أو الروس، من ثروات البلاد، مقابل تقديم الحماية والحراسة الأمنية”.
وأضاف: “إن تسميتها بـ”شركات الحماية والحراسة الخاصة” تهدف إلى تشريع وجود الميليشيات المحلية التي تعمل لصالح مسؤولي نظام الأسد والأجنبية الروسية والإيرانية، والتي تقدم خدمات حماية وتشارك في قتل السوريين، لا سيما أنها ارتكبت العديد من الانتهاكات إلى جانب قوات نظام الأسد”.
واشترط القانون 22 الصادر في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، على أن تكون الشركة الأمنية مملوكة بالكامل لحاملي الجنسية السورية، وألا يقلّ رأسمالها عن 500 مليون ليرة سورية، وأن تتخذ مقرًّا ثابتًا مملوكًا لها في منطقة عملها، وأن تكون مسجّلة في السجل التجاري أصولًا.
وبحسب القانون أصبحت مدة الترخيص سنة قابلة للتجديد، فيما يحظر على الشركة التعامل مع شركات خارج سوريا، أو أن تكون فرعًا لشركة عربية أو أجنبية، كما يمنع نقل ملكية الشركة أو التنازل عن الترخيص الممنوح لها كليًّا أو جزئيًّا إلا بموافقة مسبقة من وزير الداخلية، الذي سيتولى منح الترخيص بعد موافقة مكتب الأمن الوطني التابع للمخابرات السورية.
روسيا تحاول استعادة وجودها العسكري والاقتصادي في سوريا
يبدو أن المحاولات الروسية لاستعادة نشاطها العسكري ضمن الأراضي السورية لا تزال مستمرة، بعدما خسرت جزءًا من دورها الفاعل في سوريا جرّاء الحرب على أوكرانيا، والعقوبات الغربية عليها لصالح إيران، ويبرر نشاطها السياسي والاقتصادي الحالي.
واعتبر عبد الرزاق أن الأهداف الروسية من عودة نشاطها العسكري في سوريا، تعود إلى السيطرة على الملفَّين السوريَّين الاقتصادي والسياسي.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يحاول نظام الأسد الحدّ من الدور الإيراني تماشيًا مع الرؤية العربية والغربية تجاه ضبط نشاط الميليشيات الإيرانية في سوريا”، وأضاف: “يريد نظام الأسد الخروج من ثقل الهيمنة الإيرانية، التي أصبحت تشكّل عبئًا عليه وعلى الحاضنة الشعبية التي باتت ترفض التغلغل الإيراني”.
وتسعى موسكو من خلال الشركات الأمنية إلى حماية استثماراتها ومصالحها، بعد غياب مجموعة فاغنر الروسية التي كانت تشرف على تدريب شركات حماية وحراسة روسية وسورية محلية، في آبار النفط ومحطات الغاز السورية.
وأعلنت لجنة الدفاع في البرلمان الروسي عن حلّ مجموعة فاغنر بشكل نهائي في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، بعد تمردها على الجيش الروسي ومقتل زعيمها يفغيني بريغوجين في أغسطس/ آب من العام ذاته، وعلى إثرها انسحب معظم المقاتلين من الميليشيات الروسية التابعة لفاغنر بينما واصل بعضهم تحت أسماء شركات حماية أخرى، فيما انضمَّ آخرون إلى القوات المسلحة الروسية بهدف الحفاظ على عملهم في سوريا.
وأكّد مدير وحدة تحليل الدراسات في مركز أبعاد، محمد سالم، أن موسكو تتوجّه لاستعادة نشاطها ودورها العسكري والاقتصادي الفاعل في الملف السوري، من خلال تنشيط عمل شركات الحماية بهدف إيجاد ميليشيات تحلّ مكان مجموعة فاغنر الروسية، فضلًا عن كونها موالية للكرملين.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن شركات الحماية والحراسة الأمنية في مناطق نظام الأسد شكل محسّن لعمل الميليشيات والمرتزقة في الأراضي السورية، والتي ارتكبت انتهاكات بحقّ السوريين، كونها شاركت مع نظام الأسد في استهداف المناطق المدنية”.
وأضاف: “لا يمتلك نظام الأسد سيادة على الشركات وتعتبر أقوى من مؤسسات الدولة، وينشط دورها الفعّال في حماية المنشآت الصناعية والتجارية التي تستثمرها روسيا في الأراضي السورية، والتي منحها حق التصرف فيها”.
دور شركات الحماية الأمنية في سوريا
سعى نظام الأسد إلى إصدار قوانين نص عليها مرسوم 55 لعام 2013، تحت عنوان “شركات الحماية والحراسة الخاصة”، لكنها عُرفت بـ”الترفيق” محليًّا، وكانت تهدف إلى التعريف عن لجان الشبيحة والمجموعات المحلية المسلحة الموالية لنظام الأسد، والتي تقدم المرافقة والحماية للبضائع والقوافل التجارية التي يسيّرها مسؤولون مقرّبون من النظام.
وعلى خلفية القانون تأسّست عدة شركات أمنية في سوريا، بعضها تتبع لإيران وأخرى لروسيا، تحت ذريعة حماية الممتلكات الشخصية والعامة والمعادن الثمينة ونقل الأموال والمجوهرات وحراسة الأنابيب ومحطات تكرير النفط والفوسفات، وغيرها من الثروات الاقتصادية المهمة في البلاد.
إلا أن الشركات الأمنية عملت إلى جانب قوات نظام الأسد في بعض العمليات العسكرية، ولعلّ أبرزها شركة الصياد التي كانت تعمل مع القوات الروسية لملاحقة خلايا تنظيم “داعش” في البادية السورية، بالإضافة إلى شركة سند للحراسة والأمن التي كانت تشرف عليها مجموعة فاغنر، وتقوم بخدمات حراسة للمنشآت النفطية التي تسيطر عليها روسيا، مثل حقول التيم والورد والشعلة النفطية في دير الزور.
بينما تمتلك مجموعة القاطرجي القابضة، التي تعمل على استجرار النفط من مناطق سيطرة “قسد”، شركة المهام للحماية والحراسات الأمنية، بالإضافة إلى عدة شركات تقدّم خدمات حماية أمنية، بينما الشركات التابعة لإيران من بينها شركة الفجر للحماية، التي تحمي قوافل النفط التي تنتقل بين العراق ومصافي النفط في حمص وبانياس من هجمات تنظيم “داعش”.
وفي السياق، تنشط شركة القلعة للحماية والحراسة في مدينة البوكمال شرق محافظة دير الزور، وترافق قوافل الحجاج الإيرانيين والعراقيين الداخلين إلى سوريا، ويدير الشركة ضباط سابقون في الجيش والمخابرات السورية تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني.
إلى ذلك، شكّلت شركات الحماية والحراسة الأمنية التي نشطت في مناطق نظام الأسد، بوابة أمام حلفاء نظام الأسد في تشريع حماية مصالحهم الاقتصادية والعسكرية والسياسية في سوريا، من خلال جعلها ضمن شركات تبدو قانونية، لكنها في الواقع شاركت نظام الأسد في نهب ثروات البلاد وتهجير أهلها.