الرئيس قيس سعيّد في طريق مفتوحة للرئاسة لمدد يحددها على هواه، ما لم يحصل تدخل خارجي فعّال في الوضع التونسي، ولا نرى أحدًا في الداخل قادرًا على إنهاء عهده بسبل السياسة ووسائلها.
هكذا نقرأ الوضع السياسي التونسي في مرحلة تتسم بالحيرة النفسية وبالتشتُّت السياسي وبالركود الاقتصادي، ونجد أن السبب الرئيسي في هذا ليس قوة الرئيس ولا نجاحه في ما اعتزم، بل عجز معارضي الانقلاب من كل الأطياف على قراءة المشهد، وعجزهم بالخصوص عن بناء توافقات سياسية على قاعدة استعادة الديمقراطية، وتكريس وضع الحريات المهدد بالزوال.
أما سبب العجز فنراه يقينًا في عدم إيمان الطيف السياسي بأهمية الديمقراطية وبقيمة الحرية في إدارة البلدان وتطوير التعايش، وهو العجز القائم على عقل استئصالي لم ينفك يحكم عقول النخب، وإذ نعاين هذا العجز نرى أن البلد يسير في اتجاه فقدان قراره على مستقبله، وخضوعه بشكل تام للإملاء الخارجي. سنفصّل بعض وجوه المشهد.
غموض قانوني مسيطر على المشهد
لم يعلن الرئيس ولا لجنته الانتخابية المنصّبة من قبله عن موعد انتخابي دقيق بعد، لكن شخصيات كثيرة أعلنت ترشحها رسميًّا، وهناك آخرون أعلنوا نواياهم ومبرر الترشح عندهم باتفاق هو فرض الاستحقاق على الرئيس ومنظومته، ولو في غياب الوضوح القانوني للاستحقاق الانتخابي. الأمل في إرباك الرئيس ومنظومته أو إحراجه، يحتوي على كثير من حسن النية تجاه الوضع الذي تأسّس بانقلاب على مؤسسات شرعية منتخبة.
بالتوازي، يوجد تيار آخر ضمن النخبة لا يرى أملًا في خوض استحقاق انتخابي على قواعد غير شرعية، ويتكلم عن النزول إلى الشارع والتحرك بقوة ضد الانقلاب، لكن هذا التيار لا يملك أي جمهور يمكنه عقد اجتماع ولو بـ 100 شخص فضلًا عن مظاهرة “مليونية”.
أما التيار الثالث الصامت بعد، ومنه حزب النهضة، فيراقب الوضع ولا يفصح بما يسمح بتبيُّن موقفه في هذه المرحلة، وإن كان يصرف جهدًا كبيرًا في الدفاع عن حرية قيادات سجينة من كل الطيف.
ونرى مؤسسات الدولة كالجيش والأمن صامتة باسم واجب التحفظ، وليس لدينا أي علم بموقفها من الوضع المتردي على كل الصعد. أما المؤسسات الاقتصادية الخاصة (أو الأعراف ونقاباتهم) على موقفها السياسي رغم تذمّرها المسموع من الوضع الاقتصادي المتردي.
كل هذه التيارات/ التوجهات تراقب الانقلاب، وتراقب في الوقت ذاته موقف حزب النهضة، وهو الحزب الوحيد الذي له جمهور (أو بقية من جمهور) وازن في الصندوق الانتخابي، وقد سمعنا من مصادر كثيرة أن المترشحين يتودّدون للحزب طمعًا في جمهوره، لكن مع التودد الباطن يخجل الجميع من الظهور مع قيادة الحزب أو ذكرهم ذكرًا حسنًا، خشية من كلفة تهمة التلوث بالإسلام السياسي الإرهابي المنبوذ من فرنسا خاصة ومن الغرب عامة.
عقدة الإسلام السياسي
التودُّد للإسلاميين يتراكب مع شعور بالعار من الاقتراب منهم علنًا. الجميع، بمن فيهم بعض المتذاكين بخطاب ديمقراطي، يتعامل مع الإسلاميين كما يتعامل مع شاة جرباء، يخشى عدواها وإن كان لحمها لذيذًا تحت الجلد الأجرب، نراهم طابورًا على هاتف الأمين العام الحالي السيد العجمي الوريمي، الذي يدير الحزب في غياب رئيسه وقيادته السجينة. الجميع يخطب ودّ الحزب في صندوق انتخابي يرونه قريبًا، لكن حبّذا لو يحصل على ذلك دون أن “تتّسخ يده علنًا بمصافحة الإسلاميين”.
هنا نكتشف أن كل الطيف لم يطوّر موقفه ولم يتعلم من الانقلاب، ولا من تاريخ بن علي الذي صفّى الإسلاميين ليحكم وحده، وكل هؤلاء إذا تحدثوا عن الديمقراطية يضعون بشكل مسبق شرط ألّا ينال الإسلاميون نعمة المشاركة طبقًا لحجمهم، وأقصى ما يمنّون به عليهم أن يشاركوا بالتصويت ولا يشاركوا في الحكم (إذا تمّت استعادته).
كل هؤلاء، ورغم الانقلاب وآثاره المدمرة على الحياة السياسية، وكل مكتسبات الثورة، لا يزالون مرابطين عند الموقف الذي ساد منذ ظهور الإسلاميين في أول الثمانينيات (للإسلاميين بعض الحق في الأكسجين، لكن لا يجب أن يشاركوا في الحكم، فضلًا على أن يفوزوا ويحكموا وحدهم).
لم يبنِ أي من هؤلاء منذ ظهورهم في المشهد حزبًا معادلًا للإسلاميين، ولا أفلحوا في بناء كتلة وازنة من الشخصيات الاعتبارية، ولم يقدموا أفكارًا مقبولة لكن جميعهم يرون أنفسهم أهلًا للحكم لكن دون أن يقرّوا أن ذلك غير ممكن لهم إلا بأصوات الإسلاميين. ولم تشذّ عن هذا الموقف إلا الكتلة التجمعية ذات الرؤوس المتعددة، والتي لا تزال تعتقد أن جمهورها الانتخابي ثابت يمكن استنهاضه بالهاتف.
الحل ممكن لكنه دون إيمان حقيقي بالديمقراطية
رغم ما سبق، إن تنفيس الوضع السياسي والخروج من تحت سقوف الانقلاب الوطيئة ممكنان، بل نرى الديمقراطية ممكنة أيضًا لكن شروطها لا تزال عسيرة على النخب المتكلّسة. تمرّ جميع الحلول ببناء توافقات سياسية مع الإسلاميين على قاعدة ما يعطي الصندوق من أحجام. ثم الصبر الطويل على ما يمكن أن يكون صعوبات حكم في الداخل، وضغوط خارجية لا تزال تمنح نفسها حق التدخل في الشأن الوطني، فتتعامل مع البلد بصفته بلدًا محتلًّا وغير ذي سيادة.
نحن نرى أن رفض مشاركة الإسلاميين في إدارة بلدانهم هو إملاء غربي على النخب المحلية، ويقع هذا الإملاء موقعًا حسنًا لدى كثير من النخب التي تزعم الحداثة والتقدمية، خاصة مجموعات اليسار الاستئصالي.
وكثير من الاستئصاليين يقولون بوقاحة إنه إذا شارك الإسلاميون فإن الغرب لا يرضى بالتعامل مع الدولة، وسيحاصرها ويقطع عنها المدد، دون أن يروا في ذلك مساسًا بالقرار السيادي لبلدانهم، وتكييفًا لحياتهم السياسية طبقًا لهوى الدول المهيمنة.
لذلك نرى أن الحل لإنهاء الانقلاب وبدء عملية ديمقراطية ناجحة سيحتاجان حتمًا إلى مدى زمني طويل، هو إعلان استقلال سياسي جديد يحتكم أولًا وأخيرًا لقرار الناخب، أي لنتيجة الصندوق ولو مال إلى الإسلاميين، ورفض تامّ لأي إملاء خارجي يقبل بزيد ويرفض عمرو، ويمارس الدلال السياسي على بلدان ضعيفة لكنها مستقلة على الأقل على الورق. وقد كتبنا مرارًا أنه لا يمكن بناء ديمقراطية تحت الاحتلال (نحن نرى القرار السيادي لتونس مصادرًا خاصة من قبل فرنسا).
هل ستتوافق النخبة التونسية على هذا الإعلان وتصوغ ورقة استقلال جديدة تحترم بها إرادة شعبها إذا ذهب إلى الصندوق واختار من يحكم؟ لا نرى ذلك قادمًا بل لا نراه أبدًا يحصل في هذا الجيل السياسي الذي بنى كل فكره وحركته على الاستئصال بشكله الناعم (الذي يصافح الإسلاميين) والاستئصال الصلب (الذي يرفض مبادلتهم التحية).
ولذلك قلنا منذ البداية إن الطريق مفتوح للرئيس المنقلب ليبقى في الحكم قدر ما يشاء، وقد قلنا قبل ذلك إنه لولا حرب الاستئصال ما كان وصل إلى الموقع الذي يحتكره الآن، ويسخر من معارضيه ويتهمهم بالتآمر مع الخارج ضده.
نقول بأسى بالغ لقد أغلق الاستئصاليون العرب قوس الربيع العربي، وأعدموا احتمالات بناء الديمقراطية في المدى المنظور، ونختم بألم أن هذا الجيل السياسي مات يوم حدث الانقلاب على بذرة الديمقراطية، لكنه لم يشم رائحة جثته بعد.