تواصل روسيا اتخاذ خطوات إضافية تهدف إلى تعزيز وجودها العسكري على مقربة من حدود الجولان السوري المحتل، ليفتح هذا التوجه الباب واسعًا أمام التساؤلات عن هدف موسكو، والمصالح التي تتطلع إلى تحقيقها من ذلك.
وزادت القوات الروسية عدد نقاطها العسكرية عند المنطقة الفاصلة بين الجولان وسوريا، ليرتفع إلى 14 نقطة، وفق تأكيد مصادر، موضحة أن القوات الروسية ثبتت نقطتي مراقبة جديدتين منتصف أبريل/نيسان الجاري، مبينة أن “الشرطة العسكرية الروسية أنشأت نقطة في تل مسحرة، وأخرى في تل الكرم بريف محافظة القنيطرة”.
في مطلع الشهر ذاته، ثبتت روسيا نقطة مراقبة في المنطقة ذاتها، بالتزامن مع تكثيف الشرطة العسكرية للدوريات البرية على طول الخط الفاصل، وتسيير دوريات جوية.
الهدف المُعلن من هذه النقاط، وفق نائب رئيس “المركز الروسي للمصالحة في سوريا”، اللواء يوري بوبوف “مراقبة مدى ملاءمة إنهاء الخلافات بين الطرفين”، لكن ماذا عن الأهداف غير المعلنة التي تخدم حكمًا مصالح موسكو؟
في أعقاب العدوان على غزة، عاد الجنوب السوري إلى صدارة الأولويات الروسية في سوريا، وتحديدًا بعد أن سجلت الحدود الشمالية للاحتلال مع لبنان والجولان زيادة في منسوب التوتر بين مليشيات إيران والاحتلال، ليبدو أن حرب غزة فرضت مقاربة جديدة على روسيا في سوريا، بعد فترة من الانشغال بالحرب في أوكرانيا.
فبعد أن قلصت روسيا من حجم وجودها العسكري في سوريا بسبب الحرب في أوكرانيا، تواترت الأنباء عن استغلال إيران لهذا الوضع، من خلال الدفع بمليشيات تابعة للجنوب السوري، لكن سريعًا بدأت روسيا تتدارك الموقف، خاصة أن أحد بنود “اتفاق التسوية” الذي وقعته فصائل المعارضة السورية في الجنوب مع النظام السوري عام 2018، ينص على ضمان موسكو إبعاد المليشيات الإيرانية بعمق 80 كيلو مترًا عن الحدود مع الاحتلال والأردن.
محاباة الاحتلال
ورغم أن الوجود الروسي بمحاذاة الجولان ليس وليد التطورات في غزة، فقد أسست روسيا بعض النقاط العسكرية في الفترة التي تلت “اتفاق التسوية”، فإن الوجود الروسي الآن يأخذ هذه المرة أبعادًا وأهدافًا مختلفة، وعن ذلك يتحدث الخبير العسكري والاستراتيجي العميد أحمد رحال لـ”نون بوست” عن “محاولة روسية لاستقطاب إسرائيل”.
ويوضح أن “موسكو تريد بانتشارها العسكري عند حدود الاحتلال الشمالية، إعطاء الأمان من الجبهة السورية للاحتلال، طمعًا بتغيير موقف الأخير بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا”.
على النسق ذاته، يقول الباحث في مركز “الحوار السوري” أحمد القربي، إن روسيا تحاول الإمساك بورقة الحدود مع الجولان، في محاولة لقطع الطريق على الإيرانيين، وإظهار تحكم روسيا بكامل الحدود السورية.
إلى جانب حماية النظام السوري، تريد موسكو كذلك حماية مصالحها في سوريا، كما يؤكد القربي لـ”نون بوست”، مضيفًا أن “نقاط المراقبة تخدم ما سبق، إلى جانب كونها تساعد الروس على ابتزاز الاحتلال في مسائل متعلقة بأوكرانيا”.
وبالفعل، أثرت الحرب في أوكرانيا على العلاقات الروسية الإسرائيلية، وذلك على الرغم من انتهاج الاحتلال لسياسة “الحياد” إزاء ما يجري في أوكرانيا، وجاءت الحرب في غزة لتشكل لروسيا فرصة لمحاباة الاحتلال الإسرائيلي، طمعًا في تغيير موقف “إسرائيل” فيما يخص التمسك بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها وعدم الاعتراف بالاستفتاء على الاستقلال الذي أجرته روسيا بالمناطق الشرقية من البلاد.
يمكن تلمس ذلك، من خلال تأكيد نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، أن “إسرائيل لا تبلغ روسيا بخصوص ضرباتها على سوريا”، في تصريح نقلته وكالات روسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي بعد اندلاع الحرب في غزة بنحو شهر.
تحسن التنسيق الروسي مع الاحتلال
الباحث في مركز “جسور للدراسات” وائل علوان، يجزم بأن الحرب في غزة أسهمت في تحسن التنسيق الروسي الإسرائيلي، معتبرًا أنه “بالتالي تأتي زيادة نقاط المراقبة الروسية في الجولان نتيجة عودة مستوى التنسيق الروسي مع الاحتلال إلى مستوياته المعهودة منذ بدايته في 2015″.
وقال لـ”نون بوست” إن “هذا التنسيق يقضي بضمان إبعاد روسيا للمليشيات الإيرانية و”الحرس الثوري” عن حدود الجولان، وكذلك ضمان عدم قيام مبادرة عسكرية برية إيرانية انطلاقًا من الحدود السورية”.
فيما يخص موقف إيران من ذلك، يعتقد علوان أن “طهران مستوعبة تمامًا للتنسيق الروسي الإسرائيلي”، ويقول: “ضبط الميدان في الجنوب السوري هو بيد روسيا الضامنة لاتفاق التسوية، وهذا يؤكد أن انتشار مليشيات إيران في الجنوب السوري كان يتم بالتنسيق مع روسيا التي كانت منشغلة بأوكرانيا”.
كذلك، يلفت الباحث إلى “تفهم إيران لمبدأ التنسيق الجوي الروسي الإسرائيلي”، ويقول: “باعتقادي علاقة الروس مع إيران لا تتأثر بهذه التفاهمات”.
تعزيز نفوذ روسيا في المنطقة
في السياق ذاته، يؤكد الكاتب المختص بالشأن الروسي طه عبد الواحد، أن روسيا معنية بضبط الوضع في الجنوب السوري، والتقليل من إمكانيات استخدامها من جانب أي قوى في سوريا لتوجيه ضربات إلى الإسرائيليين، ويرجع ذلك في حديثه لـ”نون بوست” إلى “خشية موسكو من توريط سوريا في حرب مفتوحة واسعة مع إسرائيل، مع ما يحمله هذا من تهديد للقواعد الروسية في روسيا من جانب، ومخاطر أن تجد روسيا نفسها منجرة إلى هذه المواجهة من جانب آخر”.
بالتالي، وفق قراءته، تزيد روسيا من نقاط المراقبة في المنطقة، وفي الوقت نفسه تعزز حضورها في الجولان، وهي المنطقة التي تمثل خط تماس مباشر بين النظام السوري والاحتلال، ما يمنح موسكو على الصعيد السياسي المزيد من الأوراق الرابحة التي تدعم فرصة أن تلعب ذات يوم دور الوسيط في محادثات سلام (سورية إسرائيلية)، وربما ضامن لأي اتفاق مستقبلي بين الطرفين، وهذا بحد ذاته يعزز بقوة نفوذ روسيا في الشرق الأوسط بشكل عام.
تأسيسًا على ما سبق، يعتبر عبد الواحد أن “من الطبيعي أن تكون روسيا معنية بقطع الطريق على الإيرانيين في سوريا باعتبار أن إيران الطرف الوحيد الذي قد يستغل الأراضي السورية ويقوم بتوجيه أدواته في سوريا للقيام بعمل ضد الاحتلال عبر الجولان، بل حتى إن إيران قد لا تمانع من تحويل الجولان إلى نسخة ثانية عن جنوب لبنان، وقد تذهب أبعد من ذلك بأن تدفع الوضع نحو مواجهة مباشرة بين النظام السوري والاحتلال في حرب جديدة “بالوكالة” في المنطقة، تصب في خدمة السياسات الإيرانية.
لم تخف روسيا خشيتها من امتداد الحرب في غزة إلى جبهات أخرى، وحذرت مرارًا من انجرار سوريا إلى الحرب، وقال مندوبها الدائم في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا: “سوريا مثل بقية دول المنطقة تتأرجح فعليًا وهي على وشك الانجرار إلى مواجهة واسعة النطاق”، وذلك في الفترة الأولى بعد اندلاع الحرب.
خلاصة كل ذلك، هي أن تكثيف روسيا لوجودها على مقربة من الجولان يخدم جملة أهداف، منها زيادة الضغط على الاحتلال لتغيير مواقفه “الداعمة” لأوكرانيا، وكذلك لقطع الطريق على أي محاولة إيرانية لتوريط النظام السوري بالحرب، الأمر الذي يهدد مصالحها المرتبطة بوجود هذا النظام، علاوة على حسابات متعلقة بالنفوذ في المنطقة قاطبة.