منذ تقلده سدة الرئاسة، يحاول الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون إيجاد مكان لبلاده في الخريطة السياسية الجديدة للعالم، لا سيما في مناطق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والساحل الإفريقي، من خلال اعتماده لدبلوماسية الوساطة التي نجحت مؤخرًا في الملف اللبناني، مستغلًا غياب بعض القوى الإقليمية والدولية الكبرى عن الساحة لانشغالها بوضعها الداخلي.
سياسة جديدة
في شهر أغسطس/آب الماضي، أطلق الوافد الجديد على قصر الإليزيه الرئيس إيمانويل ماكرون تصوره للسياسة الخارجية الفرنسية في لقائه مع سفراء الدولة الفرنسية بالخارج، هذه السياسية الخارجية التي أعلنها ماكرون حينها تعتمد في جزء كبير منها على سياسة الوساطة لفض النزاعات العالقة بين العديد من الأطراف.
وتسعى فرنسا إلى لعب دور الوسيط في حل النزاعات على مستوى العالم، فما فتئت تؤكد أن حل الأزمات لا يكون إلا من خلال التواصل والعمل الجماعي، وتعطي الأزمات الموجودة حاليًّا في العديد من المناطق هامشًا كبيرًا لفرنسا لتطبيق سياستها الدبلوماسية الجديدة.
ويؤكد المسؤولون الفرنسيون أن باريس يمكن أن تؤدي دورًا في صراعات ونزاعات دولية عديدة في مختلف المناطق، نظرًا لكونها عضوًا له حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ولعلاقاتها التاريخية مع دول الشرق الأوسط ودول القارة الإفريقية، ويقولون إن بقاءها على الحياد وعلى مسافة واحدة من الجميع سيكسبها مصداقية ويجعلها تبدو متسقة مع نفسها على المدى المتوسط والطويل.
تتعلق منهجية ماكرون الدبلوماسية الجديدة، حسب وسائل إعلام فرنسية، بالتحدث مع كل الأطراف، وتمنح فرنسا دور الحكَم
من خلال هذه السياسة الجديدة يسعى ماكرون إلى ترك بصمته على مستوى العلاقات الخارجية وإعادة فرنسا إلى الميدان الدولي، لتؤكد أنها دولة كبرى لها رأيها في مجموعة من الصراعات حول العالم لا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا، بعد أن تراجعت مكانتها العالمية في السنوات الأخيرة نتيجة تورطها في العديد من الملفات، على رأسها الملف السوري والليبي.
ويؤكد العديد من المراقبين حاجة فرنسا إلى أسواق اقتصادية جديدة وإلى دعم اقتصادها، وهو ما يفسر سعيها لأن تكون لاعبًا أساسيًا على الساحة الدولية، ليكون لها حصتها في المصالح الدولية الجديدة.
وتتعلق منهجية ماكرون الدبلوماسية الجديدة، حسب وسائل إعلام فرنسية، بالتحدث مع كل الأطراف، وتمنح فرنسا دور الحكَم، ومن السهل على فرنسا لعب هذا الدور، خصوصًا أن صورتها في الخارج تحسنت بشكل كبير بعد وصول ماكرون للحكم، حسب نفس هذه الوسائل الإعلامية.
وتذكّر سياسة الرئيس إيمانويل ماكرون الجديدة التي يسعى من خلالها إلى إعادة فرنسا إلى الميدان الدولي، بسياسة الرئيسين الفرنسيين الأسبقين شارل ديغول وفرنسوا ميتيران الذين كانا يعملان على التأكيد على مكانة باريس العالمية من خلال تدخلها في العديد من الملفات الدولية.
الملف اللبناني
عودة فرنسا للعب دور محوري على مستوى العالم، يظهر جليًا من خلال بروزها في العديد من الأزمات العالمية، وكان الحضور الفرنسي البارز في الأزمة اللبنانية مؤخرًا – بعد إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته من العاصمة السعودية الرياض – مثالًا على ذلك، فقد وضعت استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري بلد الأرز في قلب الصراع المحتدم بين السعودية وإيران، وقد قدمت فرنسا نفسها وسيطًا لحل المشكلة الناجمة عن هذه الاستقالة ولتخفيف التوتر الإقليمي.
واستطاعت باريس لعب دور كبير في أزمة كادت أن تُشعل حربًا إقليمية في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يدل على قوة الدبلوماسية الفرنسية الجديدة، وكان الحريري أعلن في الـ4 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ استقالته من منصبه في أثناء وجوده في السعودية، وبرر الخطوة المفاجئة بخوفه على حياته ورفضه سعي إيران وحزب الله لزعزعة استقرار البلاد.
في المقابل اتهم مسؤولون لبنانيون السعودية بوضع الحريري قيد الإقامة الجبرية في الرياض وإجباره على الاستقالة لاستغلال ملفه في خصومتها مع إيران في لبنان والمنطقة، وبعد الوساطة الفرنسية غادر الحريري وبعض أفراد عائلته إلى باريس، حيث التقى الرئيس إيمانويل ماكرون قبل أن يعود إلى بيروت ويقرر العدول عن استقالته.
الملف السعودي الإيراني
إضافة إلى الوساطة في الملف اللبناني، تسعى فرنسا للعب دور الوسيط بين المملكة العربية السعودية وإيران، وأن تكون عامل توازن بين الطرفين، خاصة مع تفاقم الوضع في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يمكن أن يؤثر سلبًا على الأمن العالمي لما لهذه المنطقة الاستراتيجية من أهمية في أمن الدول في مختلف مناطق العالم، ويسعى إيمانويل ماكرون إلى استغلال تفضيل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معسكر على الآخر (بالنظر إلى قرار ترامب عدم التصديق على التزام إيران بالاتفاق النووي)، ليؤكد أحقيته في دور الوساطة في المنطقة، وأن يظهر بثوب المحايد الذي يجلس على نفس المسافة من الجميع.
مطالبة ماكرون بموقف دولي حازم تجاه برنامج إيران النووي، وتحذيره ضمنيًا من أن نهج الرياض تجاه خصمها الشيعي مبالغ فيه، قد يساعد على حماية روابط فرنسا في البلدين
ونتيجة ذلك تعهد ماكرون بالالتزام بالاتفاق النووي مع إيران بينما أخذ يعزز العلاقات مع ترامب والسعودية، وفي الوقت ذاته هدد بفرض عقوبات جديدة على طهران بسبب برنامج صواريخها الباليستية ووعد بالتعامل مع نفوذها المتصاعد في المنطقة، ويرى مراقبون أن مطالبة ماكرون بموقف دولي حازم تجاه برنامج إيران النووي والصاروخي، وتحذيره ضمنيًا من أن نهج الرياض تجاه خصمها الشيعي مبالغ فيه، قد يساعد على حماية روابط فرنسا التجارية والاقتصادية في إيران ويتيح متسعًا من الوقت للسعودية.
الملف العراقي
يسعى ماكرون – الذي استقبل رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في 29 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي – إلى لعب دور الوساطة بين أربيل وبغداد، وتسهيل الحوار بينهما مستفيدًا من العلاقات الجيدة التي تربط باريس بمختلف الأطراف، وفق الرئاسة الفرنسية.
واعتبر الرئيس الفرنسي أن وجود عراق قوي ومتعدد يُعترف بكل مكوناته هو شرط للاستقرار الفوري والمتوسط المدى في الشرق الأوسط، ورأى أن الجيل الجديد من القادة الأكراد الذي يمثله نيجرفان بارزاني ابن شقيق الرئيس السابق للإقليم مسعود بارزاني وقباد طالباني نجل الرئيس العراقي السابق جلال طالباني الذي توفي في أكتوبر/تشرين الأول، يتحمل مسؤولية تاريخية، وأضاف “فرنسا ستكون في تصرف الأطراف لإنجاح هذا الحوار الوطني البناء”.
ودعا الرئيس الفرنسي، السبت، إلى الإسراع في بدء حوار بين السلطات العراقية وأكراد العراق، وذلك خلال استقباله في باريس لرئيس وزراء إقليم كردستان بنيجرفان بارازاني ونائبه قباد طالباني، ورد بارزاني مؤكدًا أن إربيل مستعدة لبدء مفاوضات لتسوية كل المشاكل مع بغداد، وتستمر الأزمة بين الأكراد والحكومة المركزية العراقية بعد شهرين من استفتاء على الاستقلال أجرته حكومة إقليم كردستان العراق الكردية ورفضته بغداد بشدة.
الوساطة في إفريقيا
مقاربة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الدبلوماسية الجديدة القائمة على الوساطة والحوار، والتحدث إلى جميع الأطراف المتنازعة مهما كانت، والابتعاد عن النهج الصدامي والصراع للاحتفاظ بدور الوسيط والحكم، وجدت صداها أيضًا في القارة الإفريقية في الشمال وفي منطقة الساحل والصحراء.
وكانت ليبيا بوابة العبور بعد انكفاء في السنوات الأخيرة، حيث تُركت الساحة للولايات المتحدة وروسيا وغيرها من القوى الإقليمية، ففي نهاية يوليو الماضي أشرف ماكرون على صدور بيان مشترك هو الأول من نوعه الذي يوقعه الطرفان الرئيسيان للأزمة في ليبيا: فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوفاق الوطني، واللواء المتقاعد خليفة حفتر، بهدف تمهيد الطريق لمصالحة شاملة في ليبيا.
لاستعادة حيويتها الخارجية في إفريقيا بصفة خاصة، يتحتم على ماكرون تقديم صورة مغايرة عن فرنسا البلد المستعمر بالنسبة إليها
ومن ثم في القمة المشتركة بين الاتحادين الأوروبي والإفريقي في أبيدجان، حيث لم يتأخر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال جولته الإفريقية، في الإعلان أنه سيقترح مبادرة أوروبية إفريقية لضرب المنظمات الإجرامية وشبكات التهريب التي تستغل المهاجرين الأفارقة، دون تجاهل المواقف التي يعبر عنها في مختلف الأزمات الأخرى، وبالتزامن مع ذلك يسعى ماكرون إلى إظهار نفسه أنه منقذ اللاجئين الأفارقة في ليبيا.
ولاستعادة حيويتها الخارجية في إفريقيا بصفة خاصة، يتحتم على ماكرون، حسب العديد من المراقبين، تقديم صورة مغايرة عن فرنسا البلد المستعمر بالنسبة إليها، خاصة أن القارة الإفريقية لم تعد حكرًا على التنافس الأوروبي – الأمريكي فقط، إذ باتت قوى إقليمية أخرى تزاحمها النفوذ، خاصة الصين والهند والبرازيل وتركيا وغيرها.