في هذه الفترة التي تمر فيها الدول الإسلامية بأوضاع قاسية وظروف متورطة لا بد من لفتة يسيرة نحو الممرات التي عبرناها في بوتقة الحب الخالص والوفاء الطازج، بأن الأمة مهما تلونت راياتها واختلفت مشاربها وتغيرت عواصمها كانت مربوطة بفتيل الإيمان، وكانت مفتولة بحبل الله الموصول، تظلل كل من لجأ إليها وتسمع نداء الملهوفين والمستضعفين، وتمد كنفها نحوه بغض النظر عن جنسيته وعنصريته ونسبه، وينطق التاريخ عن مملكة إسلامية احتضنت جاليات اليهود المبعثرة وسمحت بقطع من الأرض لهم من غير فرض أي رسوم عليهم.
ولكن لما توجه العالم نحو أفق جديد من البهرجات المصبوغة بالوطنية والعرقية انقلب هذا التوازن وتبلبل هذا التزامن، فأصبح الأتراك ينبشون تاريخهم ويستعيدون سلطنتهم بينما علت في حارات العروبة شعارات “تحيا العروبة وتبقى الوطنية”، بل تغير مسار الشعارات وانصهرت في كل دولة تختص بها، فلا مصر تحب سوريا ولا تونس تحب عراقًا ولا إيران تحب الحرمين، بل كل حزب بما لديهم فرحون، فلو اتحد العرب والأتراك واستمدوا من تاريخهم وابتلعوا المرارة التي أصابتهم لتحول مسار الأمة ولجرى العالم نحو اتجاه جديد.
وفي كل لحظة من هذه الفترة الداكنة توقفت القدس في مرمى النبال وتأرجحت صراعاتها لأجل الحرية والاستقلال على زناد الأمة، وتمايلت قضيتها حسب الحركات المتحمسة في الصعيد الإسلامي الواسع، وتشعبت المشكلة حتى لا يجتمع الأخوان في طاولة واحدة.
فيهم من يشيد أزرها ويشدد في دعمها ومن لا يتقاعد في شبر في أرضها الموقوفة، بل فيهم من وزعوا أسلحة هدامة ومن عبسوا وجههم عن هذه الديار المقدسة، وكأن الأمة تدور رحاها حول القدس وقبتها وتراثها وتاريخها، فالقدس دائمًا تقرض مساجلات الانسجام، فتركيا دافعت عن فلسطين ودفعت قوتها لها، فالسلطان عبد الحميد الثاني قام في طليعة المدافعين لصالح الفلسطين، بل اشتعلت منابر الشرق الأوسط بقضية القدس والتهويد، هكذا عانقت الأرواح وصافحت الملائكة.
الأمة دائمًا فشلت في العثور على قناصها الحقيقي والقبض على أشباح الفتنة، لأنها كلما أقصت ذاتيتها وحقيقتها من ربقة الإسلام ظلت تتعرض لشتى الهجمات والحملات العدائية
العرب والأتراك.. محبة من وراء الحدود
ثبت في الحديث الشريف عن فتح أسوار القسطنطينية وعن قائدها المعظم “نعم الأمير أميرها ونعم الجيش جيشها”، حديث تستر فيه آلاف المعاني والوجدان، بل تطاول لتحقيقها زعماء العرب وفرسانهم، لكن الوعد الصادق تبلور تحت سطوة محمد الفاتح العثماني وقضى على القلعة التي أرقت الأمة ونشرت الفتنة وحجزت تيار الإسلام وراء جبال آلبيس وآنديز.
ففي تاريخ 1453 كسرت العثمانية شوكتهم وشقت شراع سفنهم، ومنذ ذلك الحين، ركضت الأمة بأحلامها وقفزت بأعلامها نحو أنقرة ومرمرة، فرأوا أندلس الرطيب يلوح من بين البحر المتوسط وتطلعوا إلى شمس من جديد يعانقهم في أفق أوربا، لأنهم كانوا في وطأة الرومان وفي خيبة الأمل من إسبانيا ومدنها المتعرسة مع أنهم يتلون “آلم غلبت الروم”.
بل تحكي “القسطنطينية” قصصًا وروائع من البسالة في حلبة الجهاد الإسلامي وتنطوي في ذاكرتها حكايات من الجهاد، حين خاض أبو أيوب الأنصاري المعركة الدامية الدامسة، وهو هرم يلوذ بعكازه، يقول له أبناؤه “يا أبي لا يفترض عليك الجهاد فلم تلق بأيديك إلى التهلكة”، كان جوابه صادمًا سجله التاريخ يعبر فيه همته وجاهزيته لصالح الشهادة، حتى استشهد فيها ودفن وقبره الآن يمد جسرًا موصولاً بين أنقرة والمدينة.
بل هو نفسه الذي برك في عرصته قصواء الرسول تلبية لقوله الغريب “دعوها فإنها مأمورة”، فمن هذه الحادثة التي تحمس أفئدتنا وتعبر عن اشتياق العروبة في فتح أسوار القسطنطينية نبني السلام لغد جميل ونحتضن وعي الأمة قلبًا وقالبًا وروحًا ودمًا.
من يجني من صراعات الأخوة؟
الأمة دائمًا فشلت في العثور على قناصها الحقيقي والقبض على أشباح الفتنة، لأنها كلما أقصت ذاتيتها وحقيقتها من ربقة الإسلام ظلت تتعرض لشتى الهجمات والحملات العدائية، ففي كل وهلة تعرفت تاريخها وتلت كتابها تراصت الصفوف والتفت القلوب والتأمت الجروح والتم الشتات.
فمن العدو الحقيقي الذي يريد إحباط هذه المحجة الحنيفية السمحة، وأين فخه وأين آلياته المفخخة، فما يوم حليمة بسر، لأن الأمة خاضت حربًا إثر حرب، إما النصارى وفرسان المعبد، وإما مؤامرة اليهود، وكانت الحرب بيننا وبينهم سجالاً، لكن الحب ظل يجري فينا سيالاً، فما هاجمت العرب سلجوقيًا أو مملوكيًا، بل خاطت الرسالة الإسلامية حلة الغرام والمحبة، فكان رسل الملوك الإسلامية يتبادلون وحي السلام ويقسمون للوقوف على وجه العدو وحماية بيت المقدس، لكن متى انقلبت الموازين وانكسرت الأحلام؟
فالأمة تفتح المدائن بشكل ميسر، لكنها تنحني أمام سيل من المؤامرات الموجهة في تبديد الخلافة وتشتيت الوحدة، ولأن الخلافة العثمانية أرست لبنتها الأولى على تابوت فرسان المعبد الصليبية ثم جهزت نعشها في صومعة اليهود المكرة، فكيف نجحت الأمة في الأولى ورسبت في الأخرى؟
لأن الأمة تأخرت في كشف المؤامرات التي تجري تحت ستر الليل البهيم، بل بقيت تثق بنفسها الباسلة للمبارزة واتكلت على عضلاتها الفتية ولم تحس بنبضة العصور التي لا يفوز فيها إلا الماكر المتآمر، حتى اتسع هذا الجرح في قلب الأمة، فكأنها تتآكل من نفسها، فانهارت وانهدت تحت سمع العالم الإسلامي ونحيبه الصارخ، لأن الشعوب غير الأتراك وقعوا في يأس قاتل حين تقلب الشباب الأتراك زعامة الخلافة، فتوترت حالتهم حتى أضرمت الإمبراطورية شرارة الفرقة والانفصال، فدائمًا يرقد العدو في عقد دارنا ونحن نيام.
كان العرب والمسلمون في عصور الضعف والانكسار يشتاقون لقوة إسلامية قصوى تجمع الشتات وتلم الشمل الإسلامي الذي ذهب متبعثرًا على سفرة المؤامرات والدسائس المرتصدة، لأن الدواهي قد شرقتهم وغربتهم
وقد لاحظنا تلك الفترة الصاخبة حين نكست راية العثمانية وما زال الطواغيت يرتعون في عواصمها ولم يبق أحد يرثي لحالها من جوف قلبه، لأن مجرى التاريخ تغير وتحولت حبكة المسرحية، لأن في العرب من يلقن أحفاده بأن الترك احتلوا وطنه ونزعوا منه سلاحه، وأن الأتراك هم المحتلون والمغتصبون.
دروس من عمق العصبية الفاحشة وانطباعات من اليأس الذي اعتاده العرب، بل كانت تلك الفترة أبشع فترات شهدها العالم الإسلامي، فيعبس التركي عن أخيه العربي والتركي يلوي وجهه عن أخيه ذي العقال، تورمت تلك الجروح ولم تزل تتسع، لأن كابوس العثمانية ومجدها يتمايل في كلا الضفتين، فبقيت هناك أفئدة تحن إلى أوكار السلام وعودة المجد والتراث الخالد ونبذ الشتات إلى الوراء والبناء من جديد، لأن فطرة العرب منسوجة بالحب والحرب والأتراك أيضًا مدبلجة منها، فلا بد من “سكة حجازية” تواصل بين الرياض وأنقرة.
ملامح من تاريخ الحب
كانت العرب تعيش أحلى حياتها وتتمتع بأبهى ممالكها، وتمر بالأموية والعباسية الشامختين، ولكن بعدما انقضت جدران الخلافة وأصبحت بغداد مقبرة التراث ونعش المآثر، تولد في الإسلام جيل جديد وتكرر في تاريخه إعجازيته وقدسيته، وتولى زعامة الأمة السلاجقة وتبادلوا شراعها إلى العثمانية، فخضعت بغداد ودمشق والقاهرة تحت قدمي سلاطين الأتراك، لقد تحولوا من 400 خيمة إلى جيش عرمرم، يقف على وجه المغول وعلى حدود فرسان المعبد، وقد شكلت المملكة العثمانية خطرًا كبيرًا لكل من هفوا نحو القدس ومسجده، ومثلوا سدًا منيعًا في وجه الباطل وعداء الإسلام.
كان العرب والمسلمون في عصور الضعف والانكسار يشتاقون لقوة إسلامية قصوى تجمع الشتات وتلم الشمل الإسلامي الذي ذهب متبعثرًا على سفرة المؤامرات والدسائس المرتصدة، لأن الدواهي قد شرقتهم وغربتهم، فما إن لاحت أمام هؤلاء “الآبقين” هذه القوة الناشئة التي ترفع راية إسلامية، وتحتضن القرآن والوحي والرسالة، وقد تبلورت في تاريخها عديد من المسالك الصوفية التي ألقت زمامًا عاليًا على قلوب الشعب التركي، فابن عربي وجلال الدين الرومي نجمان متألقان في سماء تركيا الأبية.
فالعلاقة بين تركيا والعرب تاريخ طويل يمتد إلى القرون، حيث قامت تركيا بحكم الأراضي العربية وامتلاك أعنتهم، بل وقف العرب معهم في محاربة الصين، وفي الخلافة العباسية حاز الأتراك على مناصب راقية في الجنود والبلاط، لأن عضلتهم كانت قوية وتضحيتهم كانت وفية، وأيام الحملة الشيعية على بغداد استنصر الخليفة العباسية بالسلطان السلجوقي طغرل بك حتى نصره وانتصر على الشيعة، ثم ورث الأتراك السلاجقة فأصبحوا يحتلون بلاد العرب ويسيطرون عليها غير الإفريقيا الشمالي.
ومن هنا حصلت السلطنة على شعبية واسعة وهالة بين العرب والعجم، وأقبل علماء من العرب والعجم يهنئون ويرحبون بالخلافة، منهم العالم المصري عبد الوهاب الشعراني حين انطلق قائلاً: “العثمانية وجنودها فقط بناة المجد والدين”، والعالم الدمشقي عبد الغاني النابلسي قال مرة: “الأرض يرثها عبادي الصالحون”، وانضم معها جميع الحركات الإسلامية ورأوا فيها ريادة وسيادة توحد كلمة الأمة.
ولأجل هذا التضامن والتعاطف بكت الهند وأنت حين دمرت عروش الخلافة ونفخت في بلاطها أبواق الغربنة والعلمانية السراب، بل الأتراك أيضًا عانقوا أخوانهم من العرب وشرفوا لأرومتهم العريقة وأصالتهم العتيقة النبوية الخالدة ولم يعاملوا المناطق العربية كالمستعمرات بل مساقط رأسهم الأصلية.