أدى العالم الحديث إلى خلق أنواع مختلفة من القلق والخوف والاضطرابات النفسية عند الإنسان والتي لم تعرفها الأجيال السابقة، فالثقافة المنفتحة والمتشابكة بالإضافة إلى الإدمان المتزايد على مواقع التواصل الاجتماعي، جعلت الإنسان يعيد ترتيب عواطفه واحتياجاته النفسية والعقلية وفقًا للعالم الخارجي حوله، بعيدًا عن مركز ذاته ونفسه.
يُعرّف الخوف من فوات الشيء بأنه حالة عامة تدفع الشخص إلى الرغبة في أن يكون على اتصال دائم مع من يعرفهم خوفًا من فوات حدث أو تجربة ما لا يُشاركهم فيها
انتشر مصطلح “الخوف من فوات الشيء” أو “Fear of Missin Out” الذي يُعرف اختصارًا بـFOMO عام 2004 بعد أن كتب باتريك ماكجينيس مقالًا في مجلة هاربوس التابعة لكلية هارفرد للأعمال استخدمه فيه، ثم أُضيفت الكلمة إلى قاموس أكسفورد الإنجليزي عام 2013، وبالتالي استطاع هذا الاختصار الذكي صياغة الشعور بالقلق الذي يمكن أن ينشأ عن تفكيرك بأن هناك ثمة احتمالات أكثر إثارة تحدث في أماكن أخرى.
وفقًا لإحدى الدراسات الحديثة يُعرّف مصطلح “الخوف من فوات الشيء” بأنه “الشعور غير المستقر والمستهلك أحيانًا من أن تفوّت ما يقوم به زملاؤك أو معارفك، أو الخوف من عدم معرفة ذلك، أو الخوف من تمتعهم بشيء ما أفضل مما لديك”، وبكلمات أخرى هو حالة عامة تدفع الشخص إلى الرغبة في أن يكون على اتصال دائم مع من يعرفهم خوفًا من فوات حدث أو تجربة ما لا يُشاركهم فيها، ووفقًا للدراسة فثلاثة أرباع الشباب معرضون لهذا النوع من القلق.
وقد ساعدت مواقع التواصل الاجتماعية المتعددة الفرد للوصول إلى أشكال وفيرة متزايدة من المعلومات الاجتماعية عن أصدقائه وزملائه ومعارفه، فيما يخص الأنشطة والأحداث التي يقومون بها ويتفاعلون معها بالكتابة في تلك المواقع، مما أدى إلى نشوء تغييرات كبيرة في طريقة تنظيم عواطفنا وانفعالاتنا وردات فعلنا تجاه الأشياء والأشخاص من حولنا.
يرتبط المستوى المنخفض من الرضا عن الذات وتقديرها بالخوف من فوات الشيء والقلق الناجم عنه
الحاجة للتواصل والخوف من الاستثناء: دائرة مغلقة يحكمها القلق
توفر نظرية “التحديد الذاتي” منظورًا مهمًا ومفيدًا نستطيع من خلاله رسم إطار عام لفهم الخوف من فوات الشيء والقلق الناجم عنه، وهي نظرية تشرح دافعية الأفراد للقيام بأفعالهم وسلوكياتهم من خلال دراسة حاجاتهم النفسية والفطرية.
وتفترض أن الدوافع الداخلية الصحية للفرد تعتمد على 3 حاجات أساسية هي: الكفاءة أو القدرة على العمل بفعالية ممكنة، وحرية الاختيار الذاتي أو مسؤولية الفرد عن قراراته وسلوكياته الخاصة، والارتباط مع الآخرين، واستيفاء أو إشباع هذه الحاجات الـ3 يؤدي بدوره إلى خلق شعور الفرد بالرضا عن ذاته حيال ما يفعله أو ما يقوم به، وأي نقص في مستوى الإشباع يجعله يبحث عن سبل أخرى لإشباعها أو قد يؤدي لخلق مشاكل صحية واضطرابات نفسية في حال لم يتم إشباعها.
يلجأ الفرد لتعويض النقص في حاجته للارتباط مع الآخرين عن طريق استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يخلق عنده قلقًا من نوع آخر وهو الناجم عن خوفه من استثنائه واستبعاده عن المجموعة أو المجموعات التي ينتمي إليها
وبالنظر إلى تلك النظرية، قد يرتبط المستوى المنخفض من الرضا عن الذات وتقديرها بالخوف من فوات الشيء والقلق الناجم عنه، فقد يميل الأفراد ذوو المستويات المنخفضة في رضاهم عن ذواتهم وتقديرهم لها إلى خلق حاجة أساسية في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرين إياها موردًا جيدًا للتواصل مع الآخرين، وظنًا منهم أنها أداة فعالة لتطوير كفاءتهم الاجتماعية ووسيلة ممكنة لتعميق روابطهم مع الغير.
إذن فقد يلجأ الفرد لتعويض النقص في حاجته الأساسية للارتباط مع الآخرين عن طريق استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يخلق عنده قلقًا من نوع آخر وهو الناجم عن خوفه من استثنائه واستبعاده عن المجموعة أو المجموعات التي ينتمي إليها، والناتج من معرفته ومتابعته لأخبار تلك المجموعات وتحديثاتها بين الفينة والأخرى، وبكلماتٍ أخرى قد يكون الخوف من فوات الشيء ما هو إلا ناتج اعتباطي في طريقنا لإشباع حاجة نفسية أساسية.
المشكلة تكمن في أن الفرد يضع ذاته في دائرة مغلقة تسير حول رغبته في إشباع حاجته بالتواصل مع الآخرين والارتباط بهم، وخوفه من فقدان ذلك، ونظرًا لأن تلك المواقع لا تجعله قادرًا على التواصل الحقيقي وإشباع حاجته، فبالتالي سيبقى محكومًا بذلك الخوف الذي يتطور مع الوقت إلى نوع من القلق القهري والاكتئاب وانخفاض احترام الذات وتقديرها والشعور بالاستبعاد وعدم الانتماء وانخفاض رفاهيته العامة بالحياة.
يؤمن الفرد الخائف من فوات الشيء بفكرة أن ثمة مركز ما أو مكان ما حيث تكون الأشياء فيه أكثر إثارة ومتعة من المكان الذي يوجد فيه، فهو سيكون سعيدًا لو كان في ذلك اللقاء، ووقته سيكون أكثر متعة فيما لو كان بين أولئك الأشخاص
كيف يفكر الخائف من فوات الشيء؟
يؤمن الفرد الخائف من فوات الشيء بفكرة أن ثمة مركز ما أو مكان ما حيث تكون الأشياء فيه أكثر إثارة ومتعة من المكان الذي يوجد فيه، فهو سيكون سعيدًا لو كان في ذلك اللقاء، ووقته سيكون أكثر متعة فيما لو كان بين أولئك الأشخاص، وعطلته ستكون أكثر إثارة لو قضاها في تلك المدينة، وبالتالي يعمل عقله على إقناعه بأن كل ما بين يديه في هذه اللحظة الآنية لا يتعدى كونه مملًا وغير جالب للرضا، وإنما ثمة ما هو أفضل له في مكانٍ آخر وبين أشخاص آخرين.
أدت وفرة الخيارات المتاحة أمام الفرد إلى تحفيز شعور الخوف من فوات الشيء عنده، إذ يصبح راغبًا بتجربة أكبر عدد من تلك الخيارات، التي قد تكون في الوقت نفسه غير مناسبة له أو لا معنى لها ولا طائل منها
ومن خوفه ذلك – الذي ينتج عنه إدمانه المتزايد لفحص حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي – يدخل الفرد في دوامة المقارنة الاجتماعية السلبية والتي تصبح في مرحلة متقدمة مدمرة للذات، نظرًا لأنّ الفرد يضع ذاته دومًا في مستوى أقل أو أدنى من غيره، وبالتالي يصبح كل ما يفعله وما يقوم به أقل من اللازم ولا يشبع رضاه عن نفسه وتقديره لها.
لا يمكن النظر إلى الخوف من فوات الشيء أو الخوف من الاستثناء إلا إنه مشكلة حقيقية تعترض الجيل الحالي الذي يتميز عن سابقه بتعدد الخيارات المتاحة أمامه، أو اعتقاده بذلك على أقل تقدير، وبالتالي يصبح الفرد راغبًا بتجربة أكبر عدد من تلك الخيارات، التي قد تكون في الوقت نفسه غير مناسبة له أو لا معنى لها ولا طائل منها، ما يجعل نظرته للأشياء والعالم لا تستند على واقع التجربة، وإنما على التجربة المتخيلة.
ولو نظرنا إلى أنفسنا لأدركنا أننا بطريقة أو بأخرى وبلحظة أو بأختها، وقعنا ضحية لهذا الخوف والقلق جراء استهلاكنا غير المنظم لتلك المواقع واستغراقنا في معرفة ما يدور بحياة مستخدميها ومعارفنا من خلالها، التخلص من هذا النوع من الخوف يبدأ بإدراكك بأن كل التفاصيل المتعلقة به ما هي إلا محض أوهام لا تخرج من كونها احتمالات متخيلة، فليس هناك ما يمكن اعتباره أفضل من واقعك أو ما ستخسره في حال فوّتَ تجربة معينة.
كل تجربة في الحياة لها تكاليفها الباهظة المرتبطة بها، ومن الطبيعي أن ترغب أحيانًا بالخروج منها والبحث عن غيرها في زمان ومكان آخرين، إلا أن هذا لا يعني أنك ستفتقد شيئًا من تفويتك فرصة كونك مع أو في ما يتخيله عقلك، من اجتماع أو لقاء أو مدينة أو شخص آخر.
وقد تكون نصيحة تخليك أو تقليلك لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي مستهلكة يتم تداولها بشكل كبير، لكنها تشكل جزءًا من الحل الجذري للمشكلة، فكلما ابتعدت عن تلك المواقع زاد ارتباطك بواقعك ورضاك عن تجاربك المركزية الخاصة، وقل مستوى مقارنتك لنفسك بالآخرين وحياتك بحيواتهم وتجاربك وبتجاربهم.