فتحت الثورة السورية المجال العام لظهور مكونات عرقية في المشهد السياسي السوري، ومثّلت فرصة تاريخية فريدة لتلك المكونات لتصدح بأصواتها وتطالب ببعض المكاسب والحقوق السياسية التي تراها محقة، بعد التغييب الممنهج الذي فرضه حزب البعث عقب انقلابه على السلطة عام 1963.
طوال العقود التي تلت انقلاب البعث، ثم انقلاب حافظ الأسد وتوريثه ابنه بشار الحكم في سوريا، تم تحجيم وتهميش دور المكونات السياسية من أحزاب ونقابات وتيارات، وحُرمت الفئات المجتمعية السورية من التعبير عن نفسها عبر السبل الديمقراطية.
وقد حوّلت الثورة السورية مجرى الحياة السياسية إلى منعطف آخر مثّل بداية حقبة سياسية جديدة لبعض المكونات والعرقيات مثل التركمان، وفرصة لمكونات عرقية أخرى استغلتها للتعبير عن نفسها ووجودها السياسي والتنظيمي، كالأكراد والسريان الآشوريين، واختلفت طرق تعبير تلك المكونات عن أنفسها وفقًا لأهدافها ورؤاها السياسية وارتباطاتها الإقليمية والدولية.
لكن تجربة الحركة السياسية الكردية التي شهدت انتكاسات ومطبات عديدة نتيجة عوامل محلية وإقليمية خارجية، تحظى بأهمية معتبرة على الساحة السياسية السورية، سواء بالنظر إلى أهمية القضية الكردية وعمق تأثيرها على الإطار الوطني السوري الجامع ومسار الحل السياسي، أم بالنظر إلى حجم المكون الكردي كثاني أكبر مجموعة عرقية في سوريا بعد العرب، أم بالنظر إلى عدد التشكيلات السياسية الكردية التي قسمت الشارع الكردي قبل الثورة وبعدها، ما بين علماني وقومي ويساري وإسلامي.
الحركة السياسية الكردية قبل الثورة
طغت الخلافات والانشقاقات على مسيرة الحركة السياسية الكردية منذ تشكيل الحزب الديمقراطي الكردستاني عام 1957، أول حزب كردي سوري، الذي وضع تحرير وتوحيد كردستان على سُلّم أولوياته، لتبدأ الانشقاقات بعد اعتقال معظم قياديي الحزب، بالتزامن مع ظهور بعض الخلافات بشأن أهداف الحزب وشعاراته، بين من تمسّكَ بهدف تحرير وتوحيد كردستان، ومن تراجع عن هذا الهدف مكتفيًا بالمطالبة ببعض الحقوق الثقافية والسياسية للأكراد السوريين، بعد خروج قادته من السجن عام 1961.
الخلاف بين اليمين واليسار الكردي في تلك الحقبة، قسّم الحركة السياسية الكردية، وأذن بخروج أحزاب أخرى إلى الساحة، خاصة مع تصاعد وتيرة الخلافات مع ارتباط اليمين الكردي بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني، وارتباط اليسار بالحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البرزاني.
بقيت حالة الاصطفاف والتجاذب السياسي هي المسيطرة على مسيرة الحركة الكردية طيلة الحقبة الماضية، وعمّق الخلاف بين مختلف الأحزاب الكردية ارتباطها بأطراف إقليمية ودولية، إذ وُظِّفت المسألة الكردية كأداة سياسية بيد تلك الأطراف وحساباتها الخاصة.
فتوسّعت هوة الانقسامات في صفوف الحركة السياسية الكردية مع جنوح بعض المكونات الكردية إلى تمتين العلاقة والتقارُب مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي بعد تأسيسه عام 1978، ودخوله في حرب مفتوحة ضد تركيا عام 1984، بعد أن احتضنه نظام الأسد وفتح المجال أمامه للعمل بحرية تامة على الأراضي السورية، بينما أبقت المكونات الأخرى على خيط متين يربطها بالحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان يرأسه مسعود بارزاني، المقرب من أنقرة، والذي يُعتبر العدو اللدود لحزب العمال الكردستاني برئاسة عبد الله أوجلان.
الثورة السورية توسع دائرة الخلافات الكردية
انتفض الشارع الكردي سريعًا مع بداية الثورة السورية، وشارك بقوة في الحراك المناهض لنظام الأسد، وكان جزءًا لا يتجزأ من الحراك الثوري العام، وهو ما اختزله أيامها هتافات المتظاهرين الكرد “الشعب السوري واحد”، وشعارات التضامن مع باقي المحافظات السورية.
في تلك الأثناء شهد الحراك السياسي الكردي محاولات تشكيل تمثيل سياسي جامع للكرد في سوريا، ينهي حالة التشرذم الممتد منذ ستينيات القرن الماضي، ويجمع القوى الكردية ضمن جسم سياسي يوحد موقف الأكراد للتعاطي مع المتغيرات المتسارعة التي أفرزها الملف السوري، لا سيما فيما يتعلق بشكل الحكم وموقع القضية الكردية في سوريا المستقبل.
كانت بداية هذا الحراك مع إعلان عدد من الأحزاب الكردية عن “مبادرة أحزاب الحركة الوطنية الكردية” التي نادت بحل القضية القومية للشعب الكردي والاعتراف الدستوري بوجوده القومي كمكوّن رئيسي في البلاد، وإزالة المشاريع العنصرية تجاه الكرد التي عززها حزب البعث، ونتج عنها لاحقًا تأسيس المجلس الوطني الكردي في أربيل بالعراق، برعاية رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، والذي ضم عددًا من الأحزاب الكردية إلى جانب الحراك الشبابي الثوري الكردي من تنسيقيات ومجتمع مدني وشخصيات عامة وفعاليات اجتماعية ومدنية.
حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي شكل امتدادًا تنظيميًا وسياسيًا وفكريًا لحزب العمال الكردستاني (PKK) في سوريا، لم يشارك في المؤتمر التأسيسي للمجلس، وبادر سريعًا بتشكيل “مجلس الشعب لغربي كردستان”، كجسم سياسي منافس للمجلس الوطني الكردي، ليقوم بعدها بسلسلة إجراءات قمعية لإخضاع الشارع الكردي ومحاولة الاستفراد به سياسيًا وعسكريًا، ثم الإعلان عن مشروع حكم ذاتي عام 2016، في مناطق شمال شرق سوريا التي سيطر عليها عسكريًا، بعد قمع باقي الأحزاب والتيارات السياسية الكردية الأخرى وإضعافها، ونفي الكثير من قياداتها، وعلى رأسهم رئيس المجلس الوطني الكردي إبراهيم برو، الذي أدى نفيه عام 2016 إلى إيقاف شبه كامل لنشاط المجلس في سوريا.
طالب المجلس الوطني الكردي منذ تأسيسه بتحقيق اللامركزية السياسية، التي تعني حكمًا ذاتيًا للأكراد في سياق وحدة الأراضي السورية، ونادى ببناء دولة فدرالية ذات نظام ديمقراطي برلماني تعددي ضمن الحقوق القومية للشعب الكردي، لكنه أكد على ضرورة بناء توافق وطني مع قوى المعارضة السورية الأخرى عند اتخاذ أي خطوات إدارية أو سياسية، وتبنّى رسميًا قوات البيشمركة “روجافا” ذراعًا عسكريًا للمجلس في يونيو/حزيران عام 2015.
عمومًا، يختلف خطاب المجلس الوطني عن خطاب حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في الرؤية تجاه الثورة السورية والقومية الكردية وحتى الموقف من نظام الأسد، الذي حكمت حزب (PYD) تفاهمات أمنية عديدة معه.
فمنذ الأيام الأولى للثورة، حاول (PYD) الاستحواذ على الشارع الكردي سياسيًا وعسكريًا، ومن ثم سارع إلى تطبيق مشروعه السياسي الأيديولوجي عبر الإدارة الذاتية، بعد إقصاء منافسيه ورفضه أي تشاركية حقيقية مع القوى الكردية الأخرى، وفرض سيطرته الأمنية والعسكرية على أحزاب المجلس الوطني الكردي وعلى مفاصل الحياة الاجتماعية الكردية، معتمدًا سياسة الاعتقالات والتخوين.
فشلت كل جهود التعاون والعمل بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وانتهت محاولات تقريب وجهات النظر مع فشل الاتفاقيات والتفاهمات التي بُنيت بين الطرفين لتوحدهما ضمن كتلة سياسية واحدة، وأهمها “إعلان هولير” الذي كان محاولة جادة لتوحيد المجلس الوطني مع مجلس الشعب لغرب كردستان ضمن المجلس الكردي الأعلى.
من جهة أخرى جمعت المجلس الوطني الكردي علاقات متوترة وحالة من عدم التوافق مع المجلس الوطني السوري، وقبلها مع هيئة التنسيق الوطنية للتغير الديمقراطي، فقد رفض المجلس الوطني السوري حينها المطلب الكردي بتحقيق اللامركزية السياسية، وأكد التزامه المستمر باللامركزية الإدارية، الأمر الذي يتحفظ عليه المجلس الوطني الكردي.
لم يغنِ الاتفاق عن انضمام المجلس الوطني الكردي إلى الائتلاف الوطني الكردي في أغسطس/آب عام 2013 من وجود بعض النقاط الخلافية العالقة المستمرة بين الطرفين المتعلقة أساسًا ببعض الأفكار الجوهرية، لا سيما بشأن شكل الدولة والحكم في حال سقوط الأسد، وإصرار المجلس الوطني على الفيدرالية، وتحفظه على اعتماد نظام اللامركزية الإدارية، مشددًا في أكثر من مناسبة أن أفضل صيغة للدولة السورية تتمثل بدولة اتحادية.
في الختام، يستأثر القطبان الكرديان الممثلان بالمجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي بالساحة السياسية الكردية، ويختلفان في عدد من القضايا الجوهرية حول تعاطي الكرد مع الثورة ومع شكل الحكم في سوريا المستقبل، فمن جهة يطالب المجلس بفيدرالية قومية للكرد وفق نموذج إقليم كردستان العراق بقيادة مسعود برزاني، بما يحتويه النموذج من تجربة سياسية وعلاقات خارجية جيدة مع المحيط، لا سيما مع الجار التركي.
في مقابل تبنى حزب (PYD) عبر شعاراته ورؤيته السياسية والإيديولوجية وطبيعة تحالفاته رؤى ونموذج حزب العمال الكردستاني الانفصالي، الذي يجمعه به علاقات تبعية واضحة، خاصة أن عددًا من قياداته في سوريا أجنبية قادمة من جبال قنديل، بما يجعل مشروعه بكامله رهين أجندات خارجية لا تمثل رؤى وتطلعات الكرد السوريين.