عاود اسم رجل الأعمال التركي الإيراني رضا ضراب، ليفرض نفسه مجددًا على بورصة الأخبار خلال الأيام الأخيرة، بعد التفاصيل المثيرة التي تضمنتها شهادته أمام محكمة مانهاتن الأمريكية الأسبوع الماضي، في القضية التي تعود أحداثها لعامي 2012 و2013.
شهادة ضراب الموقوف في ميامي منذ مارس/ آذار 2016 بتهمة القيام بعمليات من شأنها خرق العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، حملت مزاعم تشير إلى تورط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في هذا الملف، ورغم نفي أنقرة لمثل هذه الادعاءات، فإنها أثارت العديد من التساؤلات عن الدوافع الحقيقية وراء الزج باسم أردوغان في هذه القضية، خاصة أن لجوء رجل الأعمال الموقوف للإدلاء بشهادته في هذا التوقيت بعد أكثر من عام ونصف على حبسه يثير الكثير من الشكوك عن صفقة ما بينه وبين مسؤولين أمريكيين.
تفاصيل مثيرة
كشف ضراب أنه في الفترة ما بين مارس/آذار 2012 وحتى مارس /آذار 2013 دفع ما يقرب من 50 مليون يورو في صورة رشاوى لوزير الاقتصاد التركي السابق ظافر شاجليان، من أجل السماح له بالقيام بدور الوسيط في بعض المجالات التجارية الإقليمية، وهو ما أهله لقيادة تجارة تسمح لإيران بضخ عشرات المليارات من الدولارات من عائدات المحروقات في النظام المصرفي الدولي عبر البنك الحكومي التركي “هلك بنك”، وذلك رغم العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران التي تحظر التعامل التجاري معها بأي صورة كانت، وذلك خلال شهادته أمام محكمة مانهاتن بالولايات المتحدة الأسبوع الماضي.
رجل الأعمال التركي الإيراني قال أيضًا في شهادته التي استمرت ثلاثة أيام إن أردوغان أصدر – حين كان رئيسًا للحكومة -، تعليمات، من أجل مشاركة مصرفين تركيين آخرين تابعين للحكومة في هذه العمليات، مما يعني أنه كان على علم بعمليات الالتفاف على العقوبات المفروضة على طهران، هذا بخلاف منحه تبرعات لجمعية “توجيم” الخيرية التعليمية التي يقول الادعاء الأمريكي إنها تابعة لأسرة أرودغان، وهو ما نفاه الرئيس التركي جملة وتفصيلا كما سيرد لاحقًا.
الشهادة المدعومة ببعض الاتصالات الهاتفية والرسائل الإلكترونية كشفت كذلك تورط شركات إماراتية وإيرانية بجانب أخرى تركية مكونة شبكة واسعة متخصصة في هذه العمليات، تم تدشينها – في جزء كبير منها – بفضل الاتصالات بين حكومتي أنقرة وطهران، بحسب ضراب الذي اعترف بسبعة من التهم الموجهة إليه.
وردًا على تلك الاتهامات أمر مدعي عام إسطنبول الجمعة الماضية الثاني من ديسمبر2017 بمصادرة ممتلكات رجل الأعمال التركي الإيراني وعائلته، تمهيدًا لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد المزاعم التي أوردها في شهادته خاصة بعدما نفاها الرئيس أردوغان ووصفها بأنها “مؤامرة سياسية”.
الدوافع الخفية التي أشار الرئيس التركي إلى وجودها خلف كواليس اتهام الادعاء الأمريكي، كشف بعض ملامحها من خلال اتهامه لمسؤولين أمريكيين بدعم حركة “فتح الله غولن” الإرهابية
رفض تسليم غولن يبقي التوتر التركي الأمريكي مشتعلاً
خرق الحظر
لعب رضا ضراب رجل الأعمال التركي المنحدر من أصول إيرانية البالغ من العمر 33 عامًا، دورًا محوريًا في انتهاك الحصار الاقتصادي الذي فرضته أمريكا على إيران منذ ما يزيد على 22 عامًا، وذلك حين التف على هذا الحظر من خلال بعض العمليات التجارية عن طريق الإمارات العربية المتحدة.
رجل الأعمال التركي والحامل لجواز سفر إيراني اشتهر خلال الفترة من 2012 وحتى 2013 بإدارة بعض العمليات التي كانت تقوم على شراء عشرات الأطنان من الذهب من تركيا بمئات الملايين من الدولارات ثم الانتقال بها إلى دبي، ومن ثم يتم شحن الذهب إلى إيران بطرق مختلفة عبر سفن تعبر الخليج العربي.
في تقرير لـ”نون بوست” كشف أن الكميات التي كان يتم شحنها ضخمة للغاية حيث تشير بيانات تجارية رسمية تركية إلى أنه تم إرسال ذهب بنحو ملياري دولار إلى دبي في أغسطس/آب 2016 وتساعد تلك الشحنات إيران على إدارة وضع ماليتها العامة في مواجهة العقوبات الغربية المفروضة على طهران التي منعت إيران من الوصول إلى النظام المصرفي العالمي مما صعب عليها إجراءات تحويلات مالية دولية.
من المعروف أن إيران تبيع النفط والغاز لتركيا غير أنه ووفق العقوبات المفروضة على طهران لا يمكن سداد مدفوعاتها بالدولار أو اليورو، ومن ثم كانت تحصل على قيمة تلك الشحنات بالليرة التركي، وعليه كان ضراب ومجموعة من المناديب يشترون كميات من الذهب بالليرة التركي ثم يعبرون به إلى دبي ومنه إلى إيران.
رجل الأعمال التركي الإيراني قال أيضًا في شهادته التي استمرت ثلاثة أيام إن أردوغان أصدر – حين كان رئيسًا للحكومة -، تعليمات، من أجل مشاركة مصرفين تركيين آخرين تابعين للحكومة في هذه العمليات
في نهاية 2012 فتحت السلطات التركية تحقيقًا مع ضراب على خلفية الكشف عن حملة ذهب في طريقها لإيران، وهو المتهم الرئيس بها بحسب الوثائق السرية المتعلقة بمناقصات حكومية ومؤسسات اقتصادية تركية التي تم الكشف عنها، غير أنه في فبراير 2014 قررت محكمة في إسطنبول تبرئته، لتسقط جميع التهم المنسوبة إليه بعد ذلك.
في مارس 2016 وخلال جولة سياحية لرجل الأعمال التركي الإيراني وعائلته في فولاية فلوريدا الأمريكية، وبسبب إدلائه بتصريحات خاطئة عن كمية المبلغ الذي بحوزته، تبين أنه يحمل 103 آلاف دولار بينما المسموح 10 آلاف دولار، فقد تم تحويله إلى فرع الجمارك ليتم تفتيش أمتعته بدقة أكثر ويسأل عن سبب حيازته المبلغ.
التحقيقات فيما بعد كشفت عن عملياته التجارية التي حاول من خلالها خرق الحظر المفروض على إيران، وهو ما كشفته السلطات الأمريكية من خلال المراسلات التي كانت بينه وبين حاكم المصرف المركزي الإيراني، فضلاً عن الكشف عن عدد من الشركات الوهمية في تركيا ودبي مصر ولبنان التي كان يستخدمها لنقل كميات نقد إلى المركزي الإيراني تعدت المياري دولار مقابل حصوله على عمولة من إيران، كما تم ضبط حمولة ذهب تقدر بـ1.5 طن على متن طائرة تعود له وصلت لإسطنبول من غانا قبل أن تتوجه إلى إيران.
مؤامرة سياسية
فند الرئيس التركي الاتهامات التي ساقها ضراب والادعاء الأمريكي في آن واحد، مشيرًا إلى أن جهات التحقيق الأمريكية تحاولة توريطه بمسألة الربط بين أفراد أسرته وجمعية “توجيم” التي يدعي رجل الأعمال الموقوف أنه قدم لها تبرعات، قائلاً إنهم لا يطبقون القانون بل يتتبعون شبكة علاقات، من المثير للاهتمام أن عريضة الاتهام تشير إلى تأسيس زوجتي لتوجيم وعلاقاتي بهذه الجمعية زوجتي وأنا لسنا من مؤسسي هذه الجمعية”.
أردوغان نقل قلقه كذلك مما وصفه بـ”دوافع خفية” وراء هذا الاتهام، لنائب الرئيس الأمريكي جون بايدن، وذلك خلال لقاء جمعه به في نيويورك على هامش مشاركة أرودغان في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة سبتمبر الماضي، حسبما نقلت قناة (إن. تي. في) التركية.
الدوافع الخفية التي أشار الرئيس التركي إلى وجودها خلف كواليس اتهام الادعاء الأمريكي، كشف عن بعض ملامحها من خلال اتهامه لمسؤولين أمريكيين بدعم حركة “فتح الله غولن” الإرهابية المتورطة في تدبير محاولة الانقلاب الفاشلة يوليو الماضي، معتبرًا هذا الادعاء “مؤامرة سياسية” من قبل أنصار غولن المدعومين من بعض الشخصيات الأمريكية.
علاوة على ذلك فقد اتهم بعض المسؤولين في وزارة العدل الأمريكية ممن يعلمون على قضية ضراب بالسفر إلى تركيا كضيوف على حركة “غولن” وهو ما يثير الشكوك، موضحًا أنه أخبر بايدن بذلك، الذي بدوره قال إنه ليس على علم بهذه الزيارات.
البعض يذهب إلى وجود صفقة غير معلنة بين السلطات الأمريكية ورجل الأعمال التركي، يتحول بها الأخير من متهم إلى شاهد في مقابل الزج باسم أردوغان في هذه القضية، في محاولة لإحراجه وتوجيه الاتهامات له كنوع من الضغط الممارس عليه في إطار صراع النفوذ بين أنقرة وواشنطن في عدد من ملفات الشرق الأوسط.
أردوغان عبر لبايدن عن قلقه مما وصفه بـ”دوافع خفية” وراء الادعاء الأمريكي
مزيد من التوتر
تشهد العلاقات بين أنقرة وواشنطن خلال الآونة الأخيرة موجات متلاطمة من المد والجذر، إثر تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات التي انعكست بشكل أو بآخر على العلاقات المباشرة بين البلدين، وهو ما تجسد مؤخرًا في قيام كل من السلطتين، التركية والأمريكية، بتوقيف عدد من مواطني البلدين.
مذكرة الاعتقال التي أصدرتها السلطات الأمريكية بحق بعض المواطنين الأتراك بما فيهم 19 من حراس أمن الرئيس التركي، مايو الماضي، على خلفية المناوشات التي وقعت أمام مقر إقامة السفير التركي في واشنطن، بين حراس الرئيس ومعارضيه، عكرت الأجواء بين البلدين بصورة كبيرة، مما دفع البعثة الدبلوماسية الأمريكية في تركيا إلى تعليق خدمات منح تأشيرات الدخول للأتراك، وهو ما ردت عليه تركيا بالمثل.
ويمثل إصرار الجانب الأمريكي على عدم تسليم فتح الله غولن للسلطات التركية رغم الاتهامات الموجهة إليه من جهات الادعاء التركية أحد بواعث هذا التوتر، بخلاف قلق واشنطن الواضح من التحالفات التي تدشنها أنقرة مع كل من موسكو وطهران، ما من شأنه زيادة قدراتها الدفاعية والعسكرية والاقتصادية في آن واحد.
ولعل تصريحات رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال دانفورد، تعليقًا على اتفاقية شراء تركيا لمنظومة “إس-400” من روسيا تجسد هذا القلق، وهو ما كشفه دانفورد بقوله: “شراء تركيا لهذه المنظومة أمر مقلق”.
تجاوز تركيا وإيران للخلافات السياسية بينهما والدفع بمزيد من التقارب الاقتصادي، بخلاف ما يثار بشأن تدشين تحالفات اقتصادية كبرى مع دخول التنين الصيني والدب الروسي على الخط بات يمثل قلقًا كبيرًا للولايات المتحدة وأوروبا
تقارب تركي إيراني
بعد رفع العقوبات الأمريكية الأوروبية عن طهران في أعقاب توقيع الاتفاق النووي في 2015، أخذت العلاقات الاقتصادية التركية الإيرانية شكلاً جديدًا، تجسدت في زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإيران، على رأس وفد اقتصادي في أبريل/نيسان 2016، لحضور جلسات مجلس التعاون التركي الإيراني وتوقيع اتفاقات مشتركة في مجالات الطاقة والاستثمار والسياحة بقيمة 10 مليارات دولار، والاتفاق على تزويد إيران لتركيا بالبترول مقابل أن تقوم تركيا بإعادة تأهيل سكة حديد خط إرماق -كرابوك، والذي تقدر تكلفته بثمانين مليون يورو.
ولم تتأثر العلاقات الاقتصادية بيت البلدين حتى خلال الحظر الاقتصادي والعقوبات على إيران، بل على العكس، إذ كانت تركيا المنفذ الوحيد لطهران رغم تأرجح العلاقات السياسية وقتذاك، بشأن الملفات الإقليمية، وأهمها العراق وسورية، وهو ما تقره الأرقام المعلنة بشأن حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي بلغ قرابة 50 مليار دولار، مع توقعات بتضاعف هذا المعدل خلال الفترة القادمة خاصة بعد تأسيس ما يقرب من 160 رجل أعمال تركي لاستثمارات موسعة لهم في طهران.
تجاوز تركيا وإيران للخلافات السياسية بينهما والدفع بمزيد من التقارب الاقتصادي، بخلاف ما يثار بشأن تدشين تحالفات اقتصادية كبرى مع دخول التنين الصيني والدب الروسي على الخط من خلال بعض المشاريع العملاقة على رأسها “مبادرة الحزام والطريق” والبالغ قيمته قرابة 124 مليار دولار، يمثل قلقًا كبيرًا للولايات المتحدة وأوروبا ومهددًا لأحد أكبر الأسواق التي طالما اعتمدت عليها القوتين العظمتين في بناء إمبراطوريتهما الاقتصادية التي تنسحب بدورها على ثقلهما السياسي العالمي.