انتشرت المدارس الأجنبية في الدول العربية مع بداية حركة التبشير -مطلع القرن العشرين- وإضافة إلى مهمة التبشير الديني كانت دول الاستعمار الغربية تستغلها للتعرف على المجتمعات العربية ودراسة أحوالها الاجتماعية والثقافية، ومنذ ذاك الوقت، والشكوك والاتهامات تلاحق هذه المؤسسات الغربية التي تعرضت -أحيانًا- للتحريم على أساس أنها امتداد للاستعمار الفكري والثقافي وهدفها سلخ الطالب العربي عن ثقافته الأم ودينه.
ولكن من جانب آخر، يعتقد البعض أن هذه المدارس كان لها دورًا فعالًا في إنقاذ الطالب العربي من انهيار منظومة التعليم في العالم العربي والتي تفتقر في مناهجها إلى نماذج تعليمية متقدمة، سواء في المواد العلمية أو الأدبية كاللغات أو التنموية التي تهتم بالقدرات الإبداعية، والتي تضمن للطالب حياة مهنية ناجحة مقارنة مع أقرانه في المدارس الحكومية.
وبين هذه المواقف المتضاربة حول هدف هذه المدارس ومدى إيجابية أو سلبية تأثيرها على الثقافة العربية الإسلامية، هناك مجموعة من الأسئلة التي تستفسر حول محتوى مناهج المدارس الأجنبية، وتتساءل إن كانت تؤثر هذه المواد على نظرة الطالب العربي إلى تاريخه وثقافته العربية؟ ولماذا تتجه العائلات إلى تسجيل أبنائهم في هذه المؤسسات الغربية التي لا تمت للغة أو التقاليد العربية بصلة؟
هل تقدم المدارس الأجنبية نظامًا تعليميًا تعجز وزارات التعليم العربية عن منحه؟
تفتقر وزارات التعليم في الوطن العربي إلى التمويل اللازم لتطوير مناهجها التعليمية وكوادرها الأكاديمية، وأدى هذا الافلاس إلى الانغماس في أنماط التدريس التقليدية القائمة على التلقين والحفظ، والتي تجعل مرحلة التعلم مهمة صعبة ومملة في ظروفها الحالية، وهذا ما جعل المدارس الأجنبية الخيار الأول للطلبة.
وبشكل عام، هناك تضاءل في الأموال المخصصة لقطاع التعليم، فمن بين 150 بلدًا، أنفق 41 بلدًا 6% من ميزانيته على التعليم، وأنفق 25 بلدًا أقل من 3% من الناتج القومي الإجمالي وهذا عام 2011.
تعد المدارس البريطانية أكبر التجمعات في الشرق الأوسط، إذ تضم نحو 97 مدرسة موزعة على 13 دولة، ويدرس فيها نحو 95 ألف طالب ويعمل بها 6900 مدرس
وبسبب عجز التعليم الحكومي على طرح تصورات جديدة واستيعاب ثورة المعلومات، تفضل العائلات المدارس الأجنبية التي تقدم خدمة التعليم لأطفالهم بطريقة عصرية وبدرجة أرقى من مستوى المدارس الحكومية، وهذا بالرغم من كل التكاليف التي تدفعها العائلات مقابل ما تقدمه العملية التعليمية في هذه المؤسسات، والتي تعتمد على المشاركة والتفكير النقدي والنقاش الهادف واستخدام المراجع في الأبحاث، التي تحفز الطالب على خوض تجربة تعليمية فريدة.
ومثال على هذه المؤسسات هي مجموعة المدارس البريطانية والتي تعد أكبر التجمعات في الشرق الأوسط، إذ تضم نحو 97 مدرسة موزعة على 13 دولة، ويدرس فيها نحو 95 ألف طالب ويعمل بها 6900 مدرس، وهذا بالتعاون مع 89 مدرسة أخرى في المنطقة، وتتراوح هذه المدارس بين مراحل الحضانة والابتدائية والثانوية.
المدارس الأجنبية منعطف عصري لابد منه
يرى خبير العلاقات الدولية، وأستاذ العلوم الأساسية في جامعة ورقلة، بوحنية قوي، أن وجود مؤسسات تعليم أجنبية في البلدان العربية يعطي صورة عن انفتاح تلك الدول على مؤسسات التعليم الأجنبية، وهو مؤشر أيضًا على درجة التلاقح الثقافي والعلمي الإيجابي.
وهذا يتيح التعلم بأنماط مختلفة ومتطورة من خلال تجربة أساليب التربية والتدريس الجديدة واتباع منهجيات تعليمية على أسس متقدمة عبر الانفتاح على اللغات الأخرى والمهارات الأكاديمية المختلفة.
كما يؤكد الباحث بوحنية على ضرورة إيجاد عناصر التنافس الإيجابي بين المؤسسات الوطنية والأجنبية، معتمدة على سياسات من طرف الدولة الحاضنة لهذه المؤسسات التي يتوجب عليها اعتماد آليات قانونية ودستورية وتشريعية، تجعل هذه المؤسسات لا تتجاوز الخصوصية الثقافية والتعليمية للوطن العربي، للتقيد بإعطاء القيمة الحقيقة لتاريخ المنطقة وتراثها وخصوصيتها التربوية والتعليمية، وبالتالي تفادي النظرة الدونية للخصوصية اللغوية والتعليمية العربية.
اكتساح هذه المنظومة التعليمية لخصوصية الثقافة العربية والتي سوف تؤدي على تشكيل ظواهر جديدة، مثل تنامي الإحساس بفشل منظومة التعليم الوطني، والإحساس بقيمة الشهادات الأجنبية على حساب الشهادات الوطنية، وضعف قدرات التعليم المحلي
أما الجانب السلبي، فهو اكتساح هذه المنظومة التعليمية لخصوصية الثقافة العربية والتي سوف تؤدي على تشكيل ظواهر جديدة، مثل تنامي الإحساس بفشل منظومة التعليم الوطني، والإحساس بقيمة الشهادات الأجنبية على حساب الشهادات الوطنية، وضعف قدرات التعليم المحلي، وفي هذا الحال يتطلب من التعليم الوطني التدخل لرفع من مستواه والاستفادة من الكفاءات الموجودة في مؤسسات التعليم الأجنبي. وهذا بحسب تصريحه على موقع ذوات.
وعند أخذ عصر العولمة بالحسبان، فأن الاتهامات الملاصقة لسمعة هذه المؤسسات الأجنبية قد لا تنجح في الصمود كثيرًا، لأن المتطلبات الحضارية الحالية لا تقبل بالانعزال والاكتفاء بالذات بدافع حماية الهوية من التغريب والتدخلات الثقافية، خاصة أن العالم يمر في مراحل متقدمة من التواصل الاجتماعي والتحاور الحضاري والاختلاط الثقافي والتعايش.
كذلك، شجعت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي العالم على كسر الحواجز الثقافية والاجتماعية بهدف التعرف على الآخر والتوغل في تفاصيل الحياة الاجتماعية، والتي يعتبرها البعض تجربة مهمة في تكوين الذات وبناء الشخصية، وهذا ما تمنحه المدارس الأجنبية للطالب من خلال الاطلاع الواسع على باقي لغات وثقافات العالم.
هل هناك وجود للهوية العربية داخل المدارس الأجنبية؟
يختار البعض المدارس الحكومية لانخفاض تكاليفها وتركيزها على التاريخ والثقافة العربية الإسلامية التي يعتبرونه حجر أساسي في تكوين هوية الفرد وضمان انتمائه لوطنه الأم.
ولا شك أن نظام المدارس الأجنبية الذي يحمل في داخله أساسيات وقيم الثقافة الغربية -الأمريكية والأوروبية- ولا يكون عبارة عن معهد للغات الأجنبية فقط، بل يروج للمنتجات الفكرية الغربية التي تشد الطالب العربي إليها سواء عبر الأحداث التاريخية التي تثير عواطفه حول هذا المجتمع أو من خلال المفاهيم الحديثة مثل الحرية والديمقراطية.
متطلبات سوق العمل الحالية تتناغم بشكل كبير مع اللغة الإنجليزية، لذلك إتقان هذه اللغة هو إنجاز حقيقي للتواصل مع عالم الاقتصاد الجديد، وبالتحديد لمن يرغب بالعمل في الشركات الأجنبية أو السفر إلى الخارج
وتعبيرًا عن الإعجاب وربما الانتماء لهذه الثقافة الجديدة قد يقوم بعض تلاميذ هذه المدارس بالتشبه بالثقافات الغربية وبسلوكهم، وبالمقابل تفشل المدارس الحكومية في جذب الطالب نحوها بسبب كم المعلومات الهائل التي تفرضه عليه دون تعزيز علاقته مع هويته العربية.
أما بالنسبة إلى تحديات اللغة، فإن متطلبات سوق العمل الحالية تتناغم بشكل كبير مع اللغة الإنجليزية، لذلك إتقان هذه اللغة هو إنجاز حقيقي للتواصل مع عالم الاقتصاد الجديد، وبالتحديد لمن يرغب بالعمل في الشركات الأجنبية أو السفر إلى الخارج، وبالتالي تقف اللغة العربية في المؤخرة كونها جزء من الهوية وليس عامل مهم في عملية البناء الحضاري.
وهذا ما نوهت إليه الإعلامية الأردنية، منتهى الرمحي عندما قالت “هناك اغتراب واضح في الجيل الذي يتخرج من المدارس الأجنبية، فهي لا تعرف الكتابة أو القراء باللغة العربية، ولا تعرف الشخصيات العربية الإسلامية البارزة مثل صلاح الدين الأيوبي أو طارق بن زياد”.
وهذه المتطلبات قد تخلق تشوهات في الخلفية الاجتماعية لتلاميذ هذه المدارس، ليس فقط بسبب التفاوت في المستويات التعليمية والمهارات، بل للنظرة الاجتماعية التي تتعامل مع الطرفين بطريقة مختلفة.
المشكلة الحقيقة تكمن في ضآلة التمويل العلمي والحريات الأكاديمية المحدودة والتي يقع ضحيتها أجيال يعيشون في دول مشغولة بقضاياها وصراعاتها السياسية
ومن وجهة نظر بثينة إبراهيم، مؤسسة أكاديمية الإبداع الأمريكية في الكويت، والتي درس أولادها في مدارس أمريكية ويتقنون اللغة العربية بطلاقة، تقول إن “القضية تكمن في البيئة الأولى التي ينشأ فيها الطالب أو الطفل، وهي الأسرة، فالأصالة تأتي من الأسرة، وتعليم اللغة العربية يأتي من الأسرة، والحفاظ على الهوية الإسلامية يأتي من الأسرة” وتشير إلى وجود الكثير من طلاب المدارس الحكومية التي تدرس مناهجها باللغة العربية، إلا أن طلابها لا علاقة لهم بالهوية العربية، وتضيف “هناك مميزات كثيرة في المدارس الأجنبية لازلنا نفتقدها في مناهجنا مثل المواد الإدارية والتكنولوجية والطاقم المتمرس. وهذا ليس انبهارًا بالغرب أو بمنهجه، وإنما اعتراف بمميزات هذه المؤسسات”. وهذا خلال مقابلة على قناة الجزيرة.
وفي ظل هذه المنافسة في مجال التعليم على السيطرة على أفكار الطلاب أو انتماءهم أو حتى أموالهم، فالتعليم الحكومي العربي يحتاج إلى تطوير سياسته للحاق بهذا الموكب الذي تقوده المدارس الخاصة والأجنبية، فالمشكلة الحقيقة تكمن في ضآلة التمويل المادي والحريات الأكاديمية المحدودة والتي يقع ضحيتها أجيال يعيشون في دول مشغولة بقضاياها وصراعاتها السياسية.