مسكين هو اليمن ومن على شاكلته من دول الربيع العربي التي أعيتها المؤامرات، الجميع يسعى إلى مداواتها، ولا دواء! لقد أعيتها حماقات السياسيين في الداخل والخارج.
بعد ثلاث سنوات من انقلاب الحوثيين وصالح، يبدو واضحًا أن التحالف العربي الذي تقوده المملكة السعودية بات مُرحِّبا أيّما ترحيب بعملية الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح الانقلابية على حليفه الثاني في الانقلاب على الشرعية (الحوثيين)، ثم بدت الرياض قائدة التحالف، متحسرة على مقتله.
فما الذي يجعل التحالف يتلقّف تصريحات المخلوع ضد الحوثيين قبل قتله؟ وهل جاءت خطوة صالح عفوية أم كانت مُحكمة التخطيط؟ وأي مستقبل لليمن بعد مقتل صالح وما مصير أعدائه وأصدقائه الجدد؟ وما مصير السلطات الشرعية اليمنية؟
تصدّع في المحور الواحد
لا بد من التذكير أولاً، بسبب التصدّع بين المحور الواحد (بين صالح والحوثي)، وهو الذي وقع بعد تجمع الآلاف من أنصار الله الحوثية في صنعاء يوم الخميس 30 من نوفمبر/ تشرين الثاني المنقضي، بعد يوم من وقوع اشتباكات دامية بين الحوثيين وحليفهم الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح بالقرب من مسجد صالح في العاصمة لتحدث بعدها عمليات اقتتال بين الفريقين، مما أربك التحالف الحوثي الصالحي، وكشف ضعفه وهشاشته، في الوقت الذي تواجه فيه حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي نفس المشكل.
المخلوع فتح صفحة وقلب أخرى على الحوثيين فتنكر لهم، لكن على خلاف ما دار في أغسطس/آب الماضي من خلافات واتهامات بين أنصار الله والمخلوع، فإن الخلافات هذه المرة يبدو أنها لم تعد تسمح برتقها
تتزامن هذه الأحداث مع الذكرى الخمسين لاستقلال اليمن التي تصادف يوم الخميس الماضي، أي يوم الأحداث الدامية وقد اقتصر إحياء الذكرى على بعض الاحتفالات في العاصمة الرسمية والمؤقتة عدن، بينما تركزت احتفالات الحوثي على إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، ومن الصدف أيضًا أن تحيي الإمارات ذكرى استقلالها السادسة والأربعين.
ومهما يكن من أمر، فإن الفأس وقعت في الرأس، والمخلوع فتح صفحة وقلب أخرى على الحوثيين فتنكر لهم، لكن على خلاف ما دار في أغسطس/آب الماضي من خلافات واتهامات بين أنصار الله والمخلوع، فإن الخلافات هذه المرة يبدو أنها لم تعد تسمح برتقها، فالكأس انكسر وجبره لم يعد ممكنًا.
الرياض تتلقف دعوة صالح
تلقفت السعودية في بيان نشرته وكالة أنبائها الرسمية كلمة الرئيس المخلوع علي صالح التي دعا فيها إلى الحوار مع دول الجوار وفتح صفحة جديدة من العلاقات، مشترطًا فتح المجالات البحرية والبرية والجوية ورفع الحصار كاملاً، مباشرة لم تكد تمضي ساعات على كلمة المخلوع وهو ما يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن العملية مرتبة بطريقة أو بأخرى.
لقد فشلت عملية الحزم تمامًا كما فشلت عملية إعادة الأمل، فلم تحسم الرياض ولا تحالفها العشري الذي عرف خروج بعض الحلفاء، إنهاء الانقلابيين ولا إعادة الآمال للشعب المُفقر والمحاصر والمجوع والسجين، حتى أصبح اليمن على شفير مأساة حقيقية موثقة وبشهادة منظمات حقوقية دولية، ووصلت قوات التحالف إلى مأزق حقيقي أمام العالم وأمام شعوبها قبل كل شيء.
الرياض بدورها لم تبد عداءً كبيرًا لصالح، بل حافظت على مسافة للمناورة، فهي التي دعمته قبل الثورة الشعبية وبعدها عندما عالجته من حريق ثوار فبراير، وأوجدت له مخرجًا حافظت به على ماء وجهها وعلى ماء وجهه المحترق
لقد شعرت دول التحالف واليمنيون معها أن كل الحلول قد استنفدت بعد عام من وصول الحوار إلى طريق مسدود وانتهاء الوساطات وبقاء البلاد وشؤون العباد معلقة، ناهيك عن تغذية روح الانفصال، كل ذلك تطلب ضرورة التفكير في حل جذري يُنهي المأساة، لكن ليس أي حل.
ثم هل جاءت المكافآت المالية السعودية للقبض على بعض الوجوه الحوثية فجأة دون سابق إعداد وارتجالاً؟ ومن ينفي علاقة الإمارات بأبناء المخلوع؟ ولكي تخرج بمظهر المنتصر، كان لا بد من حبكة سيناريو أو إبرام صفقة.
من الرئيس “المخلوع” إلى “السابق” إلى “الشهيد”
معلوم أن الإمارات التي تشارك السعودية حربها على الانقلابيين، تحاول جاهدة الانتفاع بالموارد اليمنية الجنوبية كالمواني، كما لم تتنكر يومًا للرئيس المخلوع علي صالح بخلاف ما هو معلن طبعًا، فهي التي تحتضن أبناءه على أرضها، كما أنها قد تُعيّن نجل المخلوع أحمد في منصب مهم مستقبلاً، وقد أكد الحوثيون أن الأوامر تأتي حاليًّا من أبو ظبي والرياض مباشرة إلى المخلوع في صنعاء.
أما الرياض فبدورها لم تبد عداءً كبيرًا لصالح، بل حافظت على مسافة للمناورة، فهي التي دعمته قبل الثورة الشعبية وبعدها عندما عالجته من حريق ثوار فبراير، وأوجدت له مخرجًا حافظت به على ماء وجهها وماء وجهه المحترق، وذلك من خلال المبادرة الخليجية.
كما أن استبدال الإعلام السعودي والإماراتي للفظ “المخلوع” (صالح) إلى الرئيس “السابق” لا يخلو من رمزية ودلالات، لا تخرج عن إطار “وضع الرجل في مكانه المناسب” الذي يليق به كحليف جديد “طوى صفحة الماضي” كما قال، وطالب فقط بفك الحصار! لم يطلب تعويضات ولا إصلاح البنية التي تم استهدافها ولا أعمال إنسانية للمتضررين، إلخ.
هذا التطور الجديد من الواضح أنه جاء بمخطط مسبق ومحدد المعالم وبتنسيق عالٍ، ومن العبث بمكان القول بغير ذلك، فمن شبه المستحيل أن تقتنع أحدًا (مجرّد اقتحام مسجد وحتى سُقُوط قتلى) أنه بمقدورك فك تحالف أو قطع ودّ صديق (لنا في “النيران الصديقة” شواهد يطول ذكرها ويصعب حصرها) أو الإطاحة بمحور ذيله في طهران ورأسه في موسكو.
بهذه الصفقة، ربما كان سيخرج المخلوع بطلاً قوميًا، وستخرج الإمارات والسعودية حازمتين، وتكونا بذلك قد حققتا أهداف التحالف العربي وأعادتا الأمل لليمنيين المعذّبين، لتخرج السعودية متنفسة الصّعداء من المستنقع اليمني الآسن الذي تردت فيه، فأنهك قواها وشتت جهودها، فلا غربة أن تهلل بحرب المخلوع وتسميها “الانتفاضة المباركة “، فهل سيزيد مقتل صالح في تحشيد الدعم للتحالف أم يربك الوضع ويعقده؟
وبمجرد قتل صالح أصبح الأخير زعيمًا وشهيدًا عند دول التحالف وهي التي واصلت التنكر له، فلماذا خذلته السعودية بعد الانقلاب وهي الآن تتباكى عليه؟ ماذا لو أمدته بأموال عاصفة الحزم أو إعادة الأمل؟ ربما كان صالح أزاح الحوثيين وكل أذناب إيران في أشهر! فعلاً أتمنى على السعودية ألا تخوض الحروب مستقبلاً، لم تكن تلك أمنيتي بل كان العقيد الليبي الراحل معمر القذافي الذي مني صالح بمصيره المماثل، قد قالها.
ثم أليس من خذل الثوار وتآمر عليهم في مصر وليبيا وتونس وسوريا، هو الذي لم ينصرهم في اليمن، وعندما انهزم حرك المقتول صالح في صفه لكن دون جدوى، لقد أضاع صالح فرصة الانتصار وأضاعت دول التحالف ذات الفرصة، فوقع المخلوع بين فكي ثعابين لم يحسن ترويضها ووقعت دول التحالف في أمنيات لم تتحق.
لقد أغاظ علي عبد الله صالح أعداءه (ثوارًا وشرعيةً وتحالفًا) وهو على قيد الحياة، وأغاظهم ميتًا لما استهدفه الحوثيون وعندما حول وجهته للتحالف، كما هزم صالح أعداءه في حياته، وهُزموا بعد مقتله، لقد عاش صالح مخلوعًا عندما كان أعداؤه يتمنون موته ومات صالحًا لأنهم أصبحوا يريدون بقاءه.
هادي ومستقبل الشرعية
جدير بنا التساؤل: لماذا وبعد كل تلك الخسائر الحربية والجهود الدبلوماسية الموازية، تعود دول التحالف للتهليل بالمخلوع؟ والأجدر: أين الرئيس الشرعي الذي من أجله استنفرت الشقيقة الكبرى قواها وحتى جيرانها وجيران جيرانها؟
تقريبًا الجميع من أطراف الصراع اليمني ظهر وتكلم في خطب رسمية ومقابلات إعلامية، وحدها الشرعية لا نكاد نسمع لها ركزًا.
صحيح أن التحالف عاد إلى حليفه القديم، صديق الأمس غير البعيد، ضد العدو الحوثي المشترك، لكن ليس بقدر من البساطة يمكن القول قد عاد الدُرّ إلى معدنه، لا غرابة طالما أن “الشرعية” أصبحت رديفة لقوات حزب المؤتمر في وسائل الإعلام الموالية للتحالف، وطالما أن تهم الخيانة أصبحت تلاحق إحدى دول التحالف العربي البارزة بعدما أصروا على إلباسها لدولة أخرجوها من التحالف، قبل أن يفرضوا عليها حصارهم.
بهكذا نهاية لعملية الحزم السعودية، تكون دول التحالف قد خسرت جهودًا مالية وعتادًا ثقيلاً من أجل تثبيت الشرعية وهزيمة الانقلاب، لتعود إليه في النهاية.
ربما كان المخلوع سيخرج بطلاً قوميًا، وستخرج الإمارات والسعودية حازمتين، وتكونا بذلك قد حققتا أهداف التحالف العربي وأعادتا الأمل لليمنيين المعذبين، لتخرج السعودية متنفسة الصّعداء من المستنقع اليمني الآسن الذي تردت فيه
يبدو بالنسبة إلى سياسة ابن سلمان وابن زايد أهم بكثير التضحية بورقة الشرعية مقابل ضمان اصطفاف المراوغ والداهية الماكر المخلوع الذي خبرته جيدًا من قَبل في كهوف صعدة، ومن بعد مع الحوثيين، هذا ما يفسر الأسباب الحقيقة الكامنة وراء استهداف صالح في مقتل.
لقد كان المحمدان السعودي والإماراتي يسعيان في المدى القصير لوقف الحرب وإغلاق هذا الجرح النازف في أقرب وقت لاستنزاف قواتهم في الجنوب بالنسبة لأبو ظبي وعلى الحدود بالنسبة للسعودية، ثم الذهاب إلى خريطة طريق المرجح أنها ستفرض وثيقة الحوار الوطني الموقعة قبل الانقلاب كمكسب حقيقي لليمانيين، أو البناء على خريطة الطريق الأممية.
لكن وقد حصل ما لم يكن في الحسبان فإن الخيارات تقلصت أمام التحالف الذي سيلعب على حبل واحد لاحقًا وهو الدفع والتجييش ضد الحوثيين، وهو ما أشار إليه هادي بعد مقتل صالح، لقد كانت بداية الصراع سهلة، لكن الأصعب الآن حسمه، لا وبل كيفية توحيد الصف اليمني.
المشهد اليمني معقد بلا شك، ولا يمكن الحسم في وضع المستقبلي يقينًا، لأن اللعبة متداخلة جدًا، وهي أقرب إلى صراع إقليمي ودولي، منه إلى صراعٍ داخلي فقط.
لذلك تبقى أم المشاكل في اليمن متعلقة فيمن يحسم الصراع أو يوحد البلد، ويحل الأزمة لصالح الثورة الشعبية التي تضررت كثيرًا، والأكيد أنها أصل المشكلة من حيث أن أعداء نجاح الثورة كُثر، ولأن عدواها في المنطقة أخطر، لكن من الحماقة الاعتقاد أن عدم استقرار اليمن ليس بالخطير كذلك.
لن أعلق حاليًّا على الذين يتحدثون عن عاصفة حزم أخرى في بلدان عربية أخرى، فلربما أرتكب حماقة قبلهم.