يتمتع ميناء بورتسودان الذي يقع على بعد 680 كيلومترًا شمال شرق العاصمة السودانية الخرطوم بميزاتٍ تجعله يتفوق على المواني الأخرى الموجودة على سواحل البحر الأحمر فهو أكبر المواني في المنطقة من الحدود المصرية إلى باب المندب في اليمن، ويشكل معبرًا للانفتاح على الصين ودول آسيا وبوابة لأوروبا.
مدينة بورتسودان
لفظ إنجليزي “Port Sudan” بمعني ميناء السودان وتنطق محليًا “بُورسودان” بإغفال التاء، وتُلقب بورتسودان بـ”بوابة الشرق” و”ثغر السودان الباسم”، وهي مدينة ساحلية تعد بوابة السودان الأولى لوقوعها على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر.
تقع على هضبة ساحلية تنحدر من جهة الغرب نحو الشرق عرضها 60 كيلومترًا تقريبًا على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وتتكون من صخور رسوبية سطحية في الجزء الشرقي وكثبان رملية ثابتة في الغرب والجنوب الغربي، وتتخللها مجارٍ في شكل أودية وخُؤور (جمع خور) تتدرج من التلال في غرب المدينة نحو ساحل البحر، أهمها خور موج وخور كلاب اللذان يمتلآن بالمياه في موسم الأمطار ويصبان في البحر.
وهناك خليج طبيعي طوله نحو ستة كيلومترات وعرضه كيلومتران ونصف، يفصل المدينة إلى جزأين شرقي وغربي، وهو الذي يقوم عليه الميناء، بينما يجري خور موج الذي يصب فيه من غرب المدينة نحو جنوبها.
يبلغ عدد سكان بورتسودان نحو 800 ألف نسمة تقريًا، وتقطنها معظم القبائل السودانية مع سكانها الأصليين، كقبائل البجا والبني عامر وبعض القبائل العربية ذات الأصول اليمنية – الحضارم – والسعودية – الرشايدة بجانب أقليات صغيرة من الآسيويين كالهنود وبعض الأوروبيين إضافة إلى بعض الأفارقة القادمين إليها من غرب إفريقيا.
وبالمدينة مطار دولي يعتبر الثاني في السودان بعد مطار الخرطوم، يربط بورتسودان بعدد من دول المنطقة هي السعودية والإمارات ومصر وإريتريا.
قصة إنشاء الميناء
قرر الحاكم البريطاني اللورد كرومر عام 1900 توسعة المنطقة التي كان يطلق عليها اسم “مرسى الشيخ برغوت” فأنشأ الميناء البحري الجديد بسبب عدم صلاحية ميناء سواكن لاستقبال البوارج والسفن الحديثة بسبب الشعب المرجانية الكثيرة فيه التي تعيق إبحار تلك السفن أو رسوها، على خلاف مرسى “الشيخ برغوت” الواقع على خليج طبيعي ممتاز خالٍ من تلك المعوقات وفي منتصف الساحل السوداني تقريبًا.
فضلًا عن توفر مصدر لمياه الشرب يقع على بعد 18 ميلًا فقط، وهو خور أربعات، وكان الحصول على مياه الشرب في بادئ الأمر يعتمد على تكثيف مياه البحر لإزالة الملوحة قبل القيام بتوصيل خط أنابيب مياه من خور أربعات.
أعلن وزير النقل السوداني مكَّاوي عوض يوم 15 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن “بلاده اتفقت مع قطر على إنشاء أكبر ميناء على ساحل البحر الأحمر، وسط تنامي التعاون بين البلدين في العديد من المجالات الاقتصادية”
بدأ الإنجليز في بناء المدينة بتأمين ربطها بمناطق الداخل في السودان من خلال خط للسكة الحديدية تم افتتاحه عام 1906، ويتجه غربًا عبر الصحراء ليربط الميناء بمدينة عطبرة في شمال السودان، حيث يمر خط القادم من وادي حلفا والمتجه نحو الخرطوم وتم أيضًا مد الخط جنوبًا إلى سواكن على بعد 60 كيلومترًا التي تقرر التخلي عنها كميناء بمجرد الانتهاء من تشييد بورتسودان، كما تم بناء منشآت ومرافق الشحن والتفريغ، بما في ذلك الرافعات الكهربائية.
كان الوصول إلى الميناء يتم من خلال خليج طبيعي بمسافة 5 كيلومترات نحو البر ويضيق البحر كلما اتجه المرء نحو الداخل حتى نقطة أرضية حيث تقع أرصفة ميناء الحاويات، كما يتألف الميناء من سلسلة من القنوات والأحواض الطبيعية أكبرها طوله 6 كيلومترات وعرضه 2.5 كيلومتر ولا يقل عمقه عن 6 قامات.
بعد استقلال السودان عام1956 حافظت المدينة على دورها كميناء رئيس للبلاد ومقرًا للأسطول التجاري والعسكري السوداني، كما أقيمت فيها بعض الصناعات كصناعة الإطارات ومطاحن الدقيق ومصفاة لتكرير النفط في عام 1964 إلى جانب صوامع للغلال.
التنافس على ميناء بورتسودان
تقدمت شركة مواني دبي بعرض لتشغيل ميناء بورتسودان منذ العام 2008، ثم قدمت دبي طلبًا جديدًا لهيئة المواني البحرية في السودان هذا العام، يتضمن إدارة الميناء بالكامل لمدة 50 عامًا، إلا أن الهيئة رفضت ذلك واقترحت عليها مناصفة الإدارة مع الشركة الفلبينية التي تدير الميناء منذ عام 2013.
لكن مواني دبي رفضت العرض مطالبةً بتسليم الميناء كاملًا وخاليًا من العمالة السودانية، لذلك، جاءت ردة فعل الأمين العام لجبهة شرق السودان محمد بري قوية وأعلن رفض الجبهة تشريد أي من العمال الذين يُشغلهم الميناء “3000 عامل”.
نلفت إلى أن المقترح الإماراتي جاء ضمن عروض كثيرة بلغت 20 عرضًا حسب الجهات الرسمية، ونقلت صحيفة “السودان اليوم” في سبتمبر/أيلول الماضي أن وفد شركة مواني دبي العالمية اضطر لمغادرة ميناء بورتسودان الجنوبي، وذلك عقب اعتراض عمال على وجوده والتعبير عن رفضهم لمقترح تسليم إدارة الميناء لشركة أجنبية.
وأضافت الصحيفة “أوقف العمال وفد الشركة الذي كان في زيارة للميناء الجنوبي وأبلغوه رفضهم لمقترح هيئة المواني البحرية بخصخصة إدارة الميناء، بينما استمع الوفد المكون من خبيرين ومترجم لحديث العمال ثم غادروا الميناء لمقر إقامتهم”.
لميناء بورتسودان ميزات يتفوق بها على مختلف المواني القريبة في منطقة القرن الإفريقي أهمها موقعه الاستراتيجي حيث يقع في منتصف الساحل السوداني تقريبًا، ويمكنه أن يخدم عدة دول مجاورة للسودان لا تمتلك منافذ بحرية مثل إثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وإفريقيا الوسطى
أما العرض القطري فقد كان ذكيًا، إذ أعلن وزير النقل السوداني مكَّاوي عوض يوم 15 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن “بلاده اتفقت مع قطر على إنشاء أكبر ميناء على ساحل البحر الأحمر، وسط تنامي التعاون بين البلدين في العديد من المجالات الاقتصادية”.
وأضاف أمام جلسة للبرلمان السوداني، الخميس، أن قطر تنوي أيضًا تطوير ميناء “بورتسودان” ليكون أكبر ميناء للحاويات بما يخدم السودان وجيرانه، ووصف المسؤول السوداني ما قيل عن تأجير ميناء بورتسودان لشركة دبي للمواني بأنه مجرد إشاعة.
وأكد مكَّاوي عوض “عدم وجود أي رغبة أو مساعٍ لدى السودان لتسليم الميناء للشركة، سواء بغرض تشغيله أو تأجيره”، وفق ما نقلت صحيفة السوداني.
انتهى حديث وزير النقل ويتضح لنا من خلاله أن العرض القطري يتكون من شقين أولهما: تشييد ميناء جديد كليًا على ساحل البحر الأحمر غالبًا في مدينة سواكن المجاورة لبورتسودان، وثانيهما تطوير ميناء بورتسودان الحاليّ ليكون أكبر ميناء للحاويات في المنطقة، ولذلك فإن الحكومة السودانية في تقديري اتجهت لقبول العرض القطري ولأسباب أخرى سأعود إليها في هذه المقالة.
مشاكل “لوجستية” يعاني منها الميناء
لميناء بورتسودان ميزات يتفوق بها على مختلف المواني القريبة في منطقة القرن الإفريقي أهمها موقعه الإستراتيجي حيث يقع في منتصف الساحل السوداني تقريبًا، ويمكنه أن يخدم عدة دول مجاورة للسودان لا تمتلك منافذ بحرية مثل إثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وإفريقيا الوسطى، تلك الدول جميعًا لديها كثافة سكانية عالية خصوصًا إثيوبيا التي يسكنها نحو 104 مليون مواطن.
لكنّ الميناء بوضعه الحاليّ لم يعد يستوعب السفن الكبيرة حسب إفادة أحد الخبراء، فقد أصبحت معظم السفن التي تحمل بضائع للسودان تضطر للذهاب إلى مواني مجاورة “جيبوتي” و”جدة” لتفرغ البضائع القادمة للسودان هناك ومن ثم يتم نقلها بالسفن الصغيرة إلى بورتسودان، أو تُفرغها في عرض البحر فيما يسمى بالمُسافنة .
ويعضد رواية الخبير أنه كان يتم تصدير معظم الصادرات الإثيوبية عن طريق ميناء بورتسودان، لكنّ عدم قدرة الميناء لاستيعاب الحاويات الضخمة مؤخرًا، بجانب تعدد الرسوم والجبايات في الميناء السوداني ونقاط التفتيش على الصادرات والواردات الإثيوبية دعا سلطات أديس أبابا للتفكير في مد خط سكة حديد إلى ميناء جيبوتي فأكملت بناءه في وقت قياسي! وأصبحت تصدر وتستورد معظم منتجاتها عبره حاليًّا.
أما المحاصيل الزراعية التي تُنتج في المناطق الإثيوبية الحدودية مع السودان فإن الشاحنات التي تحملها تضطر لتفريغ بضاعتها في القضارف ثم يتم شحنها على الشاحنات السودانية لتعبر بالبنطون “المعدية” نسبة لعدم تشييد جسر (الحمرة/القضارف) حتى الآن، ثم تسافر سيارات النقل عبر الطرق الترابية لبورتسودان فيتم تفريغها يدويًا ثم ترمى في العراء لعدة أسابيع قبل إعادة شحنها مرة أخرى!
تجد دولة قطر ومشاريعها قبولًا واسعًا في الشارع السوداني وفي أروقة الحكومة، وقد كان الوزير مكّاوي عوض واضحًا عندما أكد أن الموافقة على العرض القطري جاء بموافقة قيادة الدولة وأن العلاقات بين البلدين في تنامٍ مستمر
لماذا قررت الحكومة السودانية الموافقة على العرض القطري؟
أسباب عديدة دفعت السودان للموافقة على العرض الذي قدمته قطر لتطوير ميناء بورتسودان، أولها قوة العرض مقارنة بالطلب الإماراتي كما ذكرنا، لأن الأخير يشترط تسليم الميناء كاملًا من دون عمالة سودانية، فيما يتحدث عرض قطر عن تطوير وتحديث الميناء دون شروط مسبقة مثل إلحاق الضرر بالعمالة الموجودة، فضلًا عن أن قطر تريد إنشاء ميناء آخر جديد في مدينة سواكن.
ثاني الأسباب، ربما أرادت حكومة الرئيس عمر البشير تغيير مواقفها من الأزمة الخليجية ومحور السعودية الإمارات، خصوصًا أن التسريبات تشير إلى أزمة مكتومة تشهدها العلاقات السودانية السعودية دفعت البشير إلى حديثه الأخير الملاطف لإيران، ثم جاءت التصريحات غير المسبوقة التي أدلى بها وزير الخارجية إبراهيم غندور لقناة الجزيرة التي تحدث فيها لأول مرة عن اللجوء للتحكيم الدولي فيما يخص اتفاقية ترسيم الحدود بين السودان والسعودية لعام 1974 عندما كان يتطرق لمثلث حلايب المتنازع عليه بين الخرطوم والقاهرة.
ثالثًا، هناك محوران يبدو أنهما يتشكلان في القرن الإفريقي، الأول يضم قطر وإثيوبيا والسودان باعتبار الدول الثلاثة لديها علاقات وطيدة مع بعضها البعض وقد اتضحت بعض معالم هذا التحالف الثاني الناشئ في زيارة رئيس وزراء إثيوبيا هايلي ديسالين للدوحة، الشهر الماضي.
فيما يضم المحور الثاني السعودية والإمارات بالإضافة إلى إريتريا وجيبوتي، ولا يفوتنا أن نشير إلى سيطرة دولة الإمارات على ميناء عصب في إريتريا وميناء جيبوتي عبر ذراعها شركة مواني دبي العالمية.
السبب الثالث، تجد دولة قطر ومشاريعها قبولًا واسعًا في الشارع السوداني وفي أروقة الحكومة وقد كان الوزير مكّاوي عوض واضحًا عندما أكد أن الموافقة على العرض القطري جاء بموافقة قيادة الدولة وأن العلاقات بين البلدين في تنامٍ مستمر.
رابعًا، هناك عدم ارتياح لدى طائفة عريضة من قيادات الحزب الحاكم في السودان تجاه مخططات دولة الإمارات، حيث يرى بعض السياسيين والأمنيين أن أبوظبي بحكم عدائها للإخوان تسعى إلى محاصرة النظام شمالًا عن طريق دعمها للجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر وجنوبًا بالتنسيق مع مصر السيسي التي تدعم حكومة سلفاكير ميارديت وشرقًا عن طريق دعمها لرئيس إريتريا أسياس أفورقي الذي توترت علاقات السودان معه تلقائيًا بعد تقارب الأخير مع إثيوبيا، وغربًا بدعمها للرئيس التشادي إدريس ديبي الذي قطع العلاقات مع قطر بعد زيارته أبوظبي.
بإمكان الميناء أن يحدث تحولًا اقتصاديًا هائلًا ليس على مستوى ولاية البحر الأحمر وبورتسودان فحسب، بل على مستوى السودان إذ يمكن عبره نقل صادرات وواردات الدول الأربعة المجاورة (إثيوبيا، جنوب السودان، تشاد، إفريقيا الوسطى)
وربما أرادت الخرطوم المحافظة على الحليف القطري القوي الذي لم يقصر في دعم حكومة البشير، ويبدو أنه لم يكن راضيًا عن موقف السودان من الأزمة الخليجية، ومن تأخر زيارة عمر البشير للدوحة كما ذكر موقع قناة DW الألمانية.
ويرى الباحث الاقتصادي أيمن عمر، أن الميناء السوداني الجديد حال إنشائه سيكون مركزًا اقتصاديًا حيويًا مهمًا يؤثر على ميناء “جبل علي” في دبي، وبقية المواني التي تسيطر عليها أبو ظبي في القرن الإفريقي، وإضافة إلى التنافس الاقتصادي، فإن الميناء الجديد سيعزز نفوذ قطر على ساحل البحر الأحمر، مما يعني تحقيق تفوق سياسي جديد للدوحة.
محاولات إماراتية لتدارك الموقف!
فور إعلان وزير النقل السوداني مكاوي عوض الموافقة على العرض القطري سارع رئيس مجلس إدارة مجموعة مواني دبي العالمية سلطان أحمد بن سليم إلى زيارة السودان ولقاء الرئيس البشير في محاولة على ما يبدو لثني الحكومة السودانية عن قرارها.
ونقلت الصحف السودانية عن “ابن سليم” قوله في تصريحات صحفية: “السودان يتمتع بموقع إستراتيجي وشريان ملاحي مهم ويمثِّل مدخلًا لكثير من الدول الإفريقية”، وأضاف “نسعى لتطوير المرافق المهمة للحركة التجارية من مناطق صناعية لتحريك القطاع الاقتصادي خاصة أن صادرت السودان الزراعية تعتمد بشكل كبير على مرافق وبني أساسية”.
لم تنقل الصحف رد الحكومة السودانية ولم يتم التطرق إلى الموضوع ثانية، لكن الموعد الذي حدده مكّاوي عوض لحسم الموضوع قد اقترب “يناير/كانون الثاني” المقبل، ولا نتوقع أن يتراجع السودان عن قراره للأسباب التي ذكرناها.
ومع ذلك ـ إذا تم تحديث الميناء ـ يبقى التحدي في كيفية تغيير العقلية التي تفكر وتدير بها حكومة السودان مؤسسات الدولة ومشروعات البنية التحتية، فلو كان ميناء بورتسودان بموقعه الحاليّ مملوكًا لدولة أخرى لما وصل إلى هذه الدرجة من التردي والإهمال.
بإمكان الميناء أن يحدث تحولًا اقتصاديًا هائلًا ليس على مستوى ولاية البحر الأحمر وبورتسودان فحسب، بل على مستوى السودان إذ يمكن عبره نقل صادرات وواردات الدول الأربعة المجاورة (إثيوبيا، جنوب السودان، تشاد، إفريقيا الوسطى)، ويمكن لبيوتات التمويل والدول الصديقة بجانب ذلك، أن تُنشئ مناطق حرة ومرافق سياحية بمواصفات عالمية على ساحل البحر الأحمر، فالبنية التحتية متوفرة والمدينة جاذبة للسياح خصوصًا عشاق الجُزُر والشُعَب المرجانية والأسماك الملونة التي تشتهر بها سواحل الولاية.