علاقة غريبة تلك التي تجمع أمريكا اللاتينية بالقضايا الإنسانية والانتصار للحق في أي بقعة من بقع العالم، لمسنا ذلك جليًا في أحد رموز الثورة “تشي غيفارا” الرجل الذي تخلى عن حياته المترفة ومكانته الاجتماعية الرفيعة، من أجل الدفاع عن حقوق المظلومين في بلاد ليست مسقط رأسه أصلاً.
حتى في كولومبيا، الكثيرون جعلوا من “بابلو إسكوبار” بارون المخدرات التاريخي، بطلًا، فقط لأنه كره نفاق السياسيين وأغدق على الفقراء من بني حيه المال الوفير.
والأغرب من هذا، أن تشغل القضية الفلسطينية رغم بعد المسافات الجغرافية، بال جزء مهم من المجتمع اللاتيني، فعاشوا آلام الشعب الفلسطيني مع كل رصاصة تُطلق وغارة تُشن على أرض لم يعرف أهلها غير زرع أشجار الزيتون.
فصارت الأبواب مفتوحة على مصراعيها لاستقبال أي مهاجر فلسطيني هرب من ويلات الحرب يبغي الأمن والسلام منذ وعد بلفور المشؤوم، فأصبح للفلسطينيين أحياء ومجمعات خاصة بهم، وانصهروا داخل المجتمع اللاتيني بأطيافه كافة في وقت مبكر جدًا من بداية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
وإن لم تجمع فلسطين وأمريكا اللاتينية أي عنصر ثقافي مشترك، فإن الشعبين قد اشتركا في عشق اللعبة الشعبية الأولى في العالم: كرة القدم، فقد كانت مدخلًا رئيسيًا لانصهار الهويتين داخل مجتمع واحد، فأدمن مهاجرو فلسطين مباريات كرة القدم اللاتينية المعروفة بمتعتها المنقطعة النظير، وتفاعلوا مع حماس ديربي الأرجنتين الشهير بين “بوكا جونيورز” و”ريفر بليت”، عشقوا جيل البرازيل الذهبي مع بيليه، وتابعوا بحماس أطوار مباريات “كوبا ليبرتادوريس”، وتفاصيل بطولة “كوبا أمريكا”.
في تشيلي.. خلدوا القضية عبر كرة القدم
القاعدة الشعبية التي اكتسبها نادي “بالاستينو” سببها الرئيسي تمثل في الاهتمام الشديد للمجتمع التشيلي بالقضية الفلسطينية
تشيلي، البلد الممتد على طول الشريط الساحلي جنوب غرب القارة اللاتينية، وإحدى أكبر البلدان التي استقبلت المهاجرين القادمين من فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي، حيث يبلغ عدد السكان الحاليين ذوي الأصول الفلسطينية، ما يقارب نصف مليون شخص، وهؤلاء أدوا دورًا في تأسيس فريق سيخلد اسم فلسطين إلى الأبد.
“بالاستينو” أو “فلسطينو”، فريق كرة قدم تشيلي تأسس سنة 1920، ويعد أول نادٍ تأسس على يد مجموعة من المهاجرين، هم فلسطينيو تشيلي، الفريق حصل على موافقة الاتحاد التشيلي لكرة القدم وبدأ نشاطاته الرياضية بشكل أولي، قبل الانطلاقة الرسمية سنة 1952 في دوري الدرجة الثانية التشيلي، ثم ما لبث أن حقق لقب دوري الدرجة الأولى سنة 1955، ويكسب بذلك قاعدة جماهيرية واسعة كان السبب فيها عنصرين أساسيين: كرة القدم الجميلة، ونُصرة القضية الفلسطينية التي تلقن الشعب التشيلي مبادئها منذ نعومة الأظافر.
جماهير نادي بالاستينو دأبت على ارتداء “الكوفية الفلسطينية” تعبيرًا عن رسالة النادي الأساسية وهويته الأصلية
رسالة “بالاستينو” للعالم تظهر مع دخول أول لاعب من الفريق لأرضية الملعب، القميص الأبيض المخطط بالأحمر والأخضر، تيمنًا بألوان العلم الفلسطيني، والجماهير التي اعتادت ارتداء “الكوفية”، كجزء بسيط من أشكال التضامن التي أظهرها هذا الفريق تجاه أرض فلسطين.
عن هذا الفريق تحدث المعلق الإذاعي التشيلي “سيباستيان مانريكيز” فقال: “نادي بالاستينو لا يرمز لفريق كرة قدم فقط، بل يرمز كذلك لفئة محترمة من المجتمع التشيلي، هي التي أسست هذا الفريق تيمنًا ببلدهم الأصلي الذي قدموا منه، هذا الفريق يرمز أيضًا لشعب يعاني بسبب أوضاع غير مفهومة، وصراع أبدي في الشرق الأوسط”.
كذلك يتحدث فرانك كيتيلون أحد لاعبي كرة القدم من أصول فلسطينية، الذي جرب اللعب لبالاستينو: “لعبت موسمين مع نادي بالاستينو، كانت تجربة رائعة من الناحية الاحترافية والشخصية، لقد قربتني هذه التجربة من أصولي أكثر، هذا الفريق، عكس بقية الفرق في هذا البلد، يلعب لاعبوه كل مباراة وقلوبهم متعلقة ببلد يبعد آلاف الكيلومترات، مدركين أن قاعدة جماهيرية كبيرة تساندهم من بعيد، رغم الرعب والمآسي التي يعيشها الشعب الفلسطيني كل يوم، مع هذه الظروف، تصبح هزيمة بالاستينو صعبة، ومواجهتهم تصير شاقة وقوية”.
الخريطة بدل الرقم 1
ضجة عارمة في الأوساط الرياضية التشيلية، بعد استبدال نادي “بالاستينو” للرقم 1 في قمصان الفريق بخريطة فلسطين كاملة
تمر الأيام والسنين، والمبدأ واحد لا يتغير، ففي شهر يناير من سنة 2014 أحدث الفريق ضجة عارمة صنعت الحدث في الكرة اللاتينية، حينما كشف “بالاستينو” عن تفاصيل زيه الجديد، الألوان الحمراء والخضراء والبيضاء كالمعتاد، مع متغير جديد، أن رمزوا للرقم 1 في أقمصة الفريق بخريطة فلسطين كاملة دون التقسيم الذي أحدثته المستوطنات الصهيونية داخل الأراضي الفلسطينية.
ارتفعت بعض الأصوات من داخل وخارج تشيلي لمعارضة هذه “البدعة” في عالم كرة القدم، رئيس نادي “نيوبلينسي” التشيلي استنكر الأمر واعتبره تداخلًا بين السياسة والرياضة وضربًا من ضروب معاداة السامية، لكن الجميل في الأمر، أن مشجعي هذا الفريق نفسه لم يوافقوا رئيس ناديهم في هذا التصريح، وأعلنوا مساندتهم لفريق “بالاستينو” الذي تعرض للمساءلة والتحقيق من طرف الاتحاد التشيلي لكرة القدم بسبب هذا القميص.
فرق أخرى من خارج تشيلي أعلنت كذلك تضامنها مع بلاستينو، على رأسها نادي أونيون إسبانيولا الإسباني ونادي أوداكس إيتاليانو الإيطالي، إضافة لمجموعة من الفرق التشيلية الأخرى.
وفي الأخير، أصدر الاتحاد التشيلي قراره بتغريم نادي بالاستينو مبلغ 1300 دولار، مع إجبارية تغيير القميص بشكل لا تتدخل فيه السياسة بالرياضة، قبل النادي العقوبة، لكنه لم يقبل التنازل عن المبدأ الأول، والغرض الأصلي من تأسيس هذا النادي، فكان البيان الرسمي من إدارة “بالاستينو” واضحًا: “بالنسبة لنا، فلسطين ستظل دائمًا حرة، وستكون فلسطين التي عرفناها في التاريخ، لا أقل ولا أكثر”.
في قضايا الحق لا تنازل، وبذرة الإنسانية مهما تمادى البعض في تلطيخها بوحشية الحروب والانتهاكات الفظيعة، قطعًا لا يمكنها أن تُستأصل، فطرة الإنسان السليمة اقتضت على اللاتينيين وغيرهم أن يعشقوا أرض فلسطين ويخلدونها بشتى الأشكال، فإن كان البعض قد ظن أن “إسرائيل” ستُصبح دولة بمجرد قرار رئيس ما بتحويل سفارة بلده للقدس وإعلانها عاصمة لدولة “الكيان الصهيوني”، فإن القناعات عند مئات الملايين لم ولن تهتز، واسألوا “بالاستينو”.