يخوض الشعب الفلسطيني تجربة قاسية في حماية أرضه وهويته وتراثه من التهويد ويجتهد في إثبات وجوده إقليميًا ودوليًا بجميع الطرق الممكنة ليعرف العالم قضيته وثقافته، خاصة أن “إسرائيل” تحاول تغييب وتشويه ثقافته، كما أنها لا تتوقف عن سرقة ما يملكه من تراث مثل المأكولات والأزياء الشعبية وحتى الدبكة الفلسطينية.
وتعتبر الدبكة من أهم صور التراث الفني في التاريخ الفلسطيني، لأن هذه الرقصة تعبر عن العواطف الوطنية التي يشعر بها الفلسطينيون تجاه أرضهم وتبين مدى انتمائهم وتعلقهم بالأرض والوطن.
أما الأغاني المرافقة لها، فتختلف مواضيعها بين القضايا الوطنية البارزة في التاريخ الفلسطيني مثل النكبة والهجرة والأسرى والانتفاضات المتكررة، والجانب الاجتماعي الذي يتحدث عن المهاجر والفلاح وغزل الحبيب، مثل: “يا بو قذيلة – ظفيرة الشعر – منثورة مشيك دلال وغندرة، زينك ما شفته في العرب ولا بسرايا معمرة، محمد يا زين الحارة يا أبو زنود الجبارة تمنيت أكون لك جارة ما حيد عنك أشقرا”، وأغنية “وقفت ع الباب وصارت تومي لي.. والهوى يلعب بالجداديلي وأنا بتلفت تشوفلي حيلة.. قالت اطمن ما حدا هونا”.
جدير بالذكر، أن الدبكة رقصة منتشرة في بلاد الشام والعراق وتركيا، وتكون كل فرقة عادة مكون من عشرة أشخاص ولها أنواع عديدة تختلف بحسب المكان ولكل بلدة حركاتها الخاصة وأزيائها المميزة، لكن جميعها مستوحاة من التراث وأجواء الريف.
متى ظهرت الدبكة الشعبية في التاريخ الفلسطيني؟
كانت الدبكة تمارس قبل النكبة في المناسبات الاجتماعية احتفالًا بالأعراس والأعياد، ولكن بعد 1948 أصبحت الدبكة نوع من أنواع مقاومة الاحتلال وشكل من أشكال النضال الوطني الذي يمارسه الشعب الفلسطيني في وجه المحتل الإسرائيلي، وأصبحت الأغاني تمدح تراب الوطن وتذكر خصال الأرض والبلدات الفلسطينية، مثل الأغنية التي تقول “يا طير الطاير سلم على البيرة وع القدس الشريفة.. تراب بلادي سجاد حرير والميا بلسم والبعد جنون” و” يا أرض بلادي يا بعد روحي عنك ما أتنازل والله وما بروح.. ع ترابك باقي وما أرحل من هونا.. ولو قطعوني وما داوو جروحي”.
وفي بداية الثمانينيات من القرن العشرين، بدأ تعليم هذه الرقصة الفلكلورية بجدية وبخطوات مدروسة لفرق ومجموعات مختلفة من الشعب الفلسطيني مثل فرقة سرية رام الله وفرقة مرج ابن عامر وفرقة حنظلة وفرقة الوحدة للفنون الشعبية وفرقة الهدف والبيرة والأصايل والعصرية للفلكلور الشعبي، إلى جانب مجموعة من الفرق التي ظهرت في الشتات مثل فرقة العاشقين في لبنان والأرض في سوريا وسائد في أمريكا وفرقة باقون في أوروبا الشرقية.
وأهمها فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية التي تأسست عام 1979 والتي تعرف نفسها أنها توجت الفنون كرائدة للرقص الشعبي الفلسطيني وقدمت أكثر من 1000 عرض محلي ودولي، وأنتجت 12 عملًا فنيًا راقصًا، وحصدت العديد من الجوائز وشهادات التقدير المميزة، وتعمل على تطوير الفنون الأدائية في فلسطين، للمساهمة في الحفاظ على الهوية الثقافية الفلسطينية وتعزيز روح الانتماء والتعبير والأبداع والعمل الجماعي من خلال رؤيتها الخاصة التي تجمع بين الأصالة والحداثة.
ماذا تعني الدبكة الشعبية للفلسطينيين؟
كل حركة من حركات الدبكة لها معنى مختلف، ففي بدايتها يصطف الراقصون إما على شكل صف أو قوس أو دائرة، وتكون الرقصات منفصلة أو مختلطة بحيث يرقص الذكور والإناث معًا، وتكمن المهارة في سرعة وتناغم حركات الأرجل التي تضرب الأرض بصوت عالٍ وتثير الحماس لدى الجمهور.
وتتشابك أيدي الراقصين على ساحة الدبكة للدلالة على الوحدة والبقاء ومن ثم يبدأ الدبيكة بالسير ببطء كدليل على بداية الحياة وبعدها تبدأ الفرقة بالقفز إلى أعلى لتدل على الحيوية والنمو، وتصاحب هذه الحركات أصوات وإيقاعات ضرب الأرجل بالأرض كإشارة إلى الثقة والصمود.
يوجد أنواع مختلفة للدبكة الفلسطينية منها الشعراوية والدرازي والشمالية والبدوية والعسكر والشيلة والكرجة وأشهرها زريف الطول ودبكة الطيارة والدلعونا
هذا ويوجد أنواع مختلفة للدبكة الفلسطينية منها الشعراوية والدرازي والشمالية والبدوية والعسكر والشيلة والكرجة وأشهرها زريف الطول ودبكة الطيارة والدلعونا.
تمتاز الدبكة الشمالية بحركاتها السريعة المرافقة لإيقاع الأغاني لذلك تحتاج إلى لياقة بدنية عالية لإتقان حركاتها وتسمى بالشمالية لأنها تبدأ بالقدم اليسرى، أما دبكة زريف الطول فتستخدم للغزل والمديح، والدحية الخاصة بالبدو والتي يكثر فيها التصفيق بطريقة معنية وتسمى “تسحيجات”، وباختلاف أنواعها وحركاتها لا تتخلف الدبكة عن التذكير بحال القضية الفلسطينية.
الدبكة.. سفيرة فلسطين المتنقلة
تمثل الدبكة الشعبية تحديًا جديدًا أمام الفلسطينين، وذلك بسبب المحاولات الإسرائيلية في نسب هذه الرقصة إلى ثقافتها، وهذا ما نقلته صحيفة الخليج التي نشرت موضوعًا بعنوان “سطو إسرائيلي” وكتبت “نسب الكيان الإسرائيلي رقصة الدبكة الشعبية الفلسطينية إلى تراثه الفني وذلك خلال مهرجان فني في مدينة إجرجينتو الإيطالية”.
وهذا ما أشار إليه عمران قعدان أحد أفراد فرقة “السريس” الشعبية الفلسطينية في حوار خاص مع نون بوست، حيث قال: “شاركت في العديد من المحافل الدولية في إيطاليا وإسبانيا والنمسا، لكننا لم نستطع رفع علم فلسطين في هذه المهرجانات وذلك لأن مؤسسة المركز الجماهيري المسؤولة عن هذه الفعاليات تابعة لحكومة الاحتلال الإسرائيلية، ورفع العلم الفلسطيني سوف يتسبب بالمشاكل للفرقة”، وأضاف “لا يمل الإسرائيليون من طلب رفع علمهم في نهاية العرض ولكننا بالطبع نرفض هذا الطلب”.
هذه المحاولات جزء من الصعوبات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني وهذا الفلكلور هو الوجه الآخر لفلسطين وتاريخها والمتمثل بالدبكة والطرب والفن والرقص الشعبي الذي يعبر عن الوحدة والأمل
وبجانب هذه المحاولات الناعمة في الترويج للدبكة على أنها منتج إسرائيلي، يتابع قعدان قائلاً: “أعتقد أن “إسرائيل” سوف تنجح في سرقة هذا التراث لأنه يتم التعريف بالقادمين من أراضي 48 على أننا قادمون من “إسرائيل” وليس فلسطين، وهذا ما يجعل الوسط الأوروبي يعتقد أن هذه الرقصة إسرائيلية، رغم أن العزف والأغاني والكلمات فلسطينية، إلى جانب حرصنا على التعريف بأنفسنا كفلسطينيين من الداخل”.
ومع المشاركات الواسعة لهذه الفرق تقع المسؤولية الكبيرة على أكتافهم أولًا في نقل الهوية الفنية لهذه الرقصة التي تعبر عن الوجه الحضاري للقضية الفلسطينية وتاريخها والمتمثل بالدبكة والطرب والفن والرقص الشعبي الذي يعبر عن الوحدة والأمل، وتوريث هذا التراث الأصيل للأجيال القادمة، إذ تبقى محاولات تهويد هذه الرقصة جزءًا صغيرًا من الصعوبات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي.