في البداية، كان قصرًا لحريم العائلة الحسينية يحمل اسم القصر الصغير، ثم متحفًا حمل اسم المتحف العلوي نسبة إلى علي باي الذي تولى الحكم في تونس من 1882 إلى 1902، وبعد استقلال البلاد عن فرنسا غُير اسمه مرة أخرى ليُصبح المتحف الوطني بباردو، “نون بوست” يرافقكم في هذا التقرير لتعرفوا أكثر عن هذه التحفة الفنية العريقة التي تحتضن التراث الحضاري لتونس.
تحفة فنية
في الـ7 من مايو سنة 1888، فتح المتحف العلوي أبوابه، بعد ست سنوات من أشغال الترميم والتأهيل لقصر حريم العائلة الحسينية وجمع التحف الفنية والأثرية التي تمس مختلف الحقب التاريخية للبلاد وجلبها إليه بعد أن تم عرضها في البداية بفضاءات وقع تهيئتها بقصبة تونس قرب مقر الولاية (دار الباي).
ويعد متحف باردو الذي بني بنمط معماري تونسي أندلسي، أكبر متحف في تونس ومن أشهر المتاحف في العالم، وقد أدرجته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ضمن قائمة التراث العالمي لما ينفرد به من كنوز أثرية لا سيما التماثيل ولوحات الفسيفساء التي يتجاوز عددها الـ4 آلاف وتعكس تعاقب الحضارات على تونس.
يمثل هذا القصر الترف والرفاهة التي شهدتها العمارة التونسية في فترة البايات
يقع متحف باردو في ضاحية تونس العاصمة، إلى جانب مقرا البرلمان التونسي، وقد بني هذا القصر منذ القرن الـ15 الميلادي فوق سهل يبعد نحو 4 كيلومترات عن تونس العاصمة وتعود تسميته إلى كلمة ذات أصل إسباني “البرادو” وتعني الحديقة أو الحقل.
وتحتضن طوابق المتحف الثلاث، تيارات معمارية وفنية وتقنيات مختلفة مغاربية وتركية وإيطالية وأندلسية فضلاً عن التونسية، في تناسق كبير يشد الناظر إليه، ليمثل ما يشبه خلاصة للفن المعماري بالبلاد التونسية في القرنين الـ18 والـ19 الميلادي.
يمثل هذا القصر الترف والرفاهة التي شهدتها العمارة التونسية في فترة البايات، وقد زادته الإضافات التي امتزجت بالتأثيرات الأندلسية والآسيوية والأوروبية، جمالاً على جماله الأصلي، فبدا كالتحفة الفنية، ومنذ سنة 1882، مع تحول مقر الحكم والحاشية إلى قصر المرسى نتيجة التقشف المتبع، وقع منح المباني المخصصة للحريم إلى سلطات الحماية الفرنسية ليتم تحويلها إلى متحف صغير يضم أولى المجموعات الأثرية التي تعود إلى العصور القديمة، ليتم ضم باقي القصور إليه في وقت لاحق لتستقبل مجموعات الفن الإسلامي.
جمال فني كبير
وفي السنوات الأخيرة تمت إضافة جناح جديد للمتحف بتصميم معماري معاصر وراء المعلم التاريخي الموجود الذي خضع هو نفسه إلى إعادة تهيئة، ويتقدم الجناح الجديد بهو استقبال كبير يقود إلى مختلف أجزاء وخدمات المتحف التي أصبحت تتمتع بإضاءة جديدة متميزة بفضل إدماج أسطح بلورية بمساحات ضخمة.
وقد أضيفت 6 أقسام جديدة لمعروضات تنتمي إلى فترات تاريخية مختلفة: ما قبل التاريخ، الحضارة البونية الفينيقية، العالم النوميدي، الحضارة الرومانية في الفترة المتأخرة، الحضارة الإسلامية، إضافة إلى مجموعة المهدية المتميزة التي تم اكتشافها في أعماق البحر.
آثار تخترق الحواجز من زمن إلى آخر
يمكن لزائر متحف باردو الوطني أن يطلع على أجزاء مهمة من الحضارات المختلفة التي تعاقب على البلاد التونسية، في فترات ما قبل التاريخ والفترة البربرية اللوبية والفينيقية البونية والرومانية القديمة والبيزنطية والوندالية المسيحية والعربية الإسلامية، حيث يضم المتحف عددًا من الاكتشافات الأثرية والوثائق التاريخية النادرة ذات الشهرة العالمية.
يُلقي متحف باردو الضوء على تعاقب الحضارات والديانات السماوية عبر عهود سحيقة، فهو بمثابة “متحف للحضارات الإنسانية”
يحتوي هذا المتحف على قرابة 8 آلاف قطعة أثرية وفنية متأتية من حفريات أجريت في تونس خلال القرنين الـ19 و20، وهي مجمعة ضمن أقسام وموزعة على نحو 50 قاعة ورواقًا لتعطي صورة عن مختلف المراحل التي قطعتها البلاد، وليكون شاهدًا على الهوية الثقافية للبلاد.
يُلقي متحف باردو الضوء على تعاقب الحضارات والديانات السماوية عبر عهود سحيقة، فهو بمثابة “متحف للحضارات الإنسانية”، حسب القائمين عليه، ويضم العديد من الأجنحة والقاعات، أهمها: قاعة قرطاج الرومانية وقاعة فيرجيل وقاعة دقة وقاعة المهدية وقاعة الفسيفساء المسيحية وقاعة سوسة.
تماثيل رومانية قديمة
توجد في قاعات المتحف المختلفة، تماثيل ومنحوتات ومجوهرات ومخطوطات تغوص بالزائرين في أعماق الماضي، ويخيل إلى الزائر وهو يشاهد رؤوس أباطرة الروم التي أبدع النحاتون الأوائل في نحت أدق تفاصيل ملامحها وعيونهم الغامضة كأن التاريخ عاد به إلى الزمن الغابر.
ومن القطع الأثرية المعروضة أيضًا، أقنعة شيطانية ضاحكة كان يضعها القرطاجيون داخل المقابر اعتقادًا منهم بأنها تطرد الأرواح الشريرة، وشواهد لقبور قديمة شاهدة على فنائهم، فضلاً عن أوانٍ فخارية وزجاجية وخزف ونقود القديمة، تنتمي إلى العهد الأغلبي والفاطمي وأخرى إلى العهد الحفصي وحتى نهاية الدولة الحسينية.
فسيفساء تروي مشاهد من الحياة اليومية القديمة
إلى جانب ما ذكرنا، يضم المتحف أكبر مجموعة فسيفساء في العالم، ويروي زخرف هذه اللوحات الفسيفسائية التي تمتد من القرن الأول قبل الميلاد مرورًا بقرطاج البونية والرومانية ووصولاً إلى قرطاج البيزنطية، مشاهد من الحياة اليومية النابضة كصيد الحيوانات وغزل الصوف وغيرها، وترسم اللوحات بفسيفسائها الصغيرة بهاء المنازل والنوافير والحدائق الجميلة والمزارع.
يحتوي المتحف على عدد كبير من الفسيفساء
في هذا المتحف لك أن تقف أمام أكبر لوحة فسيفسائية رومانية تبلغ مساحتها 130 مترًا مربعًا، وتزن 4 أطنان، تجسد إله البحار الروماني “نبتون” وهو يحمل رمحًا ذا ثلاثة أسنان، وهي لوحة ضخمة في غاية الإبداع، اكتشفت بمدينة سوسة (حضرموت سابقًا) في القرن الـ19، وتمّ وضعها بطريقة عمودية على حائط ببهو المتحف.
وتضمّ لوحات الفسيفساء، صورًا ومشاهد، تعبر عن الأيديولوجيا والتفكير في ذلك العصر، فضلاً عن تجسيدها لطريقة العيش في تلك الحقبة التاريخية، وتغطي هذه اللوحات التي تعدّ أحسن وسيلة لمعرفة الإطار التاريخي والاجتماعي الذي عاشته تونس في العهد الروماني، منذ سقوط قرطاج إلى دخول العرب في القرن السابع الميلادي، مساحة تعادل خمسة آلاف متر مربع، مقسمة على آلاف اللوحات.
فسيفساء تروي الحياة رومانية
ومن بين أهم لوحات الفسيفساء في المتحف، اللوحة التي رسم فيها الشاعر الروماني المشهور “فرجيل” بقطع صغيرة من الرخام والكلس وعجين الزجاج، وهو يرتدي حلّة رومانية بيضاء اللون، تحيط به ربات الفنّ والتبليط الذي يمثّل ديونيزوس وهو يهدي الكرم إلى إيكاريوس أو ذلك الذي يشيد بانتصار نبتون.
إلى جانب ذلك نجد، معلم “هارمايون” الذي يعود إلى العهد الموستيري (40.000 سنة قبل الميلاد) الذي يعتبر من أول أشكال التعبير الروحاني للبشرية، وهو عبارة عن كدس مخروطي الشكل يبلغ طوله 75 سنتيمترًا وعرضه 1.5 متر ويتألف مما يزيد على 4000 قطعة من الصوان والعظام والأكر الكلسية.