نظم مركز الجزيرة للدراسات ندوة حول المسألة الكردية، يومي 25 و26 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تناولت الديناميات الجديدة للملف الكردي في ساحاته الثلاث الرئيسة: العراق وسوريا وتركيا. شارك في أعمال الندوة مثقفون وسياسيون ونشطون أكراد من كل التوجهات والخلفيات، كما شارك فيها أتراك، وعرب عراقيون وسوريون، معروفون باهتمامهم بالمسألة الكردية في بلادهم والإقليم ككل.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يقوم فيها المركز بمعالجة الموضوع الكردي في ندوة خاصة. قبل ما يقارب السنوات الأربع، كان مركز الجزيرة للدراسات أول مؤسسة أبحاث، أكاديمية أو مستقلة، في أي مكان بالعالم، يجرؤ على تكريس ندوة لبحث المسألة الكردية في كل ساحاتها، وليس باعتبارها قضية داخلية، عراقية أو تركية أو سورية، فقط. ولكن، في حين عالجت الندوة الأولى جذور وتجليات الحراك القومي الكردي وسياقاته التاريخية، أولت الندوة الأخيرة اهتماماً أكبر للمتغيرات السياسية الراهنة وعلاقتها بمستقبل الإقليم ومستقبل الأكراد في الإقليم.
كان المتوقع، كما هو الجدل عادة حول المسألة الكردية، أن تشهد الجلسات خلافات حادة وصاخبة بين المشاركين، سواء إن نظر للمشاركين من زاوية الخلاف القومي (عرب وكرد، وأتراك وكرد)، أو نظر إليهم من زاوية الخلاف السياسي، سيما بين الأكراد أنفسهم. والحقيقة، أن خلافات ثارت بالفعل؛ كما كان الأمر عندما قال كفاح محمود، العراقي الكردي، أن رد فعل بغداد على استفتاء تقرير المصير الذي أجرته حكومة أربيل، في إقليم كردستان العراق والمناطق المتنازع عليها، كان مشابهاً للحملة التي قامت بها قوات نظام صدام حسين ضد المناطق الكردية في الثمانينات من القرن الماضي.
اتفق أغلب المشاركين على أن استفتاء سبتمبر/ أيلول لتقرير المصير في كردستان العراق افتقد لحسابات دقيقة، وأن حكومة الإقليم لم تتجاهل حجم المعارضة الإقليمية والدولية للاستفتاء، وحسب، ولكنها تجاهلت، أيضاً، العواقب الجسيمة لهكذا خطوة
وبالرغم من أن العراقي العربي، لقاء مكي، أكد أن صناعة المسألة الكردية تعود لقوى متعددة، وأن مساهمته ستتناول فقط دور الخارج والقوى الدولية، فقد أثار استطلاعه التاريخي استغراباً واستنكاراً ممن حسب أنه يقول أن ليس ثمة مسألة كردية بمعزل عن تدخلات القوى الدولية في شؤون الإقليم. ولكن المدهش أن مواقع الإجماع والتوافق كانت أكثر بكثير، وأوسع نطاقاً، من قضايا الخلاف والافتراق، بالرغم من التنوع الثقافي، الإثني، والسياسي للمشاركين. وربما تشير مساحة التوافق الكبيرة إلى نضج تجربة أهل الرأي والخبرة والعمل العام في المشرق في رؤيتهم لشؤونهم الخاصة وشؤون الإقليم، على السواء، كما تشير إلى مقدار الوهم الذي يحيط مناخ الخوف والتوجس الذي يفصل بين جماعات المشرق الإثنية والسياسية، وأهمية التواصل والحوار في بناء علاقات تعارفية بين أبناء هذه الجماعات.
هذه بعض من المسائل التي بدا لي أنها كانت محل توافق ملموس، أو أنها لم تثر من الجدل ما كان متوقعاً:
اتفق أغلب المشاركين على أن استفتاء سبتمبر/ أيلول لتقرير المصير في كردستان العراق افتقد لحسابات دقيقة، وأن حكومة الإقليم لم تتجاهل حجم المعارضة الإقليمية والدولية للاستفتاء، وحسب، ولكنها تجاهلت، أيضاً، العواقب الجسيمة لهكذا خطوة. أوضحت مساهمات المشاركين الأكراد شيئاً من التباين في قراءت أو لغة المشاركين من أربيل والمشاركين من السليمانية، وقدراً آخر من التباين بين الذين أيدوا إجراء الاستفتاء أصلاً، أو تعاطفوا مع موقف حكومة الإقليم، من جهة، وأولئك الذي عارضوا الاستفتاء من البداية، من جهة أخرى، سواء كانوا عرباً، أتراكاً، أو كرداً. ولكن أحداً من المشاركين لم يختلف في أن قرار حكومة الإقليم جانب الصواب، وأن العناد الذي أحاط خطوات حكومة الإقليم في مواجهة المعارضة الواسعة لإجراء الاستفتاء لم يكن منطقياً ويصعب تفسيره.
الأهم، بالتأكيد، كان اتفاق أغلب الآراء على أن فشل الاستفتاء في تحقيق أهدافه، والدعم الذي تلقته بغداد من تركيا وإيران، كما التأييد الضمني من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وروسيا والصين، وصمت من شجعوا على الاستفتاء (مثل الدولة العبرية والإمارات والسعودية)، أوقع ضرراً بالغاً بالإقليم الكردي العراقي والمكتسبات التي حققها في العقد الماضي، كما بمجمل الحركة الاستقلالية الكردية في الإقليم.
الحقيقة التي يصعب دحضها أن أياً من القوى الدولية لم يعلن التزاماً مطلقاً بقيام دولة كردية في المشرق
أحد المشاركين الكرد قال، بقليل من الصخب والكثير من الواقعية الصارخة، أن حلم الدولة الكردية، أية دولة كردية، في هذا الجيل، قد انتهى، وأن إحياءه من جديد، لا يتطلب مرور زمن طويل فقط، بل وانقلاباً معجزاً في خارطة القوة. لقطاع كبير من المهتمين بالشأن الكردي، كرداً وغير كرد، ربما لا يعتبر هذا التطور باعثاً على الحزن أو الخذلان؛ فربما جاء الوقت ليدرك فيه حتى القوميون الكرد أن مصيرهم وثيق الصلة بمصير أشقائهم ومواطنيهم من العراقيين والسوريين والأتراك، وأن الحقوق الكردية لا يمكن انتزاعها بدون نضال مشترك من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة والحكم الرشيد لكل شعوب المشرق، بما في ذلك الأكراد.
بيد أن ما هو أصعب كان البحث عن الأسباب خلف هذا الإخفاق القومي، وما إذا كانت الانقسامات الكردية العميقة (كما الانقسام بين أربيل والسليمانية، وبين العمال الكردستاني، بفروعه المختلفة، والقوى السياسية الكردية الأخرى في العراق وتركيا وسوريا)، وهشاشة الحركة القومية الكردية، كانت السبب الرئيس خلف الإخفاق. ما بدا أكثر وضوحاً في النقاش المتداخل كان ضرورة إجراء مراجعة كردية جادة على المستويين، الفكري والسياسي، لتعويل الحركة القومية الكردية المتكرر على القوى الخارجية، ابتداء من علاقة جمهورية مهاباد مع السوفيات في الأربعينيات، وصولاً إلى أوهام تحالف قطاع من أكراد سوريا مع الولايات المتحدة في الحالة الراهنة.
الحقيقة التي يصعب دحضها أن أياً من القوى الدولية لم يعلن التزاماً مطلقاً بقيام دولة كردية في المشرق، وأن دعم ستالين لجمهورية مهاباد كان وقتياً وتكتيكياً ووضع كورقة مساومة لا أكثر. استخدمت القوى الدولية الحركة القومية الكردية لتحقيق أهدافها الخاصة في المشرق، وليس العكس، وكان التخلي عن الأكراد هو أخف الإجراءات ثقلاً على ضمير هذه القوى، كلما تغيرت معطيات القوة وعلاقاتها.
ولدت المسألة الكردية في المشرق في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، مباشرة بعد نهاية الحرب الأولى، تماماً كما المسألة الفلسطينية وتجزئة المشرق العربي، التي أطلقت الحركة القومية العربية
خلال الأسابيع القليلة التالية على عقد الاستفتاء في شمال العراق، تعهدت بغداد تحركات عسكرية واسعة النطاق لحسم الموقف في المناطق المتنازع عليها، كان أبرزها إعادة كركوك لسيطرة الحكومة المركزية. وبالرغم من أن هذه التحركات تسببت في سقوط عدد من الضحايا، إلا أن تدافعات ما بعد الاستفتاء لم تشهد عودة إلى عنف القرن العشرين في العلاقة بين بغداد وأكراد العراق. وهذا ما دفع عدداً من المشاركين إلى دعوة كل أطراف التدافع والصراع، في العراق، كما في سوريا وتركيا، إلى التخلي الكامل عن استخدام العنف، وإلى تموضع حصري للمسألة الكردية في الدائرة السياسية، تموضع ملزم لكل الأطراف.
والحكمة هنا لا يجب أن تخفى على أحد؛ لأن الصراع الذي أطلقه الحراك القومي الكردي خلال ما يقارب القرن لم يقتصر على المسلحين القوميين الأكراد، من جهة، وقوى الأنظمة الحاكمة المسلحة، من جهة أخرى، بل وتحول في بعض الحالات إلى ما يشبه الحرب الأهلية، بكل ما في ذلك النمط من الصراع من عواقب على العلاقات بين الشعوب وعلى الذاكرة الجمعية للشعوب.
في النهاية، ولدت المسألة الكردية في المشرق في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، مباشرة بعد نهاية الحرب الأولى، تماماً كما المسألة الفلسطينية وتجزئة المشرق العربي، التي أطلقت الحركة القومية العربية. معاً، رسمت هذه المسائل الثلاث الملامح الرئيسة للمشرق طوال القرن الماضي. وليس ثمة شك أن التغافل عن أي منها، سيكون له عواقب بالغة الأثر على مستقبل المشرق وشعوبه.