بعد 50 عامًا على نكبة 1967 تلك الحرب التي فرضت دولة الكيان الصهيوني أمرًا واقعًا على خريطة المنطقة إثر سيطرتها على أجزاء متعددة من الأرضي العربية، ها هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يعيد ذكرياتها المُرة مرة أخرى بإعلانه نقل سفارة بلاده إلى القدس معترفًا بذلك بها عاصمة لـ”إسرائيل”.
تنفيذ ترامب لوعده الذي قطعه على نفسه إبان حملته الانتخابية الرئاسية جاء بمثابة الصدمة للعرب والمسلمين من جانب، وبعض المتعاطفين مع القضية الفلسطينية من جانب آخر، غير أن هذا القرار الذي اتخذه بالأمس الـ6 من ديسمبر أثار حالة من الجدل بشأن تأثيره الفعلي على أرض الواقع، ومدى إحداثه أي تغيير في الوضع القانوني لمدينة القدس.
القدس في القانون الدولي
مرت القدس في تاريخ وضعيتها القانونية بمراحل ثلاثة، الأولى: كانت قبل الانتداب، وفيها كانت السيادة على كامل الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس والمقدسات الدينية بأيدي العثمانيين، ومن ثم فما كانت هناك أي خلافات أو مناوشات على وضعية هذه المدينة.
الثانية: خلال فترة الانتداب البريطاني، فبعد سقوط الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، أقرت عصبة الأمم الانتداب البريطاني على فلسطين في 11 من سبتمبر 1922، غير أن السيادة الفعلية على القدس كانت معلقة، ولم تنقل إلى سلطة الانتداب كذلك لم تحول إلى عصبة الأمم، وظلت على هذه الوضعية المعلقة حتى عام 1948.
الثانية: إقامة الكيان الصهيوني بعد إعلان إقامة دولة الاحتلال فوق الأراضي الفلسطينية واعتراف الأمم المتحدة بها عام 1949، أعلنت “إسرائيل” سيادتها على بعض الأراضي التي كانت واقعة تحت الانتداب السابق، وإن كان هذا لم يتضمن اعترافًا بسيادتها على كل الأراضي التي استولت عليها بما فيها القدس الغربية.
أما فيما يتعلق بالقدس الشرقية فكانت تحت الإدارة الواقعية للأردن، حتى وإن احتلها الكيان الصهيوني في أعقاب حرب 1967، إلا أن ذلك لم يمنحه أي حقوق ملكية، وذلك وفق القاعدة المؤسسة جيدًا في القانون الدولي والتي تنص على أن الاحتلال لا يستطيع منح حقوق للملكية، كذلك مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة ووجوب انسحاب “إسرائيل” من الأراضي التي احتلتها في 1967 كما ورد في قرار مجلس الأمن رقم ( 242) بناءً عليه، تبقى السيادة على القدس الشرقية معلقة كما هو الأمر بالنسبة لبقية فلسطين.
وظلت مدينة القدس في القانون الدولي باعتبارها (corpus separatum) عن بقية الأراضي الفلسطينية والمحتلة في ظل نظام دولي تُديره الأمم المتحدة وفق قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة (قرار الجمعية العامة رقم 181)، لذا لم يحدث أن كان هناك أي اعتراف قانوني باحتلال دولة الكيان الصهيوني للقدس مطلقًا.
وفي المجمل فقد رفض المجتمع الدولي رفضًا باتًا ادعاءات السيادة الإسرائيلية على المدينة (بقسميها الشرقي والغربي)، ولم يقبل أيضًا بأن هناك الآن سيادة لأي دولة على المدينة، معتبرًا أن السيادة عليها في الوقت الحاليّ “معلقة”، كما تشير الدلائل إلى وجود إجماع دولي بأن يكون للقدس وضع منفصل عن دولة الكيان الصهيوني وبقية الأراضي المحتلة.
الموقف الفلسطيني
أما الموقف الفلسطيني من هذه المدينة المقدسة يتمثل في كونها عاصمة دولة فلسطين وهو ما نص عليه إعلان المبادئ الذي تبناه المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1988 على “إقامة دولة فلسطين على أرض فلسطين وأن تكون عاصمتها في القدس”، استنادًا في أساسه إلى أن القدس كانت في ظل العثمانيين جزءًا لا يتجزأ من أراضي فلسطين، قبل الانتداب وأثنائه، كانت القدس العاصمة الإدارية لفلسطين، إلى أن غيرت الهجرة اليهودية التركيبة الديمغرافية للمدينة.
المؤتمر السادس لرؤساء دول وحكومات عدم الانحياز الذي عقد في هافانا عام 1979 أكد بعض المبادئ بغية التوصل لحل شامل لمسألة الصراع العربي الإسرائيلي على رأسها اعتبار أن “مدينة القدس جزء لا يتجزأ من فلسطين المحتلة، حيث يجب الانسحاب منها كلها وإعادتها دون قيد أو شرط إلى السيادة العربية”.
هذا بخلاف ما أكدته “جلسة فلسطين والقدس الشريف” لمؤتمر القمة الإسلامي التي عُقدت في مكة في 1981 بشأن “إصرار الشعب الفلسطيني على الحفاظ على حقه الخالد في المدينة المقدسة باعتبارها عاصمة وطنه فلسطين، وكذلك إصرار الحكومات والشعوب الإسلامية على حقها الخالد في مدينة القدس المقدسة في ضوء الأهمية السياسية والدينية والثقافية والتاريخية الدائمة للقدس لدى المسلمين كافة”.
جدير بالذكر أن مطالبة الفلسطينين بأن تكون القدس عاصمة لدولتهم لا يتعارض مع الحلول والمقترحات المقدمة بشأن التوصل إلى حل للنزاع مع “إسرائيل” في هذه المسألة، فلا يعني ذلك بالضرورة أن تكون لدولة فلسطين السيادة الكاملة على المدينة برمتها، فمن الممكن أن ينفذ اقتراح التدويل مثلاً كما جاء في القرار (181) وفي الوقت نفسه يكون معلومًا أن المدينة تقع تحت السيادة الفلسطينية قانونًا.
السيادة على القدس حاليًّا مُعلقة، يبدو كذلك أن هناك إجماعًا بأن للقدس وضع منفصل عن “إسرائيل” وبقية الأراضي المحتلة
سيطرة الاحتلال على القدس في 1967 لم تمنحه أي حقوق ملكية
ماذا عن الوصاية الأردنية؟
يفرض الأردن وصايته على المقدسات الدينية بالقدس منذ “بيعة الشريف”، عام 1924، غير أنها تنقلت بعد ذلك إلى قيادات فلسطينية حتى عام 1948، حين شنت بعض الدول العربية حربها ضد الميليشيات الصهيونية، لتعود الوصاية الأردنية على المقدسات مرة أخرى، حيث أعلن الحاكم العسكري الأردني حينها استمرار سريان القوانين والتشريعات المطبقة في فلسطين بعد أن كانت توقفت لفترات سابقة.
في عام 1949 أعاد الأردن نظام الحكم المدني إلى الضفة الغربية بموجب قانون الإدارة العامة على فلسطين، وفي عام 1950 تم توحيد الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن رسميًا، كما تم تأكيد استمرار سريان القوانين السارية المفعول في الضفة الغربية في نهاية فترة الانتداب البريطاني إلى حين استبدالها بقوانين أردنية، واستمرت هذه السيادة بشكلها القانوني والإداري الكامل حتى عام 1967 حين احتلت “إسرائيل” الجانب الشرقي من المدينة.
ورغم الاحتلال ظلت السيادة على المقدسات أردنية بشكل كبير، حيث تشرف وزارة الأوقاف الأردنية على غالبية موظفي المسجد الأقصى ومرافقه، وذلك بالتعاون مع وزارة الأوقاف الفلسطينية، أما فيما يتعلق بالمقدسات المسيحية فقد منح الهاشميون الحرية المطلقة للطوائف المسيحية المختلفة لصيانة وإعمار كنائسهم وأديرتهم.
سعت السلطة الفلسطينية كثيرًا للاستقلال عن الأردن فيما يتعلق بالسيادة على المدينة المقدسة، وتحت الإلحاح الشديد من الزعيم الراحل ياسر عرفات، اتخذ الملك الراحل حسين بن طلال قرارًا بفك الارتباط عام 1988 مع الضفة الغربية إداريًا وقانونيًا، ومع ذلك أبقى عرفات للملك حسين حق الوصاية على المقدسات بشكل شفوي قبل أن يتم توثيقة كتابة نهاية مارس/آذار 2014 عندما قام الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، بإعطاء العاهل الأردني عبد الله الثاني هذا الحق.
الموقف الفلسطيني من هذه المدينة المقدسة يتمثل في كونها عاصمة دولة فلسطين وهو ما نص عليه إعلان المبادئ الذي تبناه المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1988
مطالب صهيونية بسحب الوصاية
لم تنكر دولة الكيان الصهيوني حق الأردن في الوصاية على المقدسات الدينية في مدينة القدس، وذلك في ضوء اتفاقية السلام “وادي عربة” الموقعة معها في 1994، كذلك تعهدها بالالتزام بإعلان واشنطن الذي ينص على تعهد “إسرائيل” باحترام الدور الأردني في الأماكن المقدسة في القدس الشريف، ناهيك عن اتفاقية “وادي عربة” التي تؤكد الوصاية الأردنية.
غير أنه في فبراير 2014 تقدم النائب اليميني المتطرف موشيه فيغلين عضو الكنيست، بمقترح يطالب فيه بنقل السيادة على المسجد الأقصى من الحكومة الأردنية إلى الحكومة الإسرائيلية، حيث يري فيغلين أنه “حين نهرب عن جبل الهيكل (الأقصى) فإننا نفقد شرعية وجودنا في تل أبيب، لا معنى لوجودنا هنا من دون هذا المكان”.
ومع ذلك ورغم فشل الكنيست في التصويت على هذا المقترح نتيجة رفض شريحة كبيرة من أعضائه له، فإن مسألة إخضاع الأمر للنقاش والطرح أثار الكثير من التخوفات لا سيما لدى الحكومة الأردنية التي حذرت من تداعيات هذه الخطوة وتهديدها للأمن القومي الأردني من جانب، ولمستقبل اتفاقية السلام الموقعة مع الجانب الإسرائيلي من جانب آخر.
https://www.youtube.com/watch?v=f7E8Xd13Bls
هل يؤثر قرار ترامب على وضعية القدس؟
بعيدًا عن حالة القلق والترقب التي يحياها سكان مدينة القدس عقب قرار ترامب بالأمس، في ظل وجود خطط إسرائيلية جاهزة لإحداث تغيير ديموغرافي وسكاني واسع يخشى الفلسطينيون من تنفيذها استغلالاً لهذا القرار الذي من الممكن أن يؤدي لفرض واقع جديد لا سيما في الأماكن الدينية المتمثلة في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتعزيز مبدأ التقسيم الزماني والمكاني وصولاً إلى فرض رموز عبرية باعتبار المدينة باتت تشكل عاصمة لهم، إلا أن تأثير هذه الخطوة على الوضع القانوني للمدينة مسألة تفرض نفسها أيضًا بقوة على الساحة.
بداية يجدر بنا أن نشير إلى أن قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس ليس جديدًا، فإرهاصاته الأولى بدأت خلال ولاية جورج بوش الابن، حين أصدار وزير خارجيته حينها كولن باول، في 2001، قرارًا باعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال إلا أنه لم يدخل حيز التنفيذ في تلك الفترة.
قرار ترامب يعد اعترافًا صريحًا من واشنطن بأن القدس عاصمة لـ”إسرائيل” وهذا الأمر ليس بمستغرب في ظل العلاقات التي تربط بين واشنطن وتل أبيب، غير أنه ووفق خبراء القانون الدولي فارغ من تأثيره القانوني كونه يستند إلى مخالفة واضحة للقرارات والمواثيق الدولية، وإن كان على أرض الواقع سيعطي تل أبيب الضوء الأخضر لبسط المزيد من نفوذها داخل المدينة، كما تم الإشارة إلى ذلك.
يخالف القرار ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، الذي يحرم احتلال أراضي الغير بالقوة، بل ويحرم الميثاق مجرد التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدولية، إضافة إلى تعارضه مع قرار التقسيم (181) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 من نوفمبر 1947، والقاضي بقيام دولتين (يهودية وفلسطينية)، ومنح القدس وضعا قانونيًا خاصًا.
كما تتعارض هذه الخطوة مع حزمة من القرارات الدولية الصادرة بحق مدينة القدس تتجاوز أعدادها 60 قرارًا منها:
– القرار (2334) الصادر في 23/12/2016 عن مجلس الأمن والذي ينص على: “إنشاء “إسرائيل” للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، ليس له أي شرعية قانونية، ومطالبة “إسرائيل” بوقف فوري لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وعدم الاعتراف بأي تغيرات في حدود الرابع من حزيران 1967″.
– القرار (179/65) الصادر في 20/12/2010 عن الجمعية العامة للامم المتحدة والذي ينص على تأكيد الأمم المتحدة ” أن ما تقوم به إسرائيل حالياً من تشييد للجدار والمستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك داخل القدس الشرقية وحولها، يشكل انتهاكًا للقانون الدولي، ويحرم الشعب الفلسطيني حرمانًا خطيرًا من موارده الطبيعية، وتدعو، في هذا الصدد، إلى التقيد التام بالالتزامات القانونية التي أكدتها الفتوى الصادرة في 9 من يوليو/تموز 2004 عن محكمة العدل الدولية (9) وقرارات الأمم المتحدة المتخذة في هذا الصدد، بما فيها قرار الجمعية العامة داط – 10/15 “
– القرار رقم (50/22) الصادر في 4/12/1995 عن الجمعية العامة، والمتضمن “شجب انتقال البعثات الدبلوماسية إلى القدس، وإعادة تأكيد معاهدتيْ لاهاي وجنيف على الجولان”.
قرار ترامب يعد اعترافًا صريحًا من واشنطن بأن القدس عاصمة لـ”إسرائيل” وهذا الأمر ليس بمستغرب في ظل العلاقات التي تربط بين واشنطن وتل أبيب، غير أنه ووفق خبراء القانون الدولي فارغ من تأثيره القانوني
القرار (278) الصادر في 25/9/1971 عن مجلس الأمن والذي أشار إلى أن المجلس “يؤكد من جديد قراراته 252 (1968) و267 (1969). يعرب عن استيائه لعدم قيام “إسرائيل” باحترام القرارات السابقة التي اعتمدتها الأمم المتحدة بشأن التدابير والإجراءات التي تتخذها “إسرائيل”، وترمي إلى التأثير على وضع مدينة القدس، يؤكد بأوضح العبارات أن جميع الإجراءات التشريعية والإدارية التي اتخذتها “إسرائيل” لتغيير وضع مدينة القدس، بما في ذلك مصادرة الأراضي والممتلكات، ونقل السكان والتشريعات التي تهدف إلى ضم القطاع المحتلة، لاغية كليًا ولا يمكن أن تغير الوضع”.
وبعيدًا عن الأهداف التي سعى ترامب من خلالها لاتخاذ هذا القرار في الوقت الذي يواجه فيه ضغوطًا داخلية تهدد مستقبله السياسي داخل البيت الأبيض، ومحاولاته لكسب دعم وتأييد اليهود الأمريكان داخل أجهزة الدولة الحساسة عبر مغازلة فجة، فإن هذه الخطوة وإن لم تغير الوضع القانوني للمدينة إلا أنها ستنعكس سلبًا على سكانها بصورة خاصة والفلسطينيين بصورة عامة، خاصة في ظل المتوقع من استغلال الكيان الصهيوني لهذا القرار لتمرير خططه ومؤامراته لتهويد القدس بشكل كامل، وهو ما يضع العرب والمسلمين في تحدٍ صعب أمام مسؤولياتهم للدفاع عن القضية الأبرز في تاريخهم الحديث.