يشبه البحث عن السيولة المالية في قطاع غزة الذي يعيش على وقع حرب إسرائيلية مدمِّرة للشهر السابع على التوالي، العثور على إبرة في كومة من القش، نظرًا إلى الواقع الصعب الذي وصل إليه المشهد الاقتصادي.
لا توجد في القطاع أو الأراضي الفلسطينية عمومًا عملة وطنية، إذ يعتمد الفلسطينيون على عملة الاحتلال المسمّاة بالشيكل، إلى جانب الدولار الأمريكي والدينار الأردني. وإلى جانب هذا الأمر، انعكست تداعيات الحرب الإسرائيلية بالسلب على توفر السيولة النقدية لعدة اعتبارات، أهمها عدم دخول السيولة النقدية بشكلها الشهري من خلال سلطة النقد الفلسطينية التي تنظّم عمل الجهاز المصرفي.
أزمة السيولة في الحرب
تتم عملية توفير السيولة النقدية من خلال البنوك المحلية الخاضعة لرقابة السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب الرقابة الأمريكية والدولية عبر دوائر مراقبة ما يعرَف بـ”مكافحة الإرهاب”.
ومع تواصل الحرب الإسرائيلية وإغلاق المصارف أبوابها، وعدم إدخال الاحتلال أي أموال جديدة إلى القطاع المصرفي في غزة، باتت عملية استلام الأموال عملية معقدة تخضع لحسابات ونسب كبيرة من الناحية المالية، حيث يعتمد الفلسطينيون في الحصول على الأموال حاليًّا على الصرافين ومكاتب الصرافة غير الرسمية التي تعمل في مجال الصرافة بالأساس، وباتت الملاذ الوحيد للحصول على الأموال طوال فترة الحرب.
وبحسب جمعية البنوك الفلسطينية، ومقرّها رام الله، يوجد على مستوى القطاع 56 فرعًا و92 صرّافًا آليًّا تتبع لمختلف المصارف العاملة في الأراضي الفلسطينية، ولا تتوفر حتى اللحظة إحصائية دقيقة عن مستوى الدمار الذي حلَّ بها بسبب الحرب.
وفي حالة مدينة رفح التي تأوي حاليًّا زهاء مليون و300 ألف فلسطيني يمثلون أكثر من نصف تعداد السكان في القطاع، فإن بنك فلسطين وغيره من البنوك يواجه تحديات كبيرة في توفير السيولة النقدية التي تسدّ حاجة هذا العدد الهائل من السكان.
تجارب صعبة
يتحدث الفلسطيني صلاح البراهمة عن صعوبة توفير السيولة النقدية له ولعائلته منذ أكثر من شهرَين، نظرًا إلى النقص الكبير في المال الموجود في الأسواق الفلسطينية.
ويقول البراهمة لـ”نون بوست” إن الظروف الاقتصادية باتت في غاية السوء بالنسبة إلى غالبية الأسر الفلسطينية، نتيجة شحّ السيولة النقدية وصعوبة توفيرها والنسبة المرتفعة التي يضعها الصرّافون.
ويشير إلى أن الصرّافين في بداية الحرب على غزة كانوا يضعون نسبة لا تتجاوز 1-2% في أسوأ الأحوال، ثم ارتفعت النسبة بشكل تدريجي حتى وصلت مع نهاية أبريل/ نسيان الحالي إلى 20%، إذ يتحمل مستلم الحوالة المالية النسبة التي يتحصّل عليها الصراف إلى جانب النسبة التي يرسلها الشخص، علاوة عن صرفها بعملة الشيكل الإسرائيلي بنسبة أقل من سعر صرف السوق، وفقًا للبراهمة.
ويشير إلى أن السكان بات بعضهم يستعيض بالتحويل عبر الحسابات البنكية والتطبيقات الخاصة بالمصارف لشراء بعض السلع أو توفيرها فيما بينهم، مقابل نسب أقل بكثير ممّا يطلبه الصرافون.
أما الفلسطينية عبير المقيد فكان حالها مشابهًا إلى حدّ ما لسابقها، إذ لم تتمكن من استلام حوالة مالية من الخارج نظير عملها، نظرًا إلى ارتفاع النسبة التي يطالب بها الصرّاف، وتصف المقيد في حديثها لـ”نون بوست” ما يجري بأنه تلاعب من قبل السماسرة وتجار الحروب بأموال الفلسطينيين، في ظل الظروف الصعبة التي تمرّ بهم في القطاع.
وتقول إن اقتطاع نسبة مالية تتراوح ما بين 15% إلى 20% يساهم في تقليص الحوالات المالية، وتقليص أثرها على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي للأسر الفلسطينية.
وتلفت المقيد إلى أن أزمة السيولة النقدية تترافق مع ارتفاع في أسعار السلع الغذائية والمواد التجارية الرئيسية التي يحتاج النازحون إلى شرائها، في ظل الحرب المتواصلة منذ السابع من أكتوبر 2023.
مسبّبات وعجز رسمي
أما سلطة النقد الفلسطينية فتُرجع أسباب الأزمة الحالية إلى تعرُّض عدد من فروع المصارف ومقراتها للتدمير نتيجة القصف المستمر في كلّ أنحاء قطاع غزة، وتعذُّر فتح ما تبقى من فروع للقيام بعمليات السحب والإيداع في محافظات القطاع كافة، بسبب القصف والظروف الميدانية القاهرة وانقطاع التيار الكهربائي والواقع الأمني، الأمر الذي نجمت عنه أزمة غير مسبوقة في وفرة السيولة النقدية بين أيدي المواطنين وفي الأسواق، وتفاقمت الأزمة مع خروج معظم أجهزة الصراف الآلي عن الخدمة.
وبحسب السلطة، فإنها رصدت عمليات ابتزاز يقوم بها أشخاص وتجار وبعض أصحاب محلات الصرافة غير المرخصة، باستخدام أجهزة الخصم المباشر في نقاط البيع، أو التحويلات المالية على التطبيقات البنكية، إذ يستغل هؤلاء حاجة المواطنين إلى النقد مع استمرار تعذُّر وصولهم إلى أفرع البنوك والصرافات الآلية، ويتقاضون نسبة تصل إلى 15% على أي مبلغ يتم سحبه من حساب المواطن بواسطة البطاقات البلاستيكية أو الحوالة، مقابل تسليمه الجزء المتبقي نقدًا.
إلى جانب عجز سلطة النقد الفلسطينية، تغيب وزارة الاقتصاد عن المشهد والجهات الشرطية المختصة في هذا المجال، جراء عمليات الاستهداف الإسرائيلي للعاملين في القطاع الحكومي، ومع عدم وجود آفاق لحلول قريبة، يبدو الفلسطينيون على عتبات العودة إلى نظام المقايضة الذي كان شائعًا قبل قرون، في ظل عدم وجود أي سيولة نقدية متوفرة في الأسواق.
الصرّافون يبررون الأزمة
امتنع الكثير من الصرافين عن الحديث بشكل معلن وواضح عن أسباب الأزمة الحالية وطبيعة النسب التي يفرضونها، إلا أن بعضهم وافق على شرح موجز للتفاصيل.
الصرّاف إحسان الذي طلب من “نون بوست” عدم كشف هويته بشكل كامل، يقول إن سبب الأزمة هو الزيادة الكبيرة في معدل التحويل المالي للأفراد، وإغلاق البنوك أبوابها منذ شهور طويلة.
ويشير إلى أن ما يحصل هو عملية تدوير للسيولة النقدية المتوفرة في الوقت الراهن بين السكان، في ظل عدم إدخال مبالغ مالية تكفي لسدّ حاجة السكان والقطاع المصرفي على حدّ سواء.
ويوضح الصراف الفلسطيني أنهم اضطروا إلى إخراج السيولة النقدية القديمة التي حلت بعدها أوراق جديدة، سواء من الدولار أو الشيكل، لتلبية العجز الشديد الموجود في السوق.
ويشير إلى أن قيام السلطة الفلسطينية بصرف رواتب موظفيها في غزة كان يسبب زيادة في الأزمة، حيث كانت بعض البنوك تقوم بجمع السيولة من السوق لوضعها في أجهزة الصراف الآلي.
قبل الحرب، كانت تتوفر السيولة النقدية بأشكال متعددة، لعلّ أبرزها الإدخلات الشهرية التي تقوم بها سلطة النقد إلى غزة، إلى جانب رواتب موظفي غزة وموظفي الأونروا والمنحة القطرية والمشاريع الدولية.