“إن تصرفات إسرائيل تظهر عدم قدرتنا على عيش حياة بلا حواجز، وعجزنا عن تحرير أنفسنا من الولاء العرقي الذي يقيدنا ويشوهنا”، حديث موجّه لليهود قالته عالمة الاقتصاد السياسي وأستاذة التنمية الاقتصادية بجامعة هارفارد الأمريكية، اليهودية سارة روي، خلال مقال لها بعنوان “نداء يهودي (A Jewish Plea)” يبيّن كيف أن “إسرائيل” تمثل بالنسبة إليها كيهودية مشكلة إنسانية وتشوهًا أخلاقيًّا.
سارة روي هي ابنة لأب وأمّ بولنديَّين يهوديَّين نجوَا من المحرقة النازية، وتعتبر أن غزة هي بيتها الثاني بعد الولايات المتحدة، فقد كرّست لها حياتها الأكاديمية، وأنتجت عنها عشرات الأبحاث التي تدعم حقّ أهلها في العيش بسلام وازدهار، حتى وُصفت بأنها الباحثة الغربية الأكثر احترامًا بين أهل غزة.
تعتبر سارة في مقالها المطوّل الذي نشرته عام 2007، أن المحرقة النازية التي عانى منها اليهود كان يفترض أن تكون درسًا لتطهيرهم أخلاقيًّا، معتبرة أن الإسرائيليين الذين يرتكبون الجرائم بحقّ العرب ليسوا أبناءً شرعيين ليهود المحرقة الذين عانوا الاضطهاد، لأنهم بدلًا من التطهُّر الأخلاقي استخدموا المحرقة لتقوية فكرة القومية اليهودية على حساب العرب وفي قلبهم الفلسطينيين.
يمثل الجانب الروحي من اليهودية مكونًا من مكونات عقل سارة روي، لكنها ليست صهيونية، وكذلك هي من أقوى الناشطين والأكاديميين المدافعين عن الفلسطينيين منذ ثمانينيات القرن العشرين وحتى “طوفان الأقصى” وما بعده.
وما يميزها عن غيرها من اليهود الغربيين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، أنها الأكثر تخصصًا واعتناءً بقطاع غزة تحديدًا، فهي الأكثر التصاقًا من الباحثين الغربيين بأحوال أهله المعيشية والإنسانية والاقتصادية، وكذلك لها دراسة حول فكرة المقاومة، وأخرى حول حركة حماس، ليس كونها حركة مقاومة فقط، لكن كجماعة نشطة في خدمة أهل غزة ومتجذّرة إنسانيًّا في القطاع والأراضي الفلسطينية.
متى وكيف بدأ اهتمام سارة روي بالقضية الفلسطينية وبقطاع غزة؟ وماذا قدمت من أجل ذلك؟ وما أهم الأفكار التي تبنّتها حول القضية الفلسطينية؟ وما موقفها من “طوفان الأقصى”؟ هذا ما نحاول توضيحه.
عجوز وحمار: كيف تحولت سارة روي إلى الدفاع عن الفلسطينيين؟
نشأت سارة في الولايات المتحدة لأبوين بولنديَّين نجوَا من المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، التي راح ضحيتها 100 من أفراد عائلتها بين أعمام وعمات وأخوال وخالات وأبنائهم، وكانت حكايات المحرقة تتردد على أسماعها وهي طفلة، حتى قالت: “إن المحرقة كانت السمة المميزة لحياتي”، حسبما تحكي في مقال مطوّل لها بعنوان “العيش مع المحرقة: رحلة طفل من الناجين من الهولوكوست (Living with the Holocaust: The Journey of a Child of Holocaust Survivors)” نشرته “مجلة الدراسات الفلسطينية” باللغة الإنجليزية عام 2002.
لم تعرف سارة الكثير عن أقاربها الذين ماتوا في المحرقة، لأن والدها أبراهام كان ينهار حين يتذكرهم، خاصة أنه كان الناجي الوحيد من بين إخوته، وكان من الذين أدلوا بشهادتهم في محاكمة إيخمان في القدس عام 1961.
أما والدتها تاوبا فكان لها 9 إخوة، 7 ذكور وبنتَين، وكان والدها حاخامًا، وكلهم راحوا في المحرقة فيما عدا تاوبا واثنتين من إخوتها، إحداهن لم تكن في بولندا من الأساس وقتها، حيث كانت قد هاجرت إلى فلسطين عام 1936.
بعد الحرب العالمية رفضت تاوبا (والدة سارة) الهجرة إلى “إسرائيل” مع أختها التي أرادت اللحاق بأختهنّ الثالثة، وفضّلت الهجرة إلى الولايات المتحدة، وكانت تقول لسارة إن رفضها العيش في “إسرائيل” سببه أن المرء لا يمكن أن يمارس قيم التسامح والرحمة والعدالة إلا في مجتمع متنوع، وليس في مجتمع ينتمي كل من فيه إلى دين واحد وقومية واحدة مثل “إسرائيل”.
في هذه الأجواء وبين هذه القيم نشأت سارة روي، وتعلق على ذلك بقولها: “في منزلنا لم نكن نمارس اليهودية كشريعة وطقوس بقدر ما كانت نظامًا للأخلاق والقيم، وكان والدَي ينتقدان “إسرائيل” بعكس الكثير من اليهود الأمريكيين، لأن فكرة الدولة وطاعتها بالنسبة إليهما ليست قيمة دينية يهودية”.
تسرد روي مجموعة من القصص التي عايشتها بنفسها في فلسطين وجعلتها ترى بنفسها واقع الشعب الفلسطيني، والصورة المزيفة التي تسوّقها “إسرائيل” عن هذا الواقع في الغرب
زارت سارة “إسرائيل” في طفولتها عدة مرات بسبب وجود خالتَيها هناك، وحين صارت مراهقة بدأت تدرك الواقع الفلسطيني تدريجيًّا، وبدأت تربط ما بين معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال ومعاناة اليهود مع النازية.
في عام 1985 زارت سارة الضفة الغربية وقطاع غزة لأول مرة لإجراء دراسة ميدانية تتعلق بأطروحتها للدكتوراه في جامعة هارفارد، والتي تتناول كيفية تعزيز التنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، في ضوء المساعدات الاقتصادية الأمريكية للفلسطينيين.
في هذه الزيارة شاهدت روي مشهدًا وضع يدها على الجرح الفلسطيني، حيث تحكي: “أثناء وقوفي في أحد الشوارع مع بعض الأصدقاء الفلسطينيين، لاحظت وجود فلسطيني مسنّ يسير في الشارع يقود حماره، وكان معه طفل صغير لا يتجاوز عمره 3 أو 4 سنوات، ومن الواضح أنه حفيده، وحينها هجم عدد من جنود الاحتلال الإسرائيلي على العجوز وأوقفوه. اقترب أحد الجنود من الحمار وفتح فمه، وسأل العجوز ساخرًا: لماذا تركت أسنان حمارك صفراء إلى هذا الحد؟ لماذا لا تنظف أسنان حمارك؟ كرر الجندي سؤاله وهو يصرخ في وجه العجوز الخائف وحفيده الباكي، بينما باقي الجنود يضحكون، وإمعانًا في الإذلال أمر الجندي العجوز بتقبيل مؤخرة الحمار”.
وتكمل حديثها: “في البداية رفض الرجل العجوز، لكن عندما صرخ الجندي في وجهه وأُصيب حفيده بحالة هستيريا، انحنى العجوز الذليل ونفّذ الأمر، وضحك الجنود وابتعدوا”.
وتعلق سارة على الحكاية قائلةً: “لقد حققوا هدفهم وهو إذلال العجوز الفلسطيني، بينما وقفنا في صمت، نخجل من النظر إلى أنفسنا، ولم نسمع شيئًا سوى تنهُّدات الطفل الصغير التي لا يمكن السيطرة عليها”.
وتكمل: “فكرت على الفور في القصص التي أخبرني بها والداي عن كيفية معاملة اليهود على يد النازيين في ثلاثينيات القرن العشرين، في الأحياء اليهودية ومعسكرات الموت، وكيف كانوا يجبرون اليهود على تنظيف الأرصفة بفرشاة الأسنان وقصّ لحاهم في الأماكن العامة.. إن ما حدث للرجل العجوز كان معادلًا تمامًا من حيث المبدأ والقصد والتأثير لما فعله النازيون باليهود، وهو الإذلال والتجريد من الإنسانية”.
قصة أخرى تحكيها روي عن كيف تعلمت “الرعب المطلق”، وذلك حين حُبست في غرفة داخل أحد مخيمات اللاجئين مع صديقتها الفلسطينية ربيعة البالغة من العمر 18 عامًا، بينما كان جنود الاحتلال يحاولون كسر باب الغرفة للقبض على ربيعة التي تجمّد جسدها بسبب الخوف.
وتسرد روي مجموعة من القصص التي عايشتها بنفسها في فلسطين خلال إعداد دراستها الميدانية، تلك الوقائع التي جعلتها ترى بنفسها واقع الشعب الفلسطيني، والصورة المزيفة التي تسوّقها “إسرائيل” عن هذا الواقع في الغرب، بشكل جعلها تتبنّى قضية الفلسطينيين، وتبدأ كأكاديمية تدرس تاريخ القضية وواقع الشعب الفلسطيني بكل جوانبه، وتتحول إلى واحدة من أهم المدافعين عنه، وترى ببساطة أن المشكلة الفلسطينية حلّها الوحيد هو إنهاء الاحتلال.
حصار غزة بعيون سارة: مشي بقدمَين عاريتَين فوق زجاج مكسور
بعد حصولها على الدكتوراه التي تتناول الواقع الاقتصادي الفلسطيني في ضوء الاحتلال الإسرائيلي، أكملت روي الطريق الأكاديمي في هذا الاتجاه، وأخذت على عاتقها التعمق في حياة الفلسطينيين ومعيشتهم وأحوالهم أكثر من أي باحث آخر، لا سيما في قطاع غزة الذي صكّت حوله مصطلحًا صار متداولًا في الأوساط الأكاديمية الغربية، حسبما تقول جامعة هارفارد على موقعها الخاص، وهو “إفقار غزة (Gaza’s de-development)”.
ولعلّ أبرز كتبها هو “The Gaza Strip: The Political Economy of De-development”، وصدرت له ترجمة بالعربية بعنوان “قطاع غزة: السياسة الاقتصادية للإفقار التنموي”، وهو الكتاب الذي صدر عام 1995 ثم أعادت سارة روي إصداره مرتَين، إحداهما عام 2001، والأخرى عام 2014 بعد ذلك، وفي كل مرة تعيد تنقيحه وفقًا للمستجدات على الأرض الفلسطينية.
وخلاله تشرح سارة بالأرقام والبيانات والإحصاءات كيف أن الاحتلال الإسرائيلي يتعمّد إفقار غزة وإعاقة التنمية بها منذ احتلال القطاع عام 1967، مشيرة إلى أن القطاع كان فيما سبق مرتبطًا بالضفة الغربية ومتكاملًا اقتصاديًّا، لكن “إسرائيل” تعمّدت تحويله إلى جيب معزول فقير، وكلما حاول أهله النهوض لاحقتهم “إسرائيل” بالضربات العسكرية التي تعيده للمربع صفر، معتبرة أن إفقار غزة هو نهج مؤسساتي إسرائيلي، وهدف استراتيجي لجعل غزة مكانًا لا يصلح للحياة.
محاضرة لسارة روي تتناول فيها التطورات السياسية التي حدثت في العقد الماضي والتي أدت إلى إضعاف غزة وشعبها بشكل كبير
الموضوع نفسه تناولته روي في دراستها “إعادة النظر في الإفقار: الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني منذ أوسلو (Palestinian Economy and Society Since Oslo)” عام 1999، والتي تركز فيها على السنوات التي تلت اتفاقية أوسلو التي وقعت عام 1993، حيث تتحدث عن تعمُّد إضعاف الاقتصاد الفلسطيني رغم توقيع اتفاق للسلام، وذلك باتّباع “إسرائيل” لسياسات الحصار والإغلاق على الفلسطينيين، وتعمُّد الفصل الاقتصادي بين غزة والضفة، وخلق انقسامات داخل سوق العمل الفلسطيني.
تؤكد روي أن الحصار والعقوبات الاقتصادية ليست ذنب “إسرائيل” فقط، إنما ذنب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أيضًا اللذين علقا مساعداتهما للفلسطينيين، بالتزامن مع حجز “إسرائيل” لعائدات الضرائب الشهرية والرسوم الجمركية التي تحصّلها من الفلسطينيين نيابة عن السلطة الفلسطينية ولا تسلّمها إياها، وغيرها من ممارسات الاحتلال كتجريف الأراضي الزراعية وهدم المنشآت، ما يجعل غزة دائمًا فقيرة بل جائعة.
ترى روي أن حماس لديها إمكانات لا يراها الغرب، إمكانات بشرية وسياسية واقتصادية سخّرتها لخدمة مجتمعها ومرافقه، من مستشفيات إلى مدارس إلى مشاريع استثمارية، بشكل جعلها متجذّرة في نسيج المجتمع الفلسطيني
كما تضيف روي أن هذه العقوبات عانت منها غزة أكثر من الضفة، بدعوى “إسرائيل” أن قطاع غزة تسيطر عليه منظمة إرهابية هي حماس، محرضةً الجهات الغربية المانحة على حصاره، وتفضيل الضفة الغربية عليه، لخلق مزيد من الانقسام بين الشعب الفلسطيني.
الفكرة نفسها ناقشتها بتوسُّع في الكتاب الذي أشرفت عليه وحرّرته لمجموعة باحثين بالتشارك مع ديان كوغان: “اقتصاديات السلام في الشرق الأوسط: إعادة تقييم وبحث في اقتصاديات الشرق الأوسط (The Economics of Middle East Peace: A Reassessment, Research in Middle East Economics)”.
بشكل عام، تعتبر سارة روي أن الحياة في غزة في ظل الحصار والإغلاق الذي فرضه الاحتلال عليها، خاصة بعد الأزمة بين حركتَي حماس وفتح عام 2007، صارت كالمشي بقدمَين حافيتَين فوق زجاج مكسور، واستخدمت هذا التعبير في مقال لها بمجلة “ذا نيشن” عام 2010.
وفي ظل الحصار صار قطاع غزة يعيش على الإعانات والمساعدات، والتي تتمثل أهمها في ما تقدمه منظمة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، والتي دائمًا تواجَه بتهديد قطع التمويل عنها، وفي كل مرة يحدث ذلك كانت سارة تكتب في الصحافة الغربية وتصف الأوضاع في غزة، وتطالب بعدم قطع أو تقليل التمويل للأونروا.
مثلًا في عام 2015 كتبت مقالًا بعنوان “شبكة الأمان الأخيرة بقطاع غزة في خطر (The Gaza Strip’s Last Safety Net Is in Danger)”، وذلك حين منعت كندا ما كانت تدفعه للأونروا، وأشارت سارة خلاله إلى أن قرار كندا يتماشى مع السياسة الإسرائيلية في حصار غزة، والتي وصفها ضابط إسرائيلي بقوله: “لا تنمية، لا رفاهية، لا أزمات إنسانية حرجة”، أي إبقاء أهل غزة على قيد الحياة لكن بالقرب من الموت.
وفي عام 2018 عادت سارة روي لتصرخ من جديد، بعد الإعلان عن تحرك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتخفيض التمويل المقدم للأونروا، وكتبت مقالًا في مجلة “ذا نيشن” بعنوان “تحرك ترامب لخفض المساعدات المقدمة للاجئين الفلسطينيين يقود إلى كارثة (Trump’s Move to Slash Aid for Palestinian Refugees Will Lead to Tragedy)”.
وساقت روي خلال المقال أرقامًا تعبّر عن حجم الكارثة الإنسانية التي ستطال الفلسطينيين لو لم يتم تدارك الأمر، معتبرة أن هذا القرار ينبع عن سياسة عقابية من ترامب تتجاهل حقوق الفلسطينيين، مفنّدة مزاعمه حول عدم رغبة الفلسطينيين في السلام.
حماس حركة غير عنيفة والمقاومة تثبت أن الفلسطينيين بشر
كانت روي وما زالت على دراية كاملة بالأحوال المعيشية للفلسطينيين، وهو أمر جعلها قريبة من المجتمع المدني الفلسطيني، وترى دور حركة حماس الخيري والإنساني في دعم الأهالي الذين يعيشون تحت الحصار والتجويع، وهو أمر جعلها تصدر عام 2013 كتابها “Hamas and Civil Society in Gaza: Engaging the Islamist Social Sector”، والذي تتناول فيه دور حركة حماس وجمعيات ومنظمات المجتمع المدني ذات الطابع الإسلامي في دعم أهل غزة وتنمية القطاع.
في الكتاب تخاطب سارة القارئ الغربي، وتقول إن كثيرين في الولايات المتحدة والغرب يعتبرون أن حماس منظمة إرهابية، ولا يعرفون دورها الاجتماعي والتنموي في غزة، والبعيد كل البُعد عن العنف السياسي، خاصة منذ فترة التسعينيات وما بعدها.
وهذا العمل الخيري الذي اتّبعته حماس جاء بالتوازي مع تبنّيها لنهج سلمي يدعو إلى الاستقرار واحترام النظام العام، بشكل بدا علمانيًّا أكثر ممّا يظن البعض، الأمر الذي جعلها قادرة على احتواء كثير من الأشخاص البعيدين عن الإسلام السياسي من الذين أرادوا خدمة المجتمع الفلسطيني.
تعتبر روي أن “إسرائيل” لا تنظر إلى أهل غزة كبشر من الأساس، بل مجرد نفايات وحطام، وتتعامل معهم وكأنهم مشكلة بيئية، وبالتالي صارت المقاومة الفلسطينية بمثابة إعلان عن أن هناك بشرًا يعيشون هنا
واعتبرت روي أن حماس ومن انضموا إليها عكسوا التزامًا عميقًا بتحفيز التجديد الاجتماعي والثقافي والأخلاقي للمجتمع الفلسطيني، وهو تجديد لم يصاغ فقط وفقًا للدين الإسلامي، بل لم يكن الدين هو مكونه الأول، لكنه (الدين) كان رافدًا من الروافد الإنسانية التي جددت بها حماس دماء المجتمع الفلسطيني.
وترى روي أن حماس لديها إمكانات لا يراها الغرب، إمكانات بشرية وسياسية واقتصادية سخّرتها لخدمة مجتمعها ومرافقه، من مستشفيات إلى مدارس إلى مشاريع استثمارية إلى جمعيات خدمية تكافلية خيرية، بشكل جعلها متجذّرة في نسيج المجتمع الفلسطيني، لا سيما في غزة، وهو أمر ينبغي أن يدفع الغرب بقيادة أمريكا إلى التواصل معها وإقامة علاقات أكثر استنارة، خاصة في ضوء سجلّها الواسع المثبت في بناء مجتمع فلسطيني غير عنيف.
وفي المقابل، وعلى الوجه الآخر، ترى سارة أن المقاومة الفلسطينية نتيجة طبيعية للاحتلال الإسرائيلي، وأفردت لهذه الفكرة كتابًا بعنوان: “عدم إسكات غزة: تأملات في المقاومة (Unsilencing Gaza: Reflections on Resistance)”.
تغوص سارة في فلسفة المقاومة، وترى أن “إسرائيل” والإسرائيليين لا يرون أهل غزة كبشر من الأساس، بل مجرد نفايات وحطام، ويتعاملون معهم وكأنهم يتعاملون مع مشكلة بيئية، وبالتالي لم تعد المقاومة الفلسطينية فقط مجرد عمليات عسكرية هدفها استرداد أرض محتلة، إنما صارت بمثابة إعلان عن أن هناك بشرًا يعيشون هنا، فغزة لا يراها العالم بالأساس ولا يسمع صوتها إلا من خلال المقاومة.
تتناول سارة في الكتاب جذور مشكلة احتلال غزة خاصة من النواحي الإنسانية، وتحاول عقد مقاربات بين النازية و”إسرائيل”، وبين مشاعرها كابنة لناجيَين من المحرقة والفلسطينيين في غزة، كما تتناول الدور الأمريكي والأوروبي وبعض الدول العربية في دعم الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى الأوضاع المأساوية التي يعيشها الفلسطينيون، بلغة فلسفية عقلانية بحثية متزنة ليس فيها تحريض، تجعل من يقرأها في النهاية مقتنعًا أن المقاومة الفلسطينية مسألة لا بديل عنها لإثبات الوجود الإنساني لأهل غزة على الأقل.
السابع من أكتوبر: كيف يطالب المحتل بحقّ الدفاع عن النفس؟
لم تتراجع سارة روي عن موقفها الداعم لغزة بعد معركة “طوفان الأقصى”، ولم تبتزها الدعاية الإسرائيلية، ولم تتعامل بسطحية مع هجوم المقاومة من دون النظر إلى خلفياته، ودافعت عن الفلسطينيين من خلال عملها الذي تجيده وهو البحث والكتابة، آملة أن تؤثر كتاباتها بمن في يدهم وقف المجزرة في غزة.
وممّا كتبت سارة أن غزة محتلة قبل “طوفان الأقصى” بـ 56 عامًا، تتعرض خلال هذه السنوات للدمار والفقر، ويتعرض أهلها لشتى أنواع العذاب، معتبرة أن الحرب على غزة لن تؤدي إلى تدمير حماس كما تزعم “إسرائيل”، وأن الهدف هو محاولة القضاء على غزة نفسها وتهجير أهلها، حسبما كتبت في مقال لها بعنوان “الحرب الطويلة على غزة (The Long War on Gaza)”.
وفي مقال آخر بعنوان: “غزة على حافة الانهيار (Gaza is on the verge of collapse)”، صرخت سارة في ضمير العالم مطالبة بفتح معبر كرم أبو سالم بجانب معبر رفح، والسماح بتدفق المساعدات إلى غزة ووقف الحرب، وأخذت تستعرض الكثير من المآسي التي يعيشها أهل غزة المقبلين على مجاعة، ناهيك عن انهيار النظام الصحي وتحوُّل المستشفيات إلى مقابر جماعية، ساردة بيانات وأرقام كارثية عن الأوضاع هناك.
اتهمت سارة الرئيس بايدن بتبرير الهمجية والقتل، مستنكرة ما تقوله “إسرائيل” من أنها تدافع عن نفسها، بقولها: “كيف يمكن للمحتل أن يطالب بحقّ الدفاع عن النفس ضد الشعب الذي يضطهده ويحتله ويفقره؟”
معتبرة أن مطالبة دول تدّعي أنها ديمقراطية بهدنة إنسانية في غزة وليس بوقف لإطلاق النار، دليل على أن هذه الدول لا يهمّها حياة الفلسطينيين من الأساس، ساخرة من الغرب قائلة: “الغرب يقول للفلسطينيين سوف نطعمكم، لكن سنقتلكم في اليوم التالي”.
واختتمت مقالها قائلة: “إن زعماء العالم، خاصة الولايات المتحدة وأوروبا، لا يستطيعون أن يزعموا أنهم قاموا بأي تدخل أخلاقي في فلسطين، وما يمكنهم ادّعاءه هو أنهم سمحوا بمواصلة ذبح الأبرياء دون عوائق ودون رحمة”.
وكتبت روي رسالة إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن نشرتها كمقال بعنوان: “هل تستطيع رؤية الأفوكادو؟ (?Can you see the avocado)”، واستهلت مقالها بتساؤلات استنكارية لاذعة لبايدن: “متى يصبح موت الطفل الفلسطيني غير مقبول؟ أو ربما ينبغي أن أطرح السؤال بطريقة أخرى: متى تمنحون للحياة الفلسطينية نفس القداسة التي تمنحونها للحياة الإسرائيلية؟”.
وأخذت سارة روي تعدد مظاهر الموت والدمار والظلم واللاإنسانية التي يعيشها قطاع غزة تحت القصف الإسرائيلي، مؤكدة أن بيوت الفلسطينيين التي قُصفت في غزة طالما احتضنتها، خاصة مخيم جباليا الذي سوّته “إسرائيل” بالأرض، رغم أن أهل المخيم المسلمين كانوا يعلمون أنها يهودية، لكن ذلك لم يمنعهم من أن يرونها صديقة ويستقبلونها بحبّ.
واتهمت سارة الرئيس بايدن بتبرير الهمجية والقتل، مستنكرة ما تقوله “إسرائيل” من أنها تدافع عن نفسها: كيف يمكن للمحتل أن يطالب بحقّ الدفاع عن النفس ضد الشعب الذي يضطهده ويحتله ويفقره؟ هذا الشعب الذي أوشك على المجاعة، إن ما يتم ممارسته ليس دفاعًا عن النفس، بل رغبة في طرد الفلسطينيين من منازلهم وضمّ أراضيهم في غزة والضفة الغربية.
وختمت روي مقالها ببلاغة ساخرة من بايدن الذي يستطيع أن يرى أي شيء إلا جثث الفلسطينيين ودمائهم، حيث كتبت: “أخبرني مصعب (صديقها الفلسطيني) عن هجوم جوي إسرائيلي على مخيم جباليا للاجئين بينما كان الناس يتسوقون، قُتل خلاله العشرات.. أرسل لي (مصعب) صورة لآثار الحادث: جثث ملقاة على الأرض وثمار أفوكادو متناثرة في مكان قريب.. هل يمكنك رؤية الأفوكادو؟”.
هكذا هي سارة روي، باحثة بقلم أديبة وروح إنسانة تكره الظلم، تجادل بالأرقام والوقائع والنظريات والبيانات، لكن بلغة أدبية بليغة، وروح ما زالت متأثرة بما حدث لذويها من ظلم على يد النازي، مستخدمةً كل ملكاتها المعرفية من أجل الإنسان الفلسطيني الذي تتمنى لو يراه ويشعر به العالم ويعترف بآدميته.