التطوّر الأخير فيما يحدث بخصوص القدس في الوقت الراهن يعيد لنا الذاكرة إلى المحاولات العديدة التي يحاول الاحتلال الصهيوني تنفيذها لبسط سيطرته على المدينة وطمس معالمها الإسلامية والمسيحية أو تهويدها وتحويلها إلى معالم يهودية على الرغم من كلّ الأدلة التاريخية والمعمارية لهوية تلك الأماكن والمعالم.
فمنذ الأيام الأولى لاحتلال القدس عام 1967، عملت الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة جاهدةً على تهويد المدينة المقدسة وتغيير طابعها العربي والإسلامي وجزء من معالمها المسيحية التاريخية، وقد طال مسلسل التهويد كافة أحياء المدينة العربية وسكانها، ونفذ المسلسل بأدوات الاستيطان ومصادرة الأراضي و”عبرنة أسماء” الشوارع والحارات والأماكن.
ولعلّ محاولة الاحتلال فرض سيادته على المسجد الأقصى وتخصيص أوقات لاقتحامات اليهود، وما يرافق ذلك من عزل لمقومات ومكونات الدفاع عن المسجد تمهيدًا لمحاولات تقسيمه زمانيًا هي المطلب الأساسي الذي تهدف إليه كل محاولات التهويد شيئًا فشيئًا في المدينة.
مقام النبي داود: مسجد صار كنيسًا
يتكون المقام الذي يقع على ربوة مرتفعة في جبل صهيون في منطقة باب الخليل خارج أسوار المدينة القديمة من ثلاثة أجزاء؛ أولها مسجد النبي داود والذي حوّلته سلطات الاحتلال لكنيس يقيم اليهود داخله صلواتهم رغم مئذنته ومحرابه والكتابات الإسلامية المنحوتة على لوحات رخامية بداخله وعلى واجهته.
أما الجزء الثاني من المقام فيتكوّن من كنيسة الخضر التابعة للأرمن الذين يعتقدون أنها احتضنت ما يعرف لدى المسيحيين بـ”العشاء الرباني الأخير”، وبات يسيطر عليها المستوطنون، بالرغم أيضًا من الكتابات والآثار الإسلامية التي ما تزال تزيّن جدرانها. وبحسب المصادر الغربية المسيحية، فإن القاعة العلوية للمجمع والمعروفة باسم “علية صهيون” هي موقع العشاء الأخير للسيد المسيح، بينما القاعة السفلية هي المكان الذي غسل فيه المسيح أرجل تلاميذه.
القسم الثالث للمكان هو عقار لعائلة الدجاني استخدمته كمساكن ومقبرة طيلة قرون، وحتى الآن تقوم جمعية رعاية المقابر الإسلامية برعايته وصيانة القبور التي ترقد فيها شخصيات مقدسية وعدد من جنود صلاح الدين الأيوبي، إلّا أنّ أحدًا من العائلة لم يعد يعيش هناك، إذ أنّ المستوطنين اليهود استولوا عليها وأقاموا فيها، أو باتت ملحقاتٍ للكنيس مخصصة لتعليم التوراة والتلمود.
يعود المكان بحسب الروايات التاريخية للفترة الصليبية، ثمّ وبعد الفتح الإسلامي للمدينة المقدسة قام كل من المماليك والأيوبيين بإضافاتهم المعمارية على البناء، ليحمل هوية كلّ منهما. وقد قام سليمان القانوني بتحويل المكان لجامعٍ على الطراز العثماني، وإلى اليوم ما زالت حيطانه تحمل الآيات القرآنية واللمسات الإسلامية ذات الطابع العثماني المعروف.
ورغم المعالم الإسلامية والمسيحية الواضحة في هذه العمارة العتيقة، يتعامل الاحتلال معها كمعلم تاريخي يهودي وتتولى إدارتها وزارتا الأديان والداخلية. إذ يعتقد اليهود منذ القرن الخامس عشر أن المقام يحوي قبر النبي داود على الرغم من عدم وجود أيّ دليل على صحة هذه المعلومة التاريخية، ولهذا السبب قاموا بتحويل الجامع لكنيسٍ بعد أن استولوا عليه عام 1948.
بجانب المقام تقع كنيسة تُعرف باسم “رقاد السيدة العذراء” أو “نياحة العذراء” على بُعد أمتار قليلة من سور القدس القديم، بُنيت في بداية القرن العشرين على الطراز المعماري الروماني، ويعتقد المسيحيون أنّ هذا المكان هو نفس المكان الذي التجأت إليه مريم العذراء بعد صلب ابنها.
حائط البراق: لم تذكره التوارة ولا التقاليد اليهودية
حائط البراق أو الحائط الغربي هو جزء من السور الغربي للمسجد الأقصى يقع بين باب المغاربة والمدرسة التكنزية، طوله 47م وارتفاعه 18م، وسمي بحائط البراق لما يُعتقد أنه المكان الذي ربط فيه النبي محمّد دابة البراق قبل عروجه للسماء.
في ذلك الزمن كان حائط البراق مجاورا تماماً لحارة المغاربة، ولا يفصله عنها إلا زقاق ضيق وغير نافذ، وقد سُمّيت حارة المغاربة وبابها بهذا الاسم لأن سكانها كانوا من أهل المغرب الذين شاركوا صلاح الدين الأيوبي فتح بيت المقدس، وأقاموا في تلك المنطقة بعد الفتح.
وتُعدّ حارة المغاربة من أشهر الحارات الموجودة في البلدة القديمة بالقدس نظرًا للأفعال الشنيعة الذي أقدمت عليه قوات الاحتلال حين دمرت الحارة بكاملها وسَوَّتها بالأرض، بعيد احتلال القدس عام 1967م، وقد بلغ مجموع الأبنية الأثرية فيها نحو 135 أثرًا، تعود معظمها لعصور الأيوبيين والمملوكيين والعثمانيين. ومن جملة هذه الآثار: المدرسة الأفضلية، ومزار الشيخ عبد، وزاوية المغاربة التي تحولت الحارة إلى ساحة لصلاة اليهود، قرب حائط البراق الذي يطلق عليه الإسرائيليون اسم “حائط المبكى”.
وفقًا للروايات التاريخية، فمنذ الفتح الإسلامي لبيت المقدس سنة 15ه للهجرة وحتى القرن العاشر الهجري لم يكن لليهود أية علاقة أو اهتمام بالحائط، بل كان بعضهم اليهود يتجمعون حتى عام 1519م قريبًا من السور الشرقي للمسجد الأقصى، أي قرب باب الرحمة، وبالتالي لم يكن حائط البراق يشكّل لهم أية أهمية تُذكر.
ولم يتخذ اليهود حائط البراق مكانا للعبادة إلا بعد صدور وعد بلفور البريطاني عام 1917، ولم يكن هذا الحائط جزءا من “الهيكل اليهودي” المزعوم. وقد حاول اليهود الاستيلاء على حائط البراق بتملك الأماكن المجاورة له خلال القرن التاسع عشر لكنهم فشلوا، وفي عهد الانتداب البريطاني زادت زيارات اليهود للحائط حتى شعر المسلمون بخطرهم، ووقعت ثورة البراق بتاريخ الـ23 من أغسطس/آب 1929 فاستشهد فيها العشرات من المسلمين وقتل عدد كبير من اليهود.
وبالرغم من أن اليهود أقروا عام 1929 أمام اللجنة التابعة لمنظمة عصبة الأمم بأنهم لا يدعون حق ملكية حائط البراق، فإن إسرائيل لما احتلت المدينة القديمة في القدس عام 1967 بدأت بنفسها تزوير هوية المكان. وبدأت ذلك بهدم جنودها حي المغاربة الملاصق للجدار الغربي للمسجد الأقصى المبارك بما فيه من آثار ومدارس ومساجد وزوايا، ثم نسفوا المنازل التي كانت تحيط بالجدار فشردوا أهلها بدعوى أن منطقة الحائط ملك لليهود منذ ثلاثة آلاف عام.
أقام الإسرائيليون لاحقًا ساحة كبيرة مبلطة أمام حائط البراق ليتجمعوا فيها للصلاة أمامه، كما استولوا على مفاتيح باب المغاربة التي لا تزال معهم، ولذلك يعتبر باب المغاربة هو المدخل المعتاد لكل الاقتحامات التي ينفذها اليهود في المسجد الأقصى.
القصور الأموية في القدس: سرقة وتدمير مستمرّ
تقع القصور جنوب وغرب المسجد الاقصى في المنطقة ما بين سور الاقصى وسور مدينة القدس قبيل باب المغاربة، وتمثّل منذ مئات السنين بحجارتها القديمة وأبنيتها العريقة التي شيدها الأمويون، إرثًا إسلاميًا ورمزًا من رموز التاريخ والحضارة الإسلامية في فلسطين.
يُعتقد أنّ الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان قد بنى له دارًا للإمارة أثناء إشرافه على بناء قبة الصخرة، كما ووفقًا لمصادر تاريخية عديدة فإنّ أحد القصور العديدة قد أنشأها لاحقًا الخليفة الاموي الوليد بن عبد الملك فيما قام أمراء آخرون من بني امية ببناء عدة قصور لهم إلى جانب قصر الخليفة الكبير.
وقد حوّلت سلطات الاحتلال القصور إلى متاحف ومزارات ومظاهر تلمودية، يزورها السياح، ويتم سرد الرواية التوراتية الإسرائيلية لهم، كما قامت عام 1999 ببناء مدرج تاريخي قبالة الباب الثلاثي، مدّعيةً أنه المدرج الرئيس الجنوبي للدخول الى “الهيكل المزعوم”، كمقدمة لتحويل المصلى المرواني إلى كنيس يهودي، ولكن هذه المخططات أحبطت بسبب ترميم المصلى.
وفي عام 2001، افتتح الاحتلال مركز “ديفيدسون” في باقي الحجارة العملاقة بالمنطقة، ويستعد الآن لتوسيع هذا المركز، الذي يضم موجودات أثرية كشفت خلال عمليات الحفريات، حيث يزعم الاحتلال بأنها موجودات عبرية تلمودية. وعلى مدار السنوات الأخيرة، نفذت سلطات الاحتلال أعمال حفريات في المنطقة، أدت إلى تدمير تراث إسلامي وعربي ثمين، وأقدمت على سرقة ونقل العديد من القطع الأثرية الإسلامية.