وأخيراً، كشف دونالد ترامب عن نيته تجاه القدس، ويكون بهذا قد ألقى جانباً بأي تظاهر متبق بأن الولايات المتحدة قادرة على التوسط لإبرام صفقة بين إسرائيل وفلسطين. لم يعد ثمة مجال للحياد من الآن فصاعداً. فبدون أن تكون القدس عاصمة لها، لا يمكن لأي دولة فلسطينية أن توجد. والحال هكذا، بات الأمر مجرد وقت قبل أن تندلع انتفاضة أخرى.
فقط القدس، بما لديها من رمزية قوية، لديها القدرة على توحيد الخصوم المتدابرين والمتشاحنين في الساحة الفلسطينية مثل زعيم فتح محمود عباس وزعيم حماس إسماعيل هنية.
فقط القدس لديها القدرة على توحيد نزلاء جميع السجون، وجميع الفلسطينيين في المهاجر الذين يجدون أنفسهم أسارى السجون الإسرائيلية الحقيقية أو المعنوية، وكذلك جميع الفلسطينيين في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وفي مخيمات اللاجئين وفي الشتات. فقط القدس تتكلم فينصت لها أكثر من مليار مسلم حول العالم.
وكما سيتعلم ترامب قريباً جداً، فإن الرموز لها سلطانها، ومن طبيعتها أنها تصنع واقعاً خاصاً بها.
إلا أن ترامب لا يعمل وحده. وأياً كانت الدائرة التي يظن أنه يسعى لإرضائها وكسب ودها، وما من شك في أن المسيحيين الإنجيليين يترأسون القائمة، إلا أنه ما كان ليقدم على مثل هذا الإعلان لولا أنه ضمن دعم حكام المنطقة.
لا جديد في أن زعيم حزب الليكود بنجامين نتنياهو والقوميين المتدينين ممن ينتسبون إلى حزب “البيت اليهودي” يؤيدونه في ذلك، وهؤلاء موقفهم معروف مسبقاً. إلا أن مصدر الدعم الغريب والطارئ في نفس الوقت هو ذلك الجيل الجديد من عرب الخليج، أولئك الصبية المترفون ممن ديدنهم العبث فوق تلال الصحراء والتقاط صور السيلفي، والذي تجد بصماتهم في كل انقلاب يجري في المنطقة هنا وهناك.
ذكر العديد من المسؤولين بأن محمد بن سلمان حاول تحلية الصفقة من خلال الإعراب عن استعداده لتقديم دفعة مالية مباشرة لعباس، ولكن هذا الأخير رفض ما عرضه عليه
وهؤلاء شكلوا في عهد ترامب محوراً للطغاة العرب، حجم طموحاتهم الجيوسياسية بحجم محافظ نقودهم، يعتقدون فعلاً بأن لديهم من النفوذ ما يمكنهم من فرض إرادتهم ليس فقط على حطام دولة فلسطين وإنما أيضاً على المنطقة بأسرها.
ثمة عملية بناء، على الأقل في أذهانهم، لشبكة من الدول الأمنية الحديثة تتزين كل واحدة منها بمسحة من الليبرالية الغربية، وكلها ترى في حزب الليكود شريكاً طبيعياً لها، وتعتبر جاريد كوشنر نديما يؤلف ويؤتمن.
لا يحتوي قاموسهم على أي من هذه المصطلحات: الفكر، التدبر، التعاون، المشورة، الإجماع. وأما الديمقراطية فلا مفر من تأجيل الحديث فيها، حرية التعبير إنما وجدت لكي تقيد. وماذا عن العرب؟ إنما هم سلعة تباع وتشترى.
وهذا هو الذي جعل ولي عهد السعودية وحاكمها الفعلي محمد بن سلمان يظن أن بإمكانه أن يأتي بالرئيس الفلسطيني الكهل محمود عباس ويجبره على الامتثال إليه، وذلك حين خيره بين أن يقبل بالشروط –لا قدس ولا حق عودة– أو أن يخلي الموقع لشخص آخر قادر على فعل ذلك، بحسب ما نقلته صحيفة نيويورك تايمز عن مصادر متعددة.
ولقد ذكر العديد من المسؤولين بأن محمد بن سلمان حاول تحلية الصفقة من خلال الإعراب عن استعداده لتقديم دفعة مالية مباشرة لعباس، ولكن هذا الأخير رفض ما عرضه عليه.
تطبيع العلاقات مع إسرائيل
جاءت تهديدات محمد بن سلمان منسجمة ومتناسقة مع كتابات صدرت عن عدد من الكتاب والصحفيين السعوديين المصرح لهم بالكتابة، نأوا فيها بأنفسهم عن القضية الفلسطينية ودعوا إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
يأتي على رأس هذه القائمة الروائي والكاتب السعودي تركي الحمد. غرد تركي الحمد قائلاً لماذا ينبغي عليه أن يدعم فلسطين إذا كان الفلسطينيون أنفسهم قد باعوها؟ وأكد أنه ما عاد ينبغي اعتبار فلسطين قضية العرب الأولى.
كتب الحمد يقول: “نشر عني في تويتر أنني قلت أن القدس ليست القضية.. وهذا غير صحيح.. ماقلته هو أن فلسطين لم تعد قضية العرب الأولى، بعد أن باعها أصحابها”، وأضاف: “لدي قضية بلدي في التنمية والحرية الانعتاق من الماضي.. أما فلسطين.. فللبيت رب يحميه حين يتخلى عن ذلك أهل الدار”.
في بلد يمكن أن توردك التغريدة الغلط المهالك وتجلب لك حكماً بالسجن ثلاثة أعوام، لا يمكن اعتبار هذه التغريدات مجرد تعبير تلقائي عن الرأي. بل هي الموسيقى التصويرية التي رافقت إعلان ترامب عن مدينة القدس
وأردف قائلا: “منذ عام 1948 ونحن نعاني باسم فلسطين.. الانقلابات قامت باسم فلسطين.. التنمية تعطلت باسم فلسطين.. الحريات قمعت باسم فلسطين.. وفي النهاية حتى لو عادت فلسطين فلن تكون أكثر من دولة عربية تقليدية.. كفانا غشا”.
وفي نهاية تغريداته، قال الحمد: “في جنوب إفريقيا ناضل الصغير قبل الكبير.. فهل فعل الفلسطيني ذلك رغم كل الدعم؟..كلا.. لن أدعم قضية أهلها أول من تخلى عنها”، وهناك العديد من الأصوات السعودية الأخرى التي تصدر عنها تصريحات مماثلة.
غرد الكاتب والمحلل الاقتصادي حمزة محمد السالم قائلا: “إذا عقد السلام مع إسرائيل فستصبح المحطة الأولى للسياحة السعودية”، وكتب سعود الفوزان: “لست محاميا عن اليهود، لكن أعطوني يهوديا واحدا قتل سعوديا وأعطيكم ألف سعودي قتل أبناء جلدته بالحزام الناسف”.
وكتب مدير قناة “العربية” السابق عبدالرحمن الراشد: “حان الوقت لإعادة النظر في كل مفهوم المعاملات مع فلسطين وإسرائيل.”، وأما الكاتب محمد آل الشيخ فغرد قائلا: “قضية فلسطين ليست قضيتنا.. وإذا أتاكم متأسلم متمكيج يدعو للجهاد فابصقوا في وجهه”.
في بلد يمكن أن توردك التغريدة الغلط المهالك وتجلب لك حكماً بالسجن ثلاثة أعوام، لا يمكن اعتبار هذه التغريدات مجرد تعبير تلقائي عن الرأي. بل هي الموسيقى التصويرية التي رافقت إعلان ترامب عن مدينة القدس.
انقسام المنطقة
هذا إذن هو المحور الذي يقف من وراء ترامب– أولياء العهد والحكام الفعليون في كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين: محمد بن سلمان، محمد بن زايد، وعبد الفتاح السيسي، هؤلاء جميعاً يعتمدون شخصياً على ترامب.
لا يوجد فلسطيني واحد، سواء كان قومياً، أو علمانياً، أو إسلامياً أو مسيحياً، يمكن أن يقبل بالتخلي عن القدس عاصمة لفلسطين، وسوف نرى بالضبط ما الذي يعنيه ذلك في الأيام والأسابيع القادمة
ما كان لا حصار قطر ولا محاولة إجبار الحريري على الاستقالة من منصبه كرئيس لوزراء لبنان، ولا تحطيم مجلس التعاون الخليجي وإنشاء تحالف عسكري واقتصادي بين السعوديين والإماراتيين، أن يحصل بدون ضوء أخضر من ترامب.
لقد مكن ترامب محمد بن سلمان من أن يقوض أعمدة الدولة السعودية، وأن ينهب ثروات أبناء عمه وكل ذلك باسم التحديث والإصلاح، ولكن هم أيضاً سمحوا لترامب بأن يفرض حظراً على دخول المسلمين إلى أمريكا وبأن يعيد تغريد ما يقوله الفاشيون البريطانيون عن المسلمين.
لقد تمخضت الفوضى التي أوجدتها هذه المجموعة إلى إقامة بون بينها وبين مجموعة أخرى من حلفاء الولايات المتحدة بدأوا يشعرون بعواقب مثل هذه السياسات عليهم شخصياً. لقد حاول عاهل الأردن الملك عبد الله وكذلك الرئيس الفلسطيني محمود عباس تحذير واشنطن من مخاطر ما كان ترامب يوشك أن يعلن عنه، فهما يريان أن الأمر يعنيهما مباشرة وأن ما جرى أفقدهما هامش المناورة.
انضمت تركيا إلى الأردن، حيث تمكن الرئيس التركي من ضمان دعم جميع الأحزاب السياسية بلاده لقرار تجميد العلاقات مع إسرائيل، وتركيا حالياً هي التي تتزعم منظمة التعاون الإسلامي التي تتكون من سبعة وخمسين دولة عضواً.
وها قد انضم القوميون أيضاً إلى الركب. حيث حذر زعيم حزب الحركة القومية المعارض في تركيا دولت بهشلي الولايات المتحدة من أنها ترتكب “خطأ تاريخياً” بتوجهها نحو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقال: “ما يحاك من مكر للقدس إنما هو خنجر جرد للنيل من كل ما نعتبره مقدساً.”
تصادف هذه الجمعة الذكرى الثلاثين للانتفاضة الأولى، فقط راقب رد فعل الفلسطينيين على جدران المدينة القديمة، آخر قطعة “عقار” بقيت لهم، وهم يشعلون النيران في ألوان أعلام إسرائيل وأمريكا.
وهناك مجموعة ثالثة تتكون من إيران والعراق وسوريا وحزب الله، وهذه قدمت لها هدية على طبق من فضة. لقد منح ترامب بما فعله فرصة كبيرة لإيران لترميم ما لحقها من أضرار بسبب الحرب الأهلية في سوريا وإصلاح علاقاتها مع الجماعات والشعوب السنية، حيث سيكون لسان حالها تارة أخرى: “نحن معكم حول موضوع القدس”. لقد تلقت إيران دعوة سترحب بها وستقبلها بشغف.
وأما المجموعة الرابعة فهي التي لا يملك ترامب ونتنياهو ومحمد بن سلمان ومحمد بن زايدالوصول إليها، إنهم الفلسطينيون أنفسهم. وهؤلاء معروف عنهم تاريخياً أنهم أقوى ما يكونون عندما تبلغ عزلتهم أقصى مداها، وهذه هي القوة التي تجلت في الانتفاضتين الأولى والثانية، ثم تجلت مؤخراً عندما أجبروا إسرائيل على إزالة الحواجز الإلكترونية التي نصبتها على مداخل المدينة القديمة.
لا يوجد فلسطيني واحد، سواء كان قومياً، أو علمانياً، أو إسلامياً أو مسيحياً، يمكن أن يقبل بالتخلي عن القدس عاصمة لفلسطين، وسوف نرى بالضبط ما الذي يعنيه ذلك في الأيام والأسابيع القادمة. هناك ما يقرب من ثلاثمائة ألف مقدسي يقيمون حالياً في داخل القدس التي أعلنها ترامب عاصمة لإسرائيل ولكنهم لا يملكون حق المواطنة فيها. لقد ألقى ترامب للتو بقنبلة في وسط هذه الجموع.
تصادف هذه الجمعة الذكرى الثلاثين للانتفاضة الأولى، فقط راقب رد فعل الفلسطينيين على جدران المدينة القديمة، آخر قطعة “عقار” بقيت لهم، وهم يشعلون النيران في ألوان أعلام إسرائيل وأمريكا.
ترجمة وتحرير: عربي 21
المصدر ميدل إيست آي