لم تكن التقارير الصحفية التي أكدت القلق الأردني من سعي السعودية لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” من أجل إقامة تحالف لمواجهة إيران، مجرد شعائات عابرة، بل هي حقيقة ساطعة يمكن استنباطها من التحرك الأردني الدبلوماسي الذي يقوم به الملك الأردني، عبدالله الثاني، في الآونة الأخيرة، على صعيد خارجي.
ربما يمكن ربط القلق الأردني، بشكلٍ أساسي، بالخوف من انتهاء “الدور الوظيفي” له في المنطقة، والذي كان يتم من خلال تنسيق الرؤى الخليجية حيال المنطقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، كالتنسيق الذي تم عبره ما عُرف فيما بعد باسم “اتفاق جنوب سوريا”، إذ بالتطبيع السعودي أو الخليجي سيفقد الأردن هذه الورقة التي كان يناور من خلالها في المنطقة، كما سيفقد المساحة التي كان يناور من خلالها بين إيران والخليج أيضاً.
لكن يبدو أن هذا السبب ليس وحده ما يفصح عن بواعث القلق الأردني، بل أن فقدان الأردن لقيمتها السياسية أمام الخليج والولايات المتحدة و “إسرائيل”، وانتهاء دورها “كراعٍ للحرم القدسي الشريف”، والذي يمدها بدور دبلوماسي فاعل في القضية الفلسطينية؛ ما يعني انخفاض ذلك الدور إلى أدنى حد.
في ظل التدهور الاقتصادي الذي يشهده الأردن، لا يمكن له توفير تكلفة المشروع التي تبلغ حوالي مليار دولار، وتنفيذ المشروع دون تعاوني تقني “إسرائيلي” لوحده
يُضاف إلى ذلك، تخوفها من حدوث اضطربات داخل المملكة الأردنية التي تحوي عدداً كبيراً من اللاجئين الفلسطينيين، حيث يُشاع أن التطبيع قد يشمل تنازل الرياض عن ورقة “حق العودة”، فضلاً عن حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي التي قد تصيب الأردن، نتيجة تراجع دوره، وبالتالي اضطراره للتحرك ضد إيران، في حال حدث التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي وتبعه اتفاق مشترك ضد إيران، إلى جانب احتمال ارتفاع تبعيته للسعودية على وجه التحديد، مما يفقده الأداء الجيد على المستوى الاقتصادي، لا سيما أنه بلد لا يحتوي المصادر الطبيعية التي تؤهله لتعويض خسائره، وقد برز هذا الأمر جليّاً في اضطراره لمقاطعة قطر، مما نتج عنه خسائر لم تعوضها السعودية إلى الآن.
وبذلك يُتوقع أن يتحول الأردن إلى بحرين جديدة، أو قد يصبح ما دون البحرين أمام القرارات السعودية، فالبحرين على الأقل يملك مصادراً طبيعيةً تجعله قادراً على تعويض خسائره جراء أي قرار سعودي غير عقلاني، كما أنه لا يعيش في ظل كثافة سكانية هائلة.
هذه النتائج السلبية المُتوقعة جعلت الأردن وكأنه يقف وحده في أزمته مع “إسرائيل”. تلك الأزمة التي ظهرت للسطح في 23 تموز/يوليو المنصرم، جراء قتل مواطن “إسرائيلي” يعمل في السفارة “الإسرائيلية” في الأردن لمواطنين أردنيين.
لقد أدت النتائج المذكورة أعلاه إلى تكبيل يد الأردن أمام “إسرائيل” التي جمدت، بجرأة غير مسبوقة، أحد المشاريع المتفق عليها بينها وبين الأردن، وهو مشروع “قناة البحر الميت” ـ مشروع يرمي إلى تحلية مياه البحر في ميناء العقبة الأردني ـ إلى حين حل الأزمة. وفي ظل التدهور الاقتصادي الذي يشهده الأردن، لا يمكن له توفير تكلفة المشروع التي تبلغ حوالي مليار دولار، وتنفيذ المشروع دون تعاوني تقني “إسرائيلي” لوحده. ولعل علم إسرائيل بعجز الأردن الاقتصادي دفعها إلى التعنت ورفضها لفتح تحقيقات جنائية ضد الحاري، معزيةً ذلك إلى مبدأ “الدفاع عن النفس”.
منذ شيوع نية السعودية للاتجاه نحو التطبيع مع إسرائيل على حساب مصالحه ودوره، باشر الأردن بتحرك دبلوماسي شمل زيارة الملك لكندا وفرنسا وتركيا
وفي ضوء “الخذلان”، إن صح التعبير، الذي تعرض له الأردن من حلفاءه التقليديين “الخليج ومصر”، يصبح مضطراً إلى تحريك عجلة التحرك الدبلوماسي النشط، لتحاشي ما يمكن تحاشيه من ارتدادات التحرك الخليجي غير المكترث بمصلحته القومية. وفي ضوء ذلك، اتجه الأردن إلى فتح المعبر التجاري مع العراق “طريبيل” نهاية أب/أغسطس المنصرم، كما أجرى مفاوضات مع النظام السوري وقوات المعارضة المسيطرة على بعض مناطق جنوب سوريا، بغية افتتاح معبر “نصيب” الحدودي. وفي ضوء هذه التحرك، دعا الملك الأردني الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لزيارته في 21 آب/أغسطس الفائت. وبعد فترة وُصفت بالقصيرة وفقاً للقاموس الدبلوماسي، رد الملك الأردني زيارة الرئيس أردوغان بزيارة إلى أنقرة، بالأمس 06 كانون الأول/ديسمبر.
تكاد أجندات الزيارتين تكون واحدة وهي؛ ـ الأزمة الأردنية ـ الإسرائيلي “أول درجة في سلم أولويات الأردن في الفترة الحالية، فالأردن بحاجة إلى مؤازرة فاعلة في أزمته الدبلوماسية”. ـ الأزمة السورية التي باتت لا تشكل أهمية كبيرة بالنسبة للسعودية والإمارات على وجه التحديد، واللتان بدا دورهما متراجع بوضوح؛ وهو ما أحال الأردن للبحث عن بديل دبلوماسي ذي دور فاعل في الأزمة، للحفاظ على أمنه القومي ومصالحها الاستراتيجية. ـ التعاون الاقتصادي في فتح ميناء العقبة أمام السلع التركية المتجهة نحو الخليج.
في المحصلة، منذ شيوع نية السعودية للاتجاه نحو التطبيع مع إسرائيل على حساب مصالحه ودوره، باشر الأردن بتحرك دبلوماسي شمل زيارة الملك لكندا وفرنسا وتركيا، وقد تشمل هذه الزيارات في المستقبل، ألمانيا والنرويج وبريطانيا وحتى قطر والعراق وإيران، لجهة حاجة الأردن الماسة لإجراء تحرك دبلوماسي وقائي نشط يخفف تداعيات التقارب أو التطبيع السعودي ـ الإسرائيلي على مصالحه السياسية والاقتصادية.