فعلها ترامب، وأوفى بوعده في الإعتراف بمدينة القدس عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ونقله السفارة الأمريكية إليها في تجاهل واضح لما نصت عليه القرارات الدولية الخاصة بمدينة القدس وانحرافًا عن المسار المألوف لمن سبقه من رؤساء أمريكا الذين أجَّلوا إنفاذ قرار النقل لأكثر من 20 عام لدواع تتعلق بالمصالح الأمريكية بالشرق الأوسط وحفاظًا على التوازن الإقليمي فيها.
يعي الرئيس دونالد ترامب ومن ورائه الإدارة الأمريكية خطورة القرار وتداعياته على المنطقة ولم يكن له أن يتجرأ من فراغ على تغير القواعد التقليدية المتبعة في التعامل مع أعقد صراع في الشرق الأوسط وتجاوز خطوط حمراء تتعلق بالذات الفلسطينية والعربية والإسلامية واتخاذ قرار مفصلي واستراتيجي يشكل إهدارًا للحق العربي الأصيل والمتوارث بمدينة القدس.
بل جاء ذلك ليقينه بأن الوقت قد حان لهكذا خطوة في ظل ما آلت إليه أحوال الأمة العربية من فرقة وشقاق لم يسبق له مثيل منذ نشأة الكيان المغتصب وإفلاس سياسي وعسكري واقتصادي وقد نالت منها انقسامات سياسية واجتماعية وجغرافية ووقعت في فخ التجاذب الطائفي والاقتتال الداخلي وسقطت عنها هيبتها العسكرية فالجيش العراقي ضاع بضياع بغداد والسوري أنهكته الحرب الداخلية والسعودي منشغل في قتال اليمن والمصري أرهقته مشاغلات عصابات الفكر المتشدد ولم يعد للعرب حامية تذود عن مقدساتها أو جيشًا نظاميًا يمكن أن يشكل خطراً حقيقياً على “إسرائيل” والمصالح الأمريكية.
مرسوم ترامب القاضي بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس يعد سابقة هي الأخطر أمريكيًا منذ توقيع اتفاقية أوسلو بين السلطة و “إسرائيل” ويجعل من الإدارة الأمريكية وبشكل صارخ شريكًا لـ “إسرائيل” في تجنيها على الحقوق الفلسطينية والعربية بدلاً من أن تكون وسيطاً نزيهاً في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي كما يسوق لها، إلا أن رجُل الصفقات يدرك أن المستوى الرسمي العربي والفلسطيني لن يشكل عقبة أمام قراره وستنحصر ردود أفعالهم في إبداء القلق والشجب والاستنكار، فالحكومات العربية مكبلة بمصالحها المتعلقة بشكل كبير بـ “إسرائيل” وأمريكا، مما يجعلها عاجزة عن اتخاذ مواقف حازمة وفاعلة يمكن من خلالها إفشال مخطط ترامب وإسقاط قراره، ومتورطة أيضاً بدافع خشيتها على تلك المصالح في مسايرة شهوة الاحتلال ومتواطئة مع الرغبة الأميركية وإن أظهرت خلاف ذلك.
جاء بالفعل خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس عقب إعلان ترامب إعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل بارد ولا يرقى لمستوى الجريمة الأمريكية
في ظل سعي الأنظمة العربية الحثيث إلى نيل رضا “إسرائيل” ولهثهم للتطبيع معها لا يبدو من الصعب على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استرضاؤهم بصفقات وامتيازات مغرية نظير تمرير القرار، وقد يكون هذا هدف كامن من وراء اتصاله هاتفياً قبل أيام من قراره على الرئيس الفلسطيني محمود عباس والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وإبلاغهم بنيته.
بالتأكيد كان حاضراً في اعتبارات ترامب موقف السلطة الفلسطينية على وجه الخصوص من القرار كونه يمثل إعداماً للدولة الفلسطينية التي تنادي بها السلطة وتسعى إلى إقامتها، ولكن لا يبدو أن لدى السلطة ما يدفع ترامب للعدول عن قراره، ولا تملك من أوراق القوة ما يثير قلقه.
وهي القائمة أساساً على المساعدات الأمريكية مما يقيد قراراتها ويضعف موقفها ويتركها رهينة الإرادة الامريكية، فخيارات السلطة الفلسطينية ضعيفة وغير مجدية، وواقعها ميؤوس منه ولا أمل فيه، حتى وإن أقدمت على حل السلطة وإعلان إنهيار أوسلو والتحلل من التزاماتها وأوقفت التنسيق الأمني وسحبت الإعتراف بدولة “إسرائيل”، فلن يمثل ذلك خطراً على المصالح الأمريكية ولن يشكل ضرراً بالغاً على “إسرائيل” التي فرضت نفسها على الأرض بالأمر الواقع ولم تعد بحاجة إلى غطاء التسوية السلمية، ولن يكون من الصعب على “إسرائيل” اتخاذ ما يلزم لحماية أمنها الداخلي في حال أرخت السلطة قبضتها عن أذرع المقاومة الفلسطينية.
وقد جاء بالفعل خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس عقب إعلان ترامب إعترافه بالقدس عاصمة لـ “إسرائيل” بارد ولا يرقى لمستوى الجريمة الأمريكية، فالسلطة شريك فيما يحدث وإن كانت مكرهة، ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الجنايات الفلسطينية على الذات من غرق في خلافات حزبيه وعدم اجتماع على هدف فلسطيني واحد أو بلوة موقف وطني جامع، وتشظي خلف أجندات مختلفة وأيدولوجيات متباينة، مما ييسر على ترامب مهمة إقناع العالم بأحقّية “إسرائيل” كدولة متحضرة ومستقرة وموحدة في القدس.
هذا القرار تحول خطير في الموقف والسياسة الأمريكية وتدشين لمرحلة جديدة يبنى عليها ما بعدها في سبيل إنهاء الصراع على الوجه الذي يرضي إسرائيل ويحفظ لها علوها
وبطبيعة الحال لن تصطدم الإرادة الامريكية مع موقف المجتمع الدولي من القرار طالما أنه يصب حسب المزاعم الأمريكية في الجهود المبذولة لإرساء قواعد السلام في الشرق الأوسط وإن جاءت تحذيرات ونصائح دولية لترامب بالعدول عن قراره إنما هي منطلقة من الرغبة الدولية في الحفاظ على الاستقرار والتوازن الإقليمي الموجود، وفي إطار الحرص على أمن المنطقة فليس مهمّاً لدي المجتمع الدولي من يحصل على القدس ومن يفوز بها بقدر ما هو مهم لديها ألا يَعقب ذلك القرار موجة غضب وأعمال عنف قد تمتد لأكثر مما يمكن السيطرة عليه أو احتواؤه.
مع الأخذ بعين الإعتبار ما تعانيه أوروبا على وجه التحديد من أعمال إرهابية استهدفت أراضيها ومصالحها ومواطنيها، من تيارات إسلامية متشددة، قلصت من التضامن الرسمي والشعبي مع قضايا الشرق العربي، مما منح ترامب مبررات قوية في تمرير وإنفاذ رغبته، إضافة إلى الجهود التي يبدلها اللوبي الصهيوني في حشد المناصرين والمؤيدين لـ “إسرائيل”.
هذا القرار تحول خطير في الموقف والسياسة الأمريكية وتدشين لمرحلة جديدة يبنى عليها ما بعدها في سبيل إنهاء الصراع على الوجه الذي يرضي “إسرائيل” ويحفظ لها علوها، ولا بد من غضبة جماهيرية غير مسبوقة ومتواصلة وممتدة يحتشد فيها الفلسطينيون والعرب وأحرار العالم في كل بقاع الأرض لتشكل هزّة للرأي العام العالمي تؤدّي إلى دفع الحكومات المختلفة للضغط على الإدارة الأمريكية، للتراجع عن القرار والإقرار بحقوق الفلسطينيين في مدينة القدس، فما من قوة مهما بلغ جبروتها تستطيع أن تقف في وجه الجماهير الغاضبة وقد أثبت التاريخ ذلك وفي أكثر من شاهد، وإن كان ترامب وإدارته قد أمّنو مكامن الخطر المتوقعة فأنّى لهم إسكات الشعوب الثائرة..!