بات مألوفًا مشهد الصغار وهم يقفون في طوابير طويلة حاملين “الحِلل” علهم يحصلون على القليل من شوربة العدس أو الأرز بالصلصة أو المكرونة أو غيرها ما يتوفر في التكايا الخيرية التي انتشرت في شمال وجنوب القطاع.
تكايا الخير كما يسميها الغزيون ظهرت بداية في جنوب القطاع بفعل نزوح أكثر من مليون شخص وحدوث أزمة في توفير الطعام والحبوب اللازمة للأسر النازحة، فكانت التكايا ملاذًا لهم، وبتبرع من أهالي الخير لا سيما العرب في دول الخليج أو أوروبا عبر إرسال مبلغ من المال.
قرب مراكز الإيواء ووسط الخيام في المنطقة الوسطى والجنوبية، تفوح من بعض المحال أو الخيم المخصصة للطبخ وكتب على بابها اسم المتبرع، رائحة الطعام الزكية، وتسمع ضجيج المطبخ وصوت غليان الطعام في القدور المعدنية الكبيرة، أما عن المحتاجين الذين يصطفون أطفالًا ونساءً لم يكترثوا لوضعهم الاجتماعي أو أن يلتقط لهم أحد صورة لتوثيق التوزيع، فالجميع تبدو عليه علامات الاستسلام وعدم الاكتراث لشيء إلا سد رمق الصغار بما يتوافر من طعام.
ثقافة التكايا انتشرت في القطاع بفعل المجاعة
بعد انتشار تكايا الخير في الجنوب لتوافر القليل من الحبوب كالأرز والمكرونة ومعلبات الفاصولياء والبازلاء، عكس شمال القطاع الذي يخلو من المواد الغذائية بفعل حصاره، لم يستسلم المواطنون هناك فبحثوا عن عشبة “الخبيزة واللسان والقريص” كما فعل يوسف البراوي – 41 عامًا – وراح يطبخها بمساعدة زوجته وتوزيعها على الجيران.
يخبر “نون بوست” أنه يعيش في حي التفاح شرق مدينة غزة، نزح معظم جيرانه وبقي البعض رفقة كبار السن، فكان يجمع وزوجته وأطفاله الخبيزة من الأراضي المحيطة ببيته ثم يطهوها على الحطب ويوزع على الجيران ومن يمر بابه، فكان طهوه يعجبهم، حتى جاءه أحد رجال الأعمال في منطقته وطلب منه طبخ ما هو متوافر في السوق من خضار وحبوب، رغم أن الأسعار مرتفعة جدًا.
وذكر البراوي أن الصغار ينتظرونه في ساعات الصباح الباكر وهم يحملون “الطناجر” ليحصلوا على نصيبهم من “الطبيخ” وطيلة الوقت يراقبونه، وبمجرد أن ينتهي يصرخون “عمو عبي لي”، “عمو حط كتير، إخواني كثر”.
ويشير إلى أنه كما الصغار يحصل على نصيبه من الطعام، فهو لم يستطع أيضًا الحصول على راتبه الشهري لقصف البنوك في شمال القطاع، عدا عن أنه لا يتقاضى أي مبلغ مادي مقابل طهو الطعام، فقط يأخذ حاجة صغاره مما يصنعه يوميًا.
ولفت البراوي إلى أن عمل التكية كان نشطًا في رمضان، لكن بعد انتهاء الشهر الكريم توقف كثيرًا، ولم يعد بمقدوره إطعام من يطرق بابه، فهو مثلهم يحتاج إلى المساعدة.
وفي ذات السياق يقول المختص في الشأن الاقتصادي، أحمد أبو قمر، والذي يسكن مخيم جباليا شمال قطاع غزة، إن ابنه الذي لم يتجاوز 8 أعوام، يستيقظ من نومه ثم يحمل “الطنجرة” ويخرج ليحجز له مكانًا في الطابور، دون أن يطلب منه ذلك، فيعود بالقليل من الأرز والشوربة، لافتًا إلى أن التكايا أصبحت ثقافة لدى المواطنين في قطاع غزة دون تردد مقارنة في الماضي.
وأوضح أن فكرة التكايا في قطاع غزة قديمة حديثة، فقبل الحرب كانت موجودة من باب المحافظة على الإرث الإسلامي، بينما في الحرب وجدت بسبب المجاعة التي تسبب بها الاحتلال وعدم مقدرة المواطنين شراء احتياجاتهم حتى لو توافرت في الأسواق.
ويشير أبو قمر إلى أنه في الحرب بات الجميع سواسية، فميسورو الحال كما الفقراء باتوا يصطفون في طوابير للحصول على “طعام” أو حتى استلام كابونة إغاثية، لافتًا إلى أنه في السابق كان أشد الناس فقرًا هم من يطرقون باب التكايا وعلى استحياء، بينما في الحرب دفع الجوع النازحين للبحث عن لقمة تسد رمقهم.
وأكد أن التكايا أصبحت ثقافة لدى الصغار قبل الكبار لتأمين قوت يومهم، مطالبًا أهالي الخير بالتركيز على إنشاء المزيد من التكايا شمال القطاع بسبب قلة الأموال لدى المواطنين وانعدام المواد الغذائية بشكل شبه كامل، رغم توافر القليل من الخضراوات في الأسواق، لكن بسعر مرتفع، ما يجعل المواطنون يعزفون عن الشراء والتزاحم أمام التكايا.
وفي المناطق الجنوبية، كما تظهر صور تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يصطف عشرات المواطنين أمام الخيم التي يطهو داخلها حمادة شقورة، وهو صانع محتوى يتعلق بالطعام قبل الحرب، لكن بعد نزوحه من شمال القطاع إلى الجنوب أصبح يعد من معلبات اللحمة الهامبرغر للصغار والسندوتشات المفضلة لهم قبل الحرب، وذلك إلى جانب التكية البسيطة التي يوزع من خلالها الأكلات السريعة التي يحضرها بما هو متوافر لديه من مواد غذائية.
وكما شقورة أيضًا ملك فضة – شابة لم تتجاوز 20 عامًا – تصلها أموال المتبرعين، فتشتري ما هو متوافر في الأسواق من لحوم وخضراوات وتوزعها على النازحين في الخيام، وفي كثير من الأحيان تطهو وتصنع الشاورما للصغار.
كيف تصل أموال المتضامنين إلى القطاع؟
وسط وجنوب القطاع دومًا تعلق على باب التكية عبارة “بتبرع من ..” ثم يحدد بلد المتبرع وغالبًا من البحرين والكويت وتحديدًا سيدات.
وصل “نون بوست” إلى إحدى المتبرعات وهي وفاء أبل من البحرين، لتحكي عن بداية تضامنها ودعمها لأهالي قطاع غزة.
تقول أبل: “وصلت عن طريق الإنستغرام لأشخاص ساعدوني في عمل تكايا لتوزيع الطعام على المحتاجين في الخيام”، مضيفة: “تعليقاتي على النشطاء وإعلاني عن استعدادي للمساعدة دفع العشرات خاصة من النساء للتواصل عبر الرسائل لطلب المساعدة، وكنت ألبي طلباتهم بجمع الأموال من الأهل والأصحاب”.
وتوضح أن ما تفعله وصديقاتها من دعم مادي للنازحين يعتبر جهادًا بالمال: “هم يجاهدون بالدم، ونحاول تقديم شيء يسير لهم”، وأكدت أنها ستستمر في دعم النازحين وخاصة النساء حتى تتحسن أوضاعهن، داعية جميع العرب والمسلمين إلى مؤازرة الغزيين ماديًا.
وتعمل أبل في الوقت الراهن على تطوير مساعدتها للنساء في جنوب القطاع عبر شراء خيام لهن خشية اقتحام مدينة رفح.
ولم تقتصر مساعدة أبل وصديقاتها على النساء في قطاع غزة، بل ودعم من خرجن إلى مصر وقت الحرب، حيث يجمعن الملابس الجديدة أو المستعملة ومن ثم غسلها وإرسالها إلى القاهرة ووضعها في مكان يعلن عنه لتذهب الغزيات الناجيات من الحرب ليتسلمن حاجتهن من ملابس، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي السيئ.
وبعد أكثر من مئتي يوم على حرب غزة، لا يطمع النازحون في الخيام سوى للعودة إلى بيوتهم، بدلًا من الوقوف في طوابير التكايا للحصول على القليل من الطعام، ما يسد رمقهم هو الحياة الآمنة والعمل دون طرق أبواب الخير، فالغزي المعروف بكرمه أكثر ما يثقل عليه هو أن يمد يده ويشعر بالعجز أمام عائلته وصغاره.