الأحداث المذكورة تالياً ليست نصّاً سينمائيّاً أضنى الكاتب فيه ليلَه ليخرج بهذه الحبكة والكثير من مشاهد “الآكشن” وحلقات المؤامرات والأسرار المتشابكة، بل هذا الواقع الذي أسقط القدس في ساعات معدودة.
الجيش المصري المُنهك..
يشهد الفريق أول محمد فوزي القائد العام للجيش المصري بعد حرب 1967 في مذكّراته، أنّه في الأعوام الأربعة السابقة لحرب 1967 لم يتلقَ الجيش المصري أيّ نوع من التدريب الجادّ للاستعداد للمعركة الفاصلة وخاصة لانشغال قوات الدولة المصرية في اليمن، والخلاف على السلطة كان في أشدّه بين تيّار جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر، حتى استقرّت الأمور على أن يكون القائد العام للقوات المسلّحة المصريّة هو المشير عامر كمسؤول عن تدريب القوات المسلحة وتخطيط وإدارة العمليات.
في حين يتولّى شمس بدران وزارة الحربية كمسؤول عن شؤون الضباط من ترقية وتعيينات، أمّا سلاح الجوّ المصريّ فكان يترأسه الفريق محمد صدقي محمود والغريب أنّه في عام 1962 اتخذ مجلس الرئاسة المصري قراراً بعزل قائد القوات الجويّة الفريق محمد صدقي محمود بسبب تأخره في إرسال إمدادات لقوات اللاذقية عام 1961 التي بقيت تقاوم الانفصال ، إلّا أنّ هذا الرجل ذاته يترأس السلاح الجوي في حرب 67.
أمّا مسؤوليات جمال عبد الناصر فقد انحصرت في التوقيع على ترقيات الفريق والفريق أول فقط، أما باقي شؤون القوات المسلحة فكانت تصدر ويصدّق عليها المشير عبد الحكيم عامر ووزير الحربية شمس بدران، كان الجيش المصريّ منقسماً في ولائه بين عبد الناصر والمشير عامر وكان الضباط لا يمتثلون إلى أيّة أوامر إذا لم تكن تحمل توقيع شمس بدران صاحب المقولة الشهيرة عنه: “كنتُ لو وقّعتُ على ورقة لحمة فستصبح قانوناً”.
دور الموساد في إضعاف مصر تمهيداً لحرب 67..
سعى الكيان الصهيوني إلى إضعاف الاقتصاد المصري من خلال إرهاق مصر في حرب اليمن التي شاركت فيها إلى جانب الثوّار، وقد كشف رئيس الموساد الأسبق “شبتاي شافيت” في ندوة عقدها عام 2000، أنّه أصدر أوامره لضبّاط الموساد بمساندة قوات الإمام بدر لاستعادة الحكم والإطاحة بالثوار في عام 1962، وبالفعل اجتهد الموساد بإمداد أنصار بدر بالأموال والسلاح بل وتمّ إرسال العسكريين الصهاينة لتدريب تلك القوّات؛ لتحارب بالنيابة عن الكيان الصهيوني الجيشَ المصريّ على أرض اليمن، فما يقارب من ثلث أفراد الجيش المصريّ كانت تقاتل في اليمن.
كان حافظ الأسد يحشد المال والمدافع لتحويل الأنظار إلى جبهة القوات الصهيونيّة الجنوبية
ويعلّق شافيت “بأنّ هذه الحرب هي التي ساعدت إسرائيل على إلحاق الهزيمة بالجيش المصريّ في عام 1967، واستطاع عملاء الموساد المنتشرون في اليمن آنذاك تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول قدرات الجيش المصريّ، ويذكر شافيت أنّ من بين أشهر عملاء الموساد آنذاك “باروخ مرزاحي” اليهودي المولود في مصر والذي تمّ اعتقاله في عام 1967 في اليمن، كانت مهمة باروخ رصد القوات المصرية في اليمن وإرسال تقارير عن حركة السفن والملاحة من وإلى البحر الأحمر.
نصب الفخ لتوريط مصر في حرب 67..
يكشف المؤرخ الأمريكي “مايكل أورين” في كتابه (ستة أيام من الحرب) عن وثيقة أفرجت عنها الإدارة الأمريكية عام 2001، تحوي هذه الوثيقة تفاصيل هامّة حول تخطيط روسيا لضرب السلاح النوويّ للكيان الصهيونيّ الداعم للنفوذ الأمريكي في المنطقة ممّا سيضعف النفوذ الروسيّ هناك، وعليه أرسلت روسيا طائرات حديثة إلى مصر مع طاقم طيّارين روس لممارسة تدريب مكثّف على كيفية تدمير مفاعل ديمونا، إلّا أنّ حافز الهجوم على الكيان الصهيونيّ لم يكن متوافراً وهنا جاء الدور الروسيّ الاستخباراتي.
قامت روسيا وفقاً للوثيقة بتمرير معلومات إلى سوريا تفيد أن الأقمار الصناعية الروسية قد رصدت حشود للقوات الصهيونيّة على طول الحدود السوريّة، وبحسب اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا وجّهت مصر إنذاراً إلى الكيان الصهيونيّ بضرورة الانسحاب فبادرت القوّات بنفي تواجد قواتها هناك، فعاودت روسيا الكرّة بتأكيد تواجد حشود للكيان الصهيونيّ على الحدود وتكرر نفي القيادة الصهيونيّة، فأدرك الكيان الصهيونيّ بغية روسيا وخطتها والتي تحقق مراد القيادة الصهيونيّة كذلك فأرسلت بعض القوات العسكرية الصهيونية بالفعل إلى الجبهة السورية وأصبح تواجدهم منظوراً.
الفخ الذي حذّر منه الملك حسين بن طلال..
في زيارة لوزير الخارجية المصرية محمود رياض إلى الأردن، صرّح له ملك الأردن حسين بن طلال آنذاك بأنّ سورية تنصب فخاً بتسخين الحدود لدرجة تدفع فيها مصر إلى التدخّل، وأنّ حربا قادمة سيسقط فيها عبد الناصر وتدمّر الأردن، وكان جواب رياض: “إذاً على الأردن القبول بنشر قوات سعودية وعراقية على أراضيها وفقا لخطة القيادة العربية المشتركة”، ولكن الملك حسين رفض قائلا: “ليس قبل أن يتخلص عبد الناصر من قوات الطوارئ الدولية وينشر جيشه في سيناء”.
كان إغلاق المضائق بمثابة إعلان الحرب من عبد الناصر
الفخ الذي حذّر منه الملك حسين هو ما جاء في اللقاء السري ّالذي كشفت عنه وكالة المخابرات الأمريكية CIA مع رجل أعمال سوري اسمه “فريد عودة” له صلات وثيقة ببريطانيا، أكّد أنّ حافظ الأسد يحشد المال والمدافع لتحويل الأنظار إلى جبهة القوات الصهيونيّة الجنوبية ممّا سيتيح له الإحاطة بصلاح جديد ونورالدين الأتاسي، وتجنّب وقوع انقلاب سنّي تدعمه مصر في سورية.
صنّارة السمكة..
في زيارة لأنور السادات قبيل الحرب إلى موسكو يؤكد له الرئيس السوفيتي “بودغورني” : “يجب ألا تفاجؤوا ستكون الأيام القليلة القادمة مصيرية وسوريا سوف تواجه وضعاً صعباً ولسوف نساعد سوريا في ذلك الوضع الصعب”.
وبعد إشباع الجانب المصريّ بالتطمينات الروسيّة ووصول التقرير الروسيّة وخاصة من الكرملن تحذّر من حشود القوات الصهيونيّة التي تنوي شنّ هجوماً واسعاً على سوريا، طالب عبد الناصر بسحب قوات الطوارئ الدولية، وعلى الفور استجاب مجلس الأمن وأغلقت مصر مضائق تيران. كان إغلاق المضائق بمثابة إعلان الحرب من عبد الناصر.
من الجدير بالذكر بأنّ الوثيقة تصرّح بالضوء الأخضر الذي منحته أمريكا للكيان الصهيونيّ ببدء الهجوم، حيث توثّق التقاء رئيس جهاز الموساد “مائير آميت” مع الرئيس الأمريكي “جونسون” والذي سأله: “في حال هاجمتم العرب الآن فكم سوف تتحمل هزيمتهم معكم؟” فأجاب “آميت”: ما يقارب عشرة أيام، فكان رد “جونسون” : فماذا تنتظرون إذاً؟”
الشِباك الأمريكيّة من خلف الكواليس..
كشفت ملفات المخابرات الأمريكية أنّه وفي 1/6/1967 كان الجنرال مائير آميت مدير المخابرات الصهيونيّة في واشنطن يجتمع مع نظيره الأميركي ريتشارد هولمز في مكتبه، في اليوم التالي تلقى الرئيس الأميركي لندن جونسون مذكرة من هولمز فيها أنّ آميت كرّر أنّ الكيان الصهيونيّ لا يريد شيئاً من أميركا عدا الإستمرار في توريد الأسلحة المتفق عليها وتوفير الدعم الدبلوماسي ومنع الإتحاد السوفيتي من دخول الحلبة وبيّن أنهم يمتلكون كل ما يحتاجون إليه.
وفقاً إلى “د.هيليل كوهين” الباحث في العلاقات العربية-“الإسرائيلية” والمطّلع على تلك الوثائق، فإنّ الكيان الصهيونيّ طلب الإذن من الولايات المتحدة لشنّ الهجوم وحصل على ضمانات منها بأنها سوف تدعمه من وراء الكواليس عن طريق توفير الأسلحة العسكرية، سواء قبل الغزو أو خلال الهجمات ضد بلدان أخرى إضافةً إلى الدعم الدبلوماسي.
كانت بعثة أمريكية تستخدم مطار “المفرق” في تدريب طيّاريين أردنيين لقيادة طائرات (ستار فايتر)، قبل الهجوم بست وثلاثين ساعة كانت تلك الطائرات قد رحلت والمدربون الأمريكيون غادروا بها إلى قاعدة خلف الأطلنطي في تركيا
برقية استخباراتيّة لو وصلت لقلبت الموازين..
بحسب شهادة الديبلوماسي الروسي “فالين تباين” أحد أعضاء مكتب الاتحاد السوفيتي لشؤون الشرق الأوسط في عام 1967 و مستشار الشؤون الدولية منذ عهد ستالين، أنّه وقبل الحرب بأسبوع أرسل قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية السوفيتية مذكرة بناء على معلومات الاستخبارات السوفيتية إلى المكتب السياسي السوفيتي تفيد بأنّ الكيان الصهيونيّ سوف يشنّ حرباً على العرب بغتةً لن يصمد فيها العرب أكثر من عشرة أيام متخذة من إغلاق مضائق تيران بقرار جمال عبدالناصر ذريعة، إلّا أنّ الغريب كان غياب جميع أعضاء المكتب السياسي السوفيتيّ وقت وصول البرقية وذلك لحضورهم مناورات عسكرية بحرية بعيداً عن موسكو، ولم ير الموظفون في المكتب ضرورة إرسال البرقية إلى أعضاء المكتب. يعتقد “فالين تباين” أنّ تجاهل هذه البرقية كان مُتعمّداً، وأنّ اتخاذ إجراء عسكري أو سياسيّ روسيّ حيالها كان سيقلب الموازين لصالح العرب.
يؤكد السفير عبد الرؤوف الريدي والذي عمل في عام 1967 في مكتب وزير الخارجية محمود رياض، بأنّ وزير الحربية المصري شمس بدران في لقائه مع وزير الدفاع السوفيتي المارشال “غريتشكو” قبيل العدوان الصهيونيّ أكّد الأخير لبدران أنّ في حال اعتداء الكيان الصهيونيّ على مصر فإنّ الاتحاد السوفيتي سوف يتدخّل إلى صالح مصر، ونقل بدران هذه الرسالة إلى المشير وانتشرت بين أعضاء القيادة السياسية المصريّة العليا، من جانبه ينفي “فالين تباين” أنّ هنالك رسالة بهذا التصريح مرّرها المارشال “غريتشكو” إلى مصر.
عبد الناصر يعلم موعد الضربة.. لكن مَن أخفاها عن الجيش المصري؟
يؤكد أمين هويدي الذي تولّى رئاسة جهاز المخابرات المصرية بعد هزيمة 67، بأنّ جمال عبد الناصر في اجتماع عالي المستوى مع القيادات العسكريّة العليا للجيش المصريّ في تاريخ 2/6/1967 قد حدّد بأنّ الكيان الصهيونيّ سيبدأ هجومه العسكريّ خلال يومين أو ثلاثة وسيبدأ الهجوم بضربة جوية. يقول الفريق صلاح الحديدي قائد الفرقة المركزية في سيناء، أنّ هذه المعلومات لم تخرج من قاعة الاجتماع ورفضت القيادات العسكرية إيصالها إلى الجنود.
أمريكا على علم بموعد الهجوم – أكذوبة الحياد..
كانت بعثة أمريكية تستخدم مطار “المفرق” في تدريب طيّاريين أردنيين لقيادة طائرات (ستار فايتر) وتتكون البعثة من 100 أمريكياً ، عشرة منهم من مدربي الطيران وكانت معهم خمس طائرات كانت طائرات ستار فايتر، قبل الهجوم بست وثلاثين ساعة كانت تلك الطائرات قد رحلت والمدربون الأمريكيون غادروا بها إلى قاعدة خلف الأطلنطي في تركيا ، ولحقهم باقي الفنيين الأمريكيين قبل اندلاع القصف.
المصريين غيّروا ترددات شيفرتهم الاسلكية قبل يوم واحد فقط من الهجوم
الهجوم الأخطر المسكوت عنه..
وفقاً لشهادة أمين هويدي فإنّ هجمة جويّة صهيونيّة شُنّت في الساعة السابعة والربع من صباح 5/6/1967 من قبل طلائع القوات الصهيونيّة في منطقة “أم بسيس”، واحتلت موقعاً متقدماً داخل الحدود المصريّة وجرت اشتباكات وسقط جرحى وقتلى، وطوال مدة الهجوم التي استمرت قرابة 45 دقيقة لم تنطلق قوّات الدفاع الجويّ المصريّ إلى الموقع رغم وصول التبليغ إلى القيادة العسكرية المصريّة في سيناء، ينفي اللواء عبد المحسن مرتجى قائد جبهة سيناء أنّ هجوم “أم بسيس” قد وقع!! غير أنّ أمين هويدي وعدّة قيادات عسكريّة تؤكد حدوث الهجوم وأنّ تأخّر القوات الجوية المصريّة بالمبادرة بردّ الهجمة كان عاملاً هاماً في نجاح القوّات الصهيونيّة في تسديد الضربة الجوية القاصمة المفاجئة في الساعة الثامنة وخمس وأربعين دقيقة.
كان الطيارون الصهاينة يمتلكون معلومات حول مربض كل طائرة نفاثة مصرية مع اسم ملّاحها ورتبته وصوته كذلك، والتي حصلوا عليها عن طريق الجواسيس فقد حصل الضابط “وولف غاثغ لوتز” الألماني المولد على تفاصيل حيويّة من القادة المصريين الذين صادقهم إلى أن أُلقي القبض عليه في 1964، وهناك معلومات تمّ الحصول عليها من رتب رفيعة المستوى في الجيش المصريّ وكذلك من المدلّك الشخصي لجمال عبد الناصر.
إشارة عجلون ولغزها الغامض..
كانت محطّات الرادار الأردنية على جبل عجلون هي الأكثر تقدماً في الشرق الأوسط، وقد رصدت في الساعة 8:15 صباح 5/6/1967 أعداداً من طائرات صهيونيّة على غير المعتاد فأرسلت إشارة لاسلكية مرمزة “عنب” وتعني الحرب إلى وزير الدفاع شمس بدران في القاهرة وبقيت مكانها ولم يتم تمريرها، ويسوّغ شمس بدران ذلك بأنّ المصريين قد غيّروا ترددات شيفرتهم قبل يوم واحد فقط من الهجوم!!
وعندما أظهر الرادار فجأة بأنّ الطائرات تحوّلت إلى سيناء أبرقت إشارة عجلون الكلمة المرمزة مراراً عدّة، فوصلت الرسائل وتمكنوا من قراءتها لكنّ الغريب أنّ وزير الدفاع المصري كان قد ذهب إلى النوم قبل الهجوم ببضع ساعات وأصدر أوامره الصارمة بعدم الإزعاج، وكذلك اللواء مسعود الجنيدي المسؤول عن فك رموز الشيفرات، والجنرال جمال عفيفي رئيس عمليات سلاح الجو.
وهنا هرعت المخابرات الجويّة بدورها إلى إرسال تقارير مكثفة حول الهجوم الصهيونيّ لكنّ الضبّاط المتواجدين في مقرّ القيادة العليا أهملوها والسب في ذلك يعود إلى ولائهم للمشير عامر وعدم ثقتهم بالمواليين لجمال عبدالناصر في سلاح الجوّ فلم تمرّر التقارير.
يؤكّد اللواء الطيّار عبد الحميد الدغيدي: “لو وصلت إشارة عجلون لتغيّر الموقف”. فقد كانت الطائرات المصرية النفّاثة رابضة على ساحات مكشوفة في المطارات بدون حتى أكياس رمل كثيرة حولها؛ فاشتعلت المطارات المصرية بسرعة البرق بينما القيادات العليا العسكرية المصريّة غائبة.
إذا كان عبدالنّاصر يعلم بدقّة موعد الضربة الأولى فلماذا لم يشرف بنفسه على جاهزية القوات المصريّة ولماذا لم يتصدّى للهجوم، وقتلَ عنصر المفاجأة للجيش الصهيونيّ؟
إنّ إشارة عجلون والغموض الذي يكتنفها يملأ صفحات مذكّرات القادة والضبّاط العسكريين الذين تناولوا النكسة في كتبهم، يُجمع الكلّ على أنّ الإشارة قد وصلت القاهرة، لكن لماذا لم تشنّ القوات الجويّة هجومها!
لماذا لم تُطلق مضادات الطيران المصريّة دفاعاتها!!
قبل الهجوم بيوم أصدر جمال عبد الناصر أمراً إلى المشير عبد الحكيم عامر بضرورة التحليق فوق سيناء في 5/6/1967 في الساعة الثامنة صباحاً ومسح المنطقة جويّاً لتقديم تقرير حول الوضع العسكريّ هناك، لذا فإنّ جميع البطاريات المصرية المضادة للطيران والبالغ عددها 100 ومواقع صواريه سام -2 المضادة للطيران والبالغ عددها 27 لم تتلقَ أيّة أوامر بإطلاق النار من المشير عامر حتى لا تخطيء وتصيب طائرته التي كانت تحلق في تلك الأثناء في السماء.
لم تستطع طائرة المشير الهبود لمدة 90 دقيقة وهي تنتقل من مطار مشتعل إلى آخر حتى هبطت في مطار القاهرة الدولي حيث كان ينتظره الجنرال محمد أيوب ضابط الارتباط لسلاح الجو التابع لعامر وسحب مسدسه ظنّا منه أنّ انقلاباً يحدث على الزعيم، وهنا تدخّل اللواء صدقي محمود وصاح فيهم “أيها البلهاء.. إسرائيل تهاجمنا”.
انطلق عامر إلى مقرّ القيادة العليا وطلب تأمين غطاء جويّ لاحتلال الساحل حيث القوات الصهيونيّة فيما يعرف بـــ (عملية التمساح) واتصل بدمشق وبغداد لتنفيذ عملية (رشيد) وهي قصف المطارات الإسرائيلية على الفور، فاعتذر السوريون مبررين اعتذارهم بأنّ طائراتهم مشغولة بمناورات تدريبية، أما العراقيون فاشتكوا من تأخيرات فنية.
هل كان عبد الناصر شريكاً في الهجوم؟
وفقاً لوثائق نشرتها إسرائيل في عام 2011، ونشرت بعضا منها صحيفة “ايديعوت أحرنوت” بأنّ حديثا مسجّلاً جرى بين حسن التهامي نائب رئيس الوزراء المصري في عهد السادات وبين موشيه ديّان في المغرب في وثيقة معروفة بــــــ (ميد)، يرد في الوثيقة سؤال التهامي لديان: “هل كان عبد الناصر شريكا في الهجوم؟” وعندها رد ديان ضاحكاً: “ولماذا تسأل هذا السؤال الغريب؟”، رد التهامي عليه: “لأنه قام بإرسال عبد الحكيم عامر بأمر مباشر منه إلى الجبهة بطائرة عامودية كانت فوق سيناء في تمام الساعة الثامنة صباح الخامس من يونيو 1967 أيّ بالتحديد في وقت بدء العمليات الحربية الإسرائيلية”. وهنا يشير التهامي إلى نيّة عبدالناصر بالتخلص من عامر.
الموقف المصريّ العسكريّ قبيل صدور قرار الانسحاب لم يكن ميؤوسا منه، وأنّ القوات المصريّة البريّة كانت في موقف جيد للغاية، فغالب هذه القوات في المحاور المختلفة لم تكن قد اشتبكت مع العدو بعد
يعلّق بعض الصهاينة على هذه المحادثة بأنّ التهامي كشف وجود عميل صهيونيّ على ارتباط بعبد الناصر يعلم يقيناً موعد الهجوم باليوم والساعة.
وبالرغم من ذلك يبقى السؤال معلّقاً، فإذا كان عبدالنّاصر يعلم بدقّة موعد الضربة الأولى فلماذا لم يشرف بنفسه على جاهزية القوات المصريّة ولماذا لم يتصدّى للهجوم، وقتلَ عنصر المفاجأة للجيش الصهيونيّ؟
كان المصدر الوحيد آنذاك للمعلومات أثناء الهجوم الصهيونيّ هو بيان الحكومة المصرية الذي نشرته الإذاعات ومفاده:
“بدأت إسرائيل هجومها اليوم الساعة التاسعة صباحاً بضربة جوية ضد القاهرة، وجميع أنحاء الجمهورية العربية المتحدة، تصدّت لها طائراتنا وصدّت الهجوم”. وهنا خرجت الحشود العربية هاتفة بالنّصر والتحرير.
الانسحاب الطعنة الصمّاء..
تساءل عبد الحكيم عامر أكثر من مرة أمام السفير السوفيتي في القاهرة خلال الحرب: “أين الوعود التي قدمها المارشال غريتشكو لشمس بدران؟ إنّ الأمريكيين قد تدخلوا في المعركة إلى جانب إسرائيل”. إلّا أنّ السفير كان يطالب الجانب المصريّ بإثبات التدخّل الأمريكي حتى يتمكّن من نقل الرسالة إلى موسكو، وأنّها آنذاك يمكن لها أن تتدخل. إلّا أنّ رفض الجانب الروسيّ للتدخّل لم يكن السبب الحقيقي وراء انهزام القوى الدفاعية المصريّة.
يؤكد أمين هويدي بأنّ الموقف المصريّ العسكريّ قبيل صدور قرار الانسحاب لم يكن ميؤوسا منه، وأنّ القوات المصريّة البريّة كانت في موقف جيد للغاية، فغالب هذه القوات في المحاور المختلفة لم تكن قد اشتبكت مع العدو بعد، وأنّ الاحتياطيّ العام من المدرعات كان سليماً، وحتى ظُهر 6/6/1967 كانت الخطوط الدفاعية سليمة فيما عدا بعض الاختراقات البسيطة والتي يمكن صدّها، ويروي محمد فوزي أنّه في الساعة الخامسة من صباح 6/6/1967 طلب إليه المشير عامر ترتيب خطة الانسحاب من سيناء الأمر الذي صدمه، لكنّه عمل على الخطة هو والفريق أنور القاضي واللواء التهامي في غرفة العمليات وبعد عدة ساعات أخبروا المشير بأنّ عملية الانسحاب سوف تتمّ في أربعة أيام وثلاث ليال، وهنا جُنّ المشير وصاح بهم: “أنا أعطيت أمر الانسحاب خلاص”.
كانت القيادات العليا المصرية في حالة هيستيرية بعد قرار الانسحاب الفوضوي
ثم يروي محمد فوزي صدمته عندما وصلته الأخبار من سيناء عن طريق قيادة القناة أنّ المشير قد أمر قوات العريش بالانسحاب بالأسلحة الشخصية فقط في ليلة واحدة، والغريب أنّه لا يمكن وصول هذه المعلومات عن قرار الانسحاب بعد ظُهر يوم 6/6/1967 إلّا إذا كان المشير قد أصدر قراراه بالفعل قبل الظهر.
ومن المعروف بأنّ هذه القرارات لا تتمّ مشافهة بل مكتوبة وعلى القائد المنفذ تدقيق قرار القائد الأعلى شخصياً، ممّا دفع إلى الانسحاب الفوضوي وانهيار معنويات الجيش ، يؤكد محمد فوزي بأنّ اندحار القوات المصريّة كان بيدها عندما انسحبت بأوامر المشير دون قتال، وفي مساء 7/6/1967، كانت قد وصلت إلى غرب قناة السويس، كانت المشهد مخيفاً كما يصفه محمد فوزي فالقوات المصرية التي أُمرت بالانسحاب دون قتال لم تكن تعرف ما السبب وقامت بإلقاء أسلحتها في القناة وخلعت عنها الزي العسكريّ.
يصعقنا أمين هويدي في كتابه بمفاجأة أنّ القوات الجويّة المصريّة بعد الضربة الأولى لم تفقد قوتها، وبشهادة الفريق صدقي محمود قائد الدفاع الجوي أنّ القوات الجويّة كانت تستطيع تنفيذ مئات الطلعات الجويّة، وهذا ما يؤكده كذلك اللواء الدغيدي قائد قوات سيناء الجويّة وأنّه ألحّ أكثر من مرة على قائد الجيش الميداني استخدامها.
وقف إطلاق النّار.. رصاصة الرحمة
كانت القيادات العليا المصرية في حالة هيستيرية بعد قرار الانسحاب الفوضوي، وفي ليلة 8/6/1967 اعتزل المشير القيادة وتركها لشمس بدران كما يخبرنا محمد فوزي، الذي حدّثه بدران ليلتها بأنّ مصر قبلت قرار وقف إطلاق النّار وأنّه سيقدم استقالته هو وعدد من القيادات العسكريّة، إلّا أنّ موشيه ديان استمرّ بحربه على المواقع السورية من جبل الحرمون، وكان المضحك المبكي أنّ الصواريخ التي كانت الطائرات الإسرائيلية تطلقها على سوريا هي من المخازن المصريّة التي استولى عليها الجيش الإسرائيلي.
وفي 9/6/1967 بدأت الدفعات الأولى من الأسلحة السوفياتية بالوصول قرب القاهرة فانتظر الاتحاد السوفيتي حتى استقرار القوات الإسرائيلية على أراضي سيناء وإعلان وقف إطلاق النّار، وقد كان أفراد الجيش المصريّ حينها تمزقّهم الهزيمة، ويروي عبدالناصر للزعيم السوداني محمد محجوب: ” كان هناك أربعمائة جندي بين الإسماعيلية وبيني فقط، وكان بإمكان الإسرائيليين دخول القاهرة لو شاءوا”. ووفقاً لمصادر استخباراتية بريطانية وثقت بأنّ الدفاعات الظاهرة على طول الطرق المؤدية إلى القاهرة مؤلّفة من حواجز رملية عديدة وخنادق لا تشكل أيّة خطورة أمام جيش متقدّم إلّا إذا كان جيشاً مصريّاً منشقاً.